كلوّي دولوم كاتبة فرنسية تخترق اللغة بجرح لبناني – حاورها في باريس: جمال بدومة

تبدو كلوّي دولوم كما لو أنها غادرت للتوّ مأساة يونانية رهيبة كتبها أيشيل أو سوفوكل أو يوربّيد. ولدت في باريس سنة 1973 وعاشت سنواتها الخمس الأولى في بيروت
قبل أن تعود مع والديها إلى الضاحية الباريسية. سنة 1983 رأت حياتها تتحطم أمامها: والدها يطلق رصاصة على زوجته الفرنسية ويرديها ثم يصوب سلاحه نحوها…
وبعد تردد قصير يدخل المسدس في فمه وتسمع الطفلة طلقة مدوية ثم تشعر بسائل لزج على خدها الأيسر: نثار مخ أبيها المتطاير! نشأت كلوّي بعد ذلك في كنف عائلة والدتها,
“فرنسيون عنصريون يصوتون لحزب الجبهة الوطنية”, تقول عنهم. في سنة 1987, كان عمرها أربعة عشر “جرحاً” عندما اهتزت باريس على وقع اعتداءات إرهابية.
المتهم الأول, جورج إبراهيم عبدالله, لم يكن سوى عمها… ستصبح كلوّي دولوم, في ما بعد, روائية لكي تخبئ مأساتها في كتب.
كتابها الأول “بنات أتروبوس” (دار فارّاغو, 2000), يبدو مثل نشيد ألم طويل, يتداخل فيه الأوتوبيوغرافي بالتخييل. يسرد محنة المومسات اللائي يشتغلن في البارات
ويفتحن أفخاذهن لرجال أنذال مقابل فرنكات لتأدية بدل الايجار والأكل والحياة الصعبة. تفجر الكاتبة حنقها على اللغة, تعذبها وتخرق قوانينها. كتاب عنيف جداً, تحمل فيه
المتكلمة حقداً هائلاً ضد الرجال وتمضي في تصوير مشاهد عنف مقززة ولكن في مقاطع جميلة لا تخلو من سخرية. مثل وصفة الطبخ التي تقترحها في طقس بربري لا
يصدق, فتصف بالتفصيل, طريقة طهو ذيل رجل في الفرن الميكروموجي. تصف حتى السائل الشحمي الأحمر الذي سيندلق من الذيل بعدما يطهى جيداً. الطفلة التي رأت الدم
والرصاص والموت تأخذ الكلمة: “طفلتي أنا لم يكن عمرها عشر سنوات ولم تفعل شيئاً كانت تثق في الشمس ولم تفعل شيئاً كانت تحب أمها ورأت الدم هي هي هي هي رأت
الدم هي هي هي هي رأت الدم هي هي هي هي هي رأت الدم هي هي… هي هي رأت الدم”.
في روايتها الثانية “صرخة الساعة الرملية” (دار فارّاغو, 2001) التي حازت جائزة “أيلول”, تقدم مأساتها العائلية بأسلوب آخر. الأحداث أكثر وضوحاً وتسلسلاً في هذه
الرواية. طفلة تعيش وسط أسرة قاسية لا تهتم بها. الأب يعنفها بمناسبة وبغير مناسبة والأم مستسلمة لسادية الأب ولا تفعل شيئاً من أجل الطفلة. تكبر قبل عمرها وتفهم قبل
أوان الفهم وتحب الكتابة وتكره الحساب. تتصاعد الأحداث وفق طريقة تصفية حساب مع الأسرة والماضي والعالم وتبلغ ذروتها بالفاجعة التي تشهد عليها الطفلة.
روايتها الثالثة “غرور المسرنمين” (فارّاغو/ ليو شير, 2003) عبارة عن دراماتورجيا للتخييل الذاتي, حيث تهيمن الحادثة وقد تحولت أسطورة شخصية. ذات الكاتبة وأناها
تحتلان الحيز الأكبر, حيث تعود هذه العبارة عشرات المرات: “إسمي كلوّي دولوم…” كما لو كانت الكاتبة تسجل محضراً أبدياً لمأساتها.
أما في كتابها الأخير “بالتأكيد لا” (فيرتيكال, 2004), فتكتب للمرة الأولى من خارج التخييل الذاتي, رواية طليعية ذات شخصيات, ويأخذ فيها هاجس التجريب والاشتغال
على اللغة حيزاً أكبر. كما لو أنها أرادت أن تؤسس لتجربتها الروائية من خارج أسطورتها الشخصية, وعلى رغم ذلك, تنفذ هذه الأسطورة إلى بعض مقاطع الرواية.
مشكلة كلوّي دولوم أنها عاشت حياة أفظع من كل الروايات. لذلك, على الأرجح, اختارت أن تشتغل على اللغة. رواياتها تذكرنا بالكتب الطليعية والكتابات التجريبية التي
أنجزها السورياليون والدادائيون والمستقبليون. حرث مستمر للغة ولعب بالتراكيب والنحو وعلامات الترقيم. كأنها أمكنة سرية لتعذيب اللغة. الجمل متقطعة والكلمات
والحروف في غير مواضعها, تنتظر في أماكن غير أمكنتها وستبقى تنتظر هناك إلى الأبد. التقيت كلوّي دولوم في منزلها في باريس الثامنة عشرة. بدت مبتسمة ومؤدبة طوال
اللقاء, وكنت حذراً كما لو أنني احمل سلة بيض أو أتحرك في حقل ألغام, وتفاديت أن أطرح عليها أسئلة محرجة… ولكن هل توجد حقاً أسئلة غير محرجة في حالة كلوي
دولوم؟
على خلاف معظم أبناء جيلك من الأدباء الذين يكتبون في نوع التخييل الذاتي, تعطين أهمية بالغة للغة في رواياتك. تشتغلين عليها وتخرقين النحو والقواعد وعلامات الترقيم.
لماذا كل هذا الاهتمام باللغة؟
– هناك أسباب عدّة. أولاً ثمة الجانب الإنساني إن صح التعبير, لأنني عندما كنت صغيرة كانت علاقتي الوحيدة مع والدتي مبنية على الكلمات. لذلك تولّد لديّ ارتباط قوي
باللغة. ثم إنني عندما بدأت أولى خطواتي في الأدب اعتبرت أن الكتابة تنطوي في جوهرها على نوع من الحرفية. الكاتب حرَفي في مادته الأولية التي هي الكلمات والنحو
والتركيب. الكتابة الحقيقية بالنسبة إلي لا تستكين إلى السرد والمضمون الحكائي, بل هي أساساً اشتغال على اللغة باعتبارها مادة. ينبغي أن نجد كل مرة إيقاعاً وتركيباً جديداً
يخدم الموضوع الذي نتطرق إليه وأن نختار الجمل بالتساوق مع كل ذلك, حسب الأهداف والمواد. أحاول طبعاً أن أطوّر آليات اشتغالي على اللغة مع مرور الوقت. مثلاً, في
“صرخة الساعة الرملية” سعيت إلى بناء تركيب لغوي يحاكي صورة الطفلة, بمعنى أنني بحثت عن البناء الأكثر هشاشة وتمزقاً وفوضوية, علماً أن الأمر يتعلق بفوضى
منظمة.
سنة 2001 حصلت روايتك “صرخة الساعة الرملية” على جائزة “أيلول”, التي تعتبر نقيضاً لجائزة “الغونكور”, ماذا تعني الجوائز بالنسبة إليك؟
– بصفة عامة, أعتقد أن الجوائز مجرد مهزلة باريسية تبدأ مع مطلع كل موسم. ولكن من باب الموضوعية أعترف أن المكافأة المالية التي تتضمنها الجوائز تظل شيئاً
إيجابياً, خصوصاً في حال كاتبة تعيش وضعاً مادياً هشاً مثلي. بالنسبة لجائزة “أيلول” ما كان مسلياً في الأمر هو أن كتبي, وقتها, كانت تصدر لدى دار نشر صغيرة اسمها ”
فاراغو”, قبل أن أنتقل أخيراً إلى دار “فيرتيكال” التي أصدرت روايتي الأخيرة “بالتأكيد لا”. وستصدر كتبي المقبلة وهي تتمتع باستقلالية واسعة على رغم ارتباطها بدار
النشر الكبيرة “سوي”. ما كان جيداً حينها هو أن الجائزة مكّنت القراء, مثلما مكنت الصحافيين أيضاً, من اكتشاف كاتالوغ دار نشر صغيرة تعنى أساساً بإصدار الشعر. وقد
عمدت خلال المرحلة الترويجية لـ”صرخة الساعة الرملية” التي أعقبت الفوز بالجائزة, إلى التعريف بمجمل إصدارات دار فاراغو وبطريقة اشتغالها. وكنت أؤكد دائماً أن
الكاتب إذا أراد أن يبقى منسجماً مع نفسه وأن يحتفظ بحد أدنى من الأخلاق, عليه أن يختار ناشره بناء على كاتالوغ إصداراته وطريقة اشتغاله, لا أن يذهب رأساً إلى مؤسسة
كبيرة حيث توجد نقود كثيرة, لكن الكتاب يعامل كمنتوج تجاري. وعموماً, كنت سعيدة جداً بالحصول على جائزة “أيلول” لأن المكافأة المالية كانت جيدة. مئتا ألف فرنك فرنسي
وقتها, كما أن سمعتها كانت محترمة. لقد كانت حقاً الجائزة التي تتمتع بأكبر قدر من الاستقلالية والنزاهة, مع لجنة تحكيم ممتازة. أقول “كانت” لأنني أعتبر أنها, للأسف,
تدهورت اليوم كثيراً خصوصاً مع دخول فريديريك بيغبيدي إلى لجنة التحكيم…
لماذا؟ لماذا تعتبرين التحاق الروائي بيغبيدي بلجنة التحكيم تدهوراً للجائزة؟
– لأنني أعتقد أنه تجسيد للرداءة في أبشع صورها. ككاتب أولاً, ثم كناشر لدى “فلاماريون”. منذ أن بدأ عمله في هذه الدار, أغرق فريديريك بيغبيدي المشهد الأدبي
بإصدارات تجارية مصنّعة ومنمّطة لأدباء مزيفين يكتبون أشياء مجوفة. وهم كتاب يمينيون, أعتقد أنها تسميتهم المناسبة, يقدمون أنفسهم على أنهم “نيو هوسّار”(*), كما لو
كانوا امتداداً للتقليد الأدبي الذي كرسته مجموعة “لي هو سّار”, والحال أن ما يكتبونه لا يمت بصلة الى أعمال برنار فران أو غيره, بل هو مجرد حكي كلاسيكي رديء,
كلاسيكي بكل ما تحمله الكلمة من ترهل وعتاقة. ثم إنهم أشخاص يحملون أفكاراً سياسية تطرح لي مشكلة عويصة حقاً. من الصعب دائماً أن ترى أشخاصاً في الثلاثين من
عمرهم أو يناهزون الثلاثين أو أكثر قليلاً بالنسبة لبيغبيدي, غارقين سياسياً حتى النخاع في مستنقع الرأسمالية.
قلت في أحد حواراتك بأن “الكاتب الذي يبيض أشياء مذهلة ويحتضر وحيداً في حجرة حقيرة لم يعد راهنياً”…
– أجل…
ماذا يعني بالنسبة إليك أن يكون الكاتب راهنياً؟ وهل من المهم للكاتب أن يكون راهنياً؟
– كلا… وإلا سنسقط في ما تحدثت عنه قبل لحظة, أي في الأعمال التجارية. ليس مهمة الكاتب أن يكون راهنياً. الكاتب عليه أن يجد لنفسه صوتاً فردياً وأشياء يقولها وأن
يسعى إلى تطوير مسالك أسلوبية ويختبر أشياء عدة من زاوية اللغة وأن تكون له رؤية سياسية للعالم, بمعنى من المعاني. لكن النظرة السياسية للعالم, قد تمر أيضاً عن طريق
بعض أوجه التخييل الذاتي, عبر تعريض الجسد للمخاطر والمعطيات الشخصية أيضاً وهذا ما يتطلب أحياناً كثيراً من الشجاعة. ثم على الكاتب أن يبقى جديداً, أعتقد أن ذلك
أهم شيء. أما ما يتعلق بما قلته عن كاتب الحجرة الحقيرة وكيف أنه لم يعد راهنياً فقد قصدت التأكيد على ضرورة أن يكون الكاتب مدركاً تماماً للعالم الذي يعيش فيه ويشتغل
فيه, أن يكون على وعي بالتحولات العميقة التي شهدها العالم المعاصر. في زمن الانترنيت وثورة الاتصالات, لم تعد حكاية الشاعر الملعون الذي يموت في حجرة بائسة
رومانسية ومثيرة كما كانت من ذي قبل.
من يقرأ رواياتك يخرج بانطباع مفاده أن الكتابة لديك هي عملية انتقام, إنها ثأر الطفلة من أبيها ومن الرجال ومن عالم قاس لا يرحم. هل يتعلق الأمر بمسعى واع أم غير
واع؟
– كانت مسلكاً واعياً منذ البداية. كان هناك نوع من الغيظ والغضب, وربما كذلك الحقد والضغينة. لكنني أعتقد أن شرطي كامرأة لعب دوراً كبيراً أيضاً في المسألة. أنا
كاثوليكية المنشأ وقد تشبعت بالثقافة الكاثوليكية, لكنني قرأت بالموازاة كثيراً من الأساطير سواء تعلق الأمر بالميثولوجيا اليونانية أو غيرها. وتظل أسطورة “ليليت” بالنسبة
إلي مؤسسة لعلاقتي مع اللغة ككاتبة. نجد حكاية ليليت في “العهد القديم” في شكل عابر مثلما نعثر عليها في بعض النصوص اليهودية الأولى, ليس في التوراة, ولكن في
نصوص أخرى لا أتذكرها. المهم أن الرجل الأول وليليت خلقا متساويين في الحقوق وكانا يعيشان معاً ولم يكن ثمة شيء محرم عليهما. لم تكن هناك التفاحة والحية بعد, ما عدا
التفوه بكلمة “يهوه”. أي الخالق. ولكن سرعان ما نشب بينهما خلاف حول وضعية كليهما, وهو ما يخفي ضمنياً ادعاءات التفوق الاجتماعي لأحدهما على الآخر, وحاول الرجل
أن يؤكد تفوقه عليها وأن يجعلها, بمعنى من المعاني, تحت إمرته. بيد أن ليليت لم تستسلم لرغبته وتناقشا فدار بينهما حوار تلفظت خلاله “ليليت” بالكلمة المحرمة فطردت من
الجنة. وإذا كانت الحكاية مجرد أسطورة يجب ألا ننظر إليها كمعطى حقيقي, فإنها أيضاً إعادة كتابة واقتباس وبالتالي تأويل للعالم, وأهم شيء تستخلص منها, هو أن اللغة توجد
إلى جانب الرجال وأن البلاغة إلى جانب الرجال. من هنا يبدو جلياً أن العائق الأصلي في وجه النساء هو كونهن لا يتحكمن في اللغة ولا يعرفن أسرار البلاغة. وبذلك, حتى
وإن كانت المرأة محقة في ما تقوله بخصوص المساواة في الحقوق فستخسر وسترفض, ولن تأخذ الكلمة. وأعتبر هذا مهماً جداً. إنها مسألة بالغة الأهمية تتعدى المستوى
التزييني… ينبغي للمرأة أن تعيد امتلاك اللغة. وأن تعيد تأسيس علاقاتها بناء على إعادة امتلاك اللغة.
تحملين معك مأساة عائلية, أسطورة شخصية حقيقية, أو كما تقولين: “كلوي دولوم شخصية متخيلة أفظع من كل الشخصيات”. هذه الشخصية تعود دائماً في كتبك. ألا تخافين
من أن تكرري نفسك وأن ينضب معين إلهامك؟
– ليس لدي أبداً هذا الهاجس. كل ما في الأمر أن رواياتي الأولى كانت عبارة عن حلقة ثلاثية خصّصتها لموضوع مأساتي العائلية. لكنّ كل كتاب يحمل خصوصيته
الأسلوبية والفنية… لقد اشتغلت في “بنات أتروبوس”, مثلاً, على بناء روائي ممزق ومتشظٍ وهش في شكل يحاكي هشاشة جسد الطفلة. أما في “غرور المسرنمين” فأنجزت ما
أسميه دراماتورجيا التخييل الذاتي. وفي “صرخة الساعة الرملية” حاولت أن أشتغل على تقنية الترسب وأحكي ما تبقى من والدي ومن المأساة. أما كتابي الأخير “بالتأكيد لا”
فهو رواية بشخصيات والكتاب المقبل الذي بدأت أشتغل عليه, وهو يتطلب كثيراً من الوقت, عبارة عن رواية في الخيال العلمي, بمعنى لا علاقة لها بموضوعي الشخصي. كل
ما في الأمر أنني وجدت من المهم أن أستنفد الموضوع, أن أقلّبه من كل جوانبه وأن أستفيد من كل ما قد يكون مهماً كمادة اشتغال ولا أتركه قبل التأكد من أنني استنفدته للآخر.
إنها طريقة عمل مهووسة شيئاً ما.
“لا تكوني بلهاء, تقرّعها الأم, إنها أرقام عربية. فهمت الطفلة حينها أن الأرقام تنتمي إلى لغة الأب. هذا الأخير كان يطل عبر كل تماس مع الرياضيات” هذا ما ورد في ”
صرخة الساعة الرملية”. هل ما زالت كلمة عربية توحي لك دائماً بالمشاعر نفسها؟
– أجل عندي دائماً مشكلة مع هذه الكلمة. ليس فقط مع “عربي” ولكن مع كل ما هو متوسطي عموماً. ما يأتي من البحر الأبيض المتوسط بالنسبة إلي, هو تجسيد لكل ما هو
ذكوري ويمكن أن ينطوي على عنف وعلى خطورة أيضاً. لدي مشكلة كبيرة إلى الآن. أخيراً فقط أمضيت مدة في مارسيليا في إطار إقامة مخصّصة للكتاب وكانت تجربة
سلبية ومحبطة على نحو كبير. ولأنني نصف لبنانية, أتجه تلقائياