[email protected]
الحوار المتمدن
– العدد: 1593 – 2006 / 6 / 26
مارغريت دوراس
إلى الياس خوري
سوف لن تنظر للكاميرا. إلاً إذا طلب منك ذلك.
ستنسى
ستنسي
بأن ذلك هو أنت، سوف تنساه
أعتقد أنه من الممكن بلوغ هذا،
سوف تنسى الكاميرا أيضاً.
لكن خاصة ستنسى بأنه أنت. أنتَ.
بلى، أظن أنه بالإمكان الوصول لذلك،
على سبيل المثال، إنطلاقاً من مقاربات أخرى، من ضمنها الموت،
موتكَ أنت الضائع في موت سائد وبلا أسم.
ستنظر ما تراه. ولكنك ستنظر إليه حتماً.
ستحاول النظر إلى حد إنطفاء نظرك،
حتى عماه وعليك أن تحاول النظر إليه بالرغم من ذلك.
حتى النهاية.
تسألني : النظر إلى ماذا؟
أقول، نعم، أقول البحر، بلى، هذه هي الكلمة،
أمامك، وتلك الحيطان أمام البحر، تلك الإختفاءات المتلاحقة،
ذلك العصفور تحت الريح الأطلسية.
لتصغي. أعتقد أنه حتى إذا لم تنظر إلى ما هو أمامك،
فأنه سيظهر على الشاشة نفسها.
وقد تفرغ الشاشة نفسها.
ما ستراه هناك، البحر، الواجهات الزجاجية،
الجدار، البحر خلف الواجهات، قد يكون ما لم
تره أبداً، ما لم تنظر إليه أبداً.
ستفكر بأن ما سيحدث لن يكون إعادة، بل فعل تدشيني
كما هي علي حالها حياتك الخاصة في كل لحظة من لحظات ديمومتها.
وعبر كل الموج الملياري من البشر، بأنك أنتَ بالذات من يقف لجانبي في هذه اللحظة
من عمل الفيلم.
ستفكر بأنني أنا من أختارك. أنا. أنتَ. أنتَ بكاملك في هذه اللحظة بالقرب مني، هذا
هو كل ما في الأمر، بغض
النظر عما تقوم به، مهما كان بعدك أو قربك من أملي.
ستفكر بنفسك، لكن مثلما تفكر بهذا الجدار،
كما تفكر بالبحر الذي لم يلد بعد، بهذه الريح وذلك النورس المنفصلين عن بعضهما
للمرة الأولى، كما
تفكر بهذا الكلب الضائع.
ستفكر بأن المعجزة لا تكمن في ذلك التماثل الظاهري لكل جزيئة من ذلك الموج
الملياري المتواصل،
ولكن في الفارق الذي لا يمكن إختزاله، الفاصل لتلك الأمواج عن بعضها، والذي يفصل
البشر عن الكلاب،
والكلاب، عن السينما، الرمل عن البحر، الله عن هذا الكلب أو عن ذلك النورس الصامد
في وجه الريح، الفارق
الذي يفصل ماء عينيك الكرستالي عن كريستال الرمح الجارح للعين، ما يفصل الجو
الخانق لباحة هذا الفندق
التي يخترقها الوضوح المتألق والمتعادل للساحل،ما يفصل كل كلمة عن كل جملة، وكل
سطر عن كل كتاب، ما يفصل كل يوم عن كل قرن وعن كل أبدية ماضوية أو لاحقة عني وعنك.
خلال مرورك إذن لا بدً من أن تؤمن بملوكيتك التي لا تٌسلب.
ستتقدم. سوف تمشي مثلما تقوم بذلك عندما تجد نفسك لوحدك وتفكر بأن أحدهم ينظر
إليك، الله أو أنا، أو هذا الكلب على طول البحر، أو هذا النورس المأساوي بمواجهته
للريح، وحيداً أمام الشيء الأطلسي.
ما كنتٌ أرغب في قوله لك : تظن السينما أنها قادرة على إستيداع ما تقوم به في هذه
اللحظة. لكن أنتَ، من هنا وحيث ما ستكون، أينما كان ذلك، بأن تكون جزءً من الرمل،
أو الريح.
أو البحر، أو الجدار، أو العصفور، أو الكلب، أنتَ تدرك بأنه ليس بمقدور السينما
عمل ذلك.
دعك من هذا الأمر. أتركه.
تقدم.
سترى، بأن كل شيء سيتولد إنطلاقاً من تنقلك على طول الجدار، قرب عواميد الصالة،
تحرك، حرك جسدك الذي كنت تعتقد حتى هذه اللحظة بأنه طبيعي.
ستندار نحو اليمين وتواصل على طول الواجهات الزجاجية والبحر، البحر خلف الواجهات،
الواجهات وراء الجدار، النورس، والريح، والكلب.
لقد أنجزتَ ذلك.
أنتَ طول البحر، أنتَ طول تلك الأشياء المرزومة لندماج ضجته بضجة الريح.
على مديات واسعة أنها تتقدم نحوك، بإتجاه روابي الساحل. أنتَ والبحر، لا تشكلان
بالنسبة لي إلاً شيئاً واحداً، مادة واحدة، إلاً وهو دوري في هذه المغامرة. فأنا
أنظر لها كذلك. ينبغي عليك النظر مثلما أنظر أنا لها، من كل قوايً، بدلاً عنك.
لقد خرجب من حقل الكاميرا.
أنتَ غائب.
برحيلك حدث غيابك، لقد تمً تصويره مثلما جرى الأمر من قبل بحضورك
لقد نأت حياتك بنفسها بعيداً.
غيابك لوحده بقى، لا كثافة له أبداً حالياً، ولا أية إمكانية أن يشق المرء طريقه
عبره، أن ينهار من الرغبة.
ما عدت قائماً بالدقة في أي مكان.
ما عدت مٌفضلاً. لم يعد منك أي شيء هنا سوى ذلك الغياب العائم، الطائف، الذي يملأ
الشاشة، الذي يغطي لوحده، لم لا، خط من الـ “فار ويست”، أو هذا الفندق
المهجور، أو تلك الرمال.
ما عاد أي شيء يٌقدم غير الغياب الغارق في الندم والذي سيكون محروماً تماماً من أي
وريث لدرجة يكون فيها بمقدور المرء البكاء، لا تدع نفسك تنجرف بتلك الدموع، بهذا
العذاب.
كلا.
لتتابع نسيانك، لتتجاهل سيرورة كل ذلك وسيرورتك أنتَ. البارحة مساءً ، بعد رحيلك
النهائي، ذهبت إلى تلك القاعة في الطابق الأرضي والتي تطل على الحديقة، المكان
الذي دائماً ما كنت أحتمي به في شهر حزيران المأساوي، هذا الشهر الذي يفتحَ
الشتاء.
كنت قد كنست البيت، نظفت كل شيء وكأنني أقوم به قبل وداعي الجنائزي. كانت حياة
الكل شفافة، مبرئة، خالية من جميع الإشارات، ومن ثم قلت لنفسي : سأقوم بالكتابة كي
أشفي نفسي من كذب حب على وشك الإنتهاء. سأغسل أغراضي، أربعة أشياء، جميعها كانت
نظيفة، جسدي، شعري، ملابسي، وما يحيط بكل ذلك، بالجسد والملابس، هذه الغرف، ذلك
البيت، وتلك الحديقة.
ومن ثم بدأت بالكتابة.
كل شيء كان جاهزاً من أجل موتي. بدأت بكتابة ذلك الشيء الذي أعرف بالدقة أنه سيكون
من المستحيل عليك التنبؤ بسببه أو أن تلمح سيرورته، هكذا حدث الأمر. فأنا دائماً
ما أخاطب عدم فهمك. بدون ذلك، كما ترى، قد لا يكون ذلك جديراً بالعناء.
لكن فجأة لم تعد من أهمية لتلك الإستحالة من ناحيتك، لقد تركتها لك، ةلم أحتفظ
منها بشيء، لقد منحتك أياها، أمنيتي كانت في أن تحملها معك، أن تجعلها جزءً من
نومك، ذو الأحلام المتفككة بما قالوه لك عن السعادة – أعني بهذا التحجر إزاء سعادة
العشاق.
ثم عاد النهار، كالعادة، بدموعه، وإستعداده للتحول إلى كوميديا، ومن جديد حضرت
الكوميديا.
وعلى عكس الموت ذهبت نحو ذلك الرصيف في الحديقة وبدون إنفعال. قلت بصوت عال أسم
ذلك اليوم، الأثنين، عام ألف وتسعمائة وواحد وثمانين، الذي رحلت به نهائياً، في
ذلك اليوم المرعب بحرارته، وبأنني ظننت، نعم، أن رحيلك سيكون نهائياً.
أظن أنني لن أتألم فيما بعد من رحيلك. كل شيء، كالعادة، في مكانه، الأشجار،
الزهور، الظل المكور للبيت من فوق الرصيف، الساعة وتاريخ اليوم، ومع ذلك أنتَ
غائب. لم أفكر بأنه كان عليك أن تعود. حول الحديقة تحوم طيور قاطعة من فوق السطح
تصرخ بغية إلتحاق رفاقها بها. بعد ذلك كانت الساعة هي السابعة مساءً.
قلت في نفسي أنه كان بمقدوري أن أحبك. أعتقدت أنه لم يبق معك عندي إلاَ ذكرى
مترددة، لكن كلا، لقد أخطأت، بقيت سواحل حول العينين، هنا حيث يجري التقبيل، كما
يتمدد هناك فوق الرمال الدافئة، وتلك النظرة المركزة على الموت.
آنذاك قلت في داخلي لم لا. لم لا أقوم بعمل فيلم. حالياً ستكون الكتابة شيئاً
زائداً عن اللزوم. لم لا فيلم.
ثم أشرقت السماء. عصفور عبر الرصيف. بمحاذاة جدار المنزل وعلى طوله. كان يظن أن
البيت خالياً فأقترب للغاية منه إلى حد إصطدم فيه بزهرة، واحدة من تلك التي أطلق
عليها زهور مارسيليا. كان ذلك بمثابة حركة فظة، الوحيدة في الحديقة القائمة تحت
نور السماء. سمعت إندعاك الزهرة الذي سببه العصفور في خمائل تحليقه. لقد تحركت في
البدء وكأن الحياة قد دبت بها ومن بعد شيئاً فشيئاً عادة لتكون زهرة عادية.
بقيتَ أنتَ في حالة رحيل. وأنا عملت فيلماً عن غيابك. –
ستمر من جديد أمام الكاميرا. ستنظر إليها في هذه المرة.
أنظر إلى الكاميرا.
ستقوم الكاميرا الآن بالتقاط ظهورك ثانية في عدسة موازية لتلك التي تراك من
خلالها.
لا تتحرك. أنتظر. لا تندهش، سأقول لك ما يلي : ستظهر أنتَ ثانية في الصورة.
كلا، أنا لم أخبرك بهذا من قبل. نعم، سيبدأ العمل من جديد.
لديك سلفاً ماضي من خلفك، وخطة.
ها أنك قد شخت
الآن أنت في خطر. الخظر الأكبر الذي تواجهه في الوقت الحاضر هو أن تكون شبيهاً
لنفسك، أن تتماثل مع ذلك الذي مر في اللحظة الأولى التي دارت قبل ساعة.
لتنس من جديد.
لتنسى أكثر ثانية.
ستنظر لكل المشاهدين في الصالة، واحداً واحداً، ولكل منهم على حدة.
لتتذكر جيداً ما يلي : الصالة لوحدها هي العالم برمته وكذلك الأمر بالنسبة لك
أنتَ، أنتَ لوحدك. لا تنسى هذا أبداً.
لا تخاف.
لا أحد، لا أحد غيرك في العالم سوف يستطيع عمل ما ستقوم به أنت حالياً : أن تمر
هنا للمرة الثانية اليوم، وأنا لوحدي من يأمرك، أمام الله.
لا تبحث عن فهم لهذه الظاهرة الفوتغرافية، الحياة.
هذه المرة، ستموت أنتَ تحت نظري.
لن تنظر للجهاز، كما تنظر للبحر، بذات الطريقة التي تنظر بها للبحر والواجهات
والعصفور المأساوي في الريح والرمال الفولاذية مقابل الأمواج.
في نهاية الرحلة، سيكون على الكاميرا أن تقرر ما الذي كنتَ أنت تنظر إليه. أنظر.
الكاميرا لا تكذب. لكن لتنظر لها بإعتبارها مادة إيثارية قد أشرت عليها بنفسك،
وانتظرتها دائماً وكأنك عزمت على الوقوف أمامها بصلابة، وأن تشترك معها في معركة
الحياة أو الموت.
لتتظاهر وكأنك قد فهمت تلك اللحظة، حينما أحطتها بنظراتك، بأنها هي الكاميرا، التي
أرادت أولاً أن تقتلك.
لتنظر من حولك. على مد البصر ستتعرف على تلك الإمتدادات الساكنة. تلك السهول
المملطة بالحروب والفرح، سهول السينما تلك، ينظر بعضها للبعض، تتواجه.
لتستدير.
مر.
أنسى.
لتبتعد عن هذه التفصيلة، السينما.
سيبقى الفيلم على حاله. مختوم. أنت في آن مخفيٌ وحاضرٌ. حاضر عبر الفيلم وحسب.
أبعد من هذا الفيلم، وغائب عن أية معرفة عنك، عن أية معرفة يمكن لإحدهم تكوينها
عنك.
في الوقت الذي لم أعد فيه أحبك، لم أعد أحب شيئاً آخراً، لا شيء، إلا أنتَ، ثانية.
تمطر هذا المساء. أنها تمطر من حول الدار وفوق البحر أيضاً.
سيبقى الفيلم على حاله، كما هو، ليس عندي صور أهبها إياه.
لم أعد أعرف أين نحن، في نهاية حب، في أية بداية من جديد، لحب ثان، في أي تاريخ
ضعنا. ما أعرفه هو لهذا الفيلم فقط.
للفيلم وحسب أعرف، أعرف بأن أية صورة ما عاد بمقدورها أن تطيله.
لم يطلع النهار من اليوم ولا أقل نأمة تنفخ في أعالي الغابات أو الحقول، الوديان.
لم نعد نعرف أن كان ما زال هو الصيف أو نهاية الصيف أو فصل كاذب، ملتبس، مفرغٌ،
بلا أسم.
لم أعد عاشفة كالمرة الأولى. لم أعد أحبك.
من ناحية ثانية، تطل من حول عينيك، دائماً، تلك الإمتدادات التي تحيط بنظرتك وبذلك
الوجود الذي يدب فيك في النوم.
تبقى كذلك تلك الإثارة التي تجعلني لا أدري ما الذي عليً أن أفعله بهذا، بتلك
المعرفة التي أتمتع بها عن عيونك، عن ذلك الإتساع الشاسع التي تقوم بالتجول فيه،
أنا لا أعرف ما الذي عليً الكتابة عنه، ما الذي ينبغي قوله عنه، وما الذي يجب عليً
إظهاره عن عدم دلالتهم الجذرية. عن كل هذا، عن كل ذلك ما أعرفه هو التالي : ليس
ثمة ما بإمكاني عمله سوى القبول بهذا الحماس حيال الشخص الذي كان هنا، شخص ما لم
يكن يعرف بأنه حي فيما كنت أنا أعرف بأنه حي.
عن واحد لم يكن يعرف
كيف يعيش، قلت لكم، و
عني أنا التي كانت تعرف والتي
لم تكن تعرف ما الذي عليها أن تفعله بهذا،
بمعرفة حياته التي كان يحياها،
والذي لم يكن يعرف ما الذي كان ينبغي
عليه أن يفعل بها.
يقال أن الصيف بعافيته يعلن عن نفسه. ممكن. وبأن الزهور كانت من البدء هنا، في عمق
الحديقة. وبأنها أحياناً تظل غير مرئية طيلة حياتها وتبقى منطوية هكذا على عطورها
المتباعدة لعدة أيام ثم تتلاشى. ولم تتم رؤيتها أبداً من قبل تلك المرأة التي
تنسى.
لم أرها قطعاً، أنها تموت.
أنا عاشقة ما بين الحياة والموت. فأنا أعثر على طبعكم عبر غياب عاطفتكم، وهي
بالدقة ما يروق لي. أعتقد أنني متشبة فقط بقضية أن لا تغادركم الحياة، ولكن ليس
بأي شيء آخر. فطريق مسارها لا يثير عندي أي أهتمام. فهو لا يخبرني شيئاً عنكم،
وليس بمقدوره تقريب الموت مني أو جعله أكثر مقبولية، نعم، ما يتمناه المرء، هكذا
كنتَ تقف قبالتي، برقة، بإثارة دائمية، بريئة، لا يمكن النفاذ عبرها.
أنك تجهل ذلك.
ترجمة : حسين عجة
المصدر : الحوار المتمدن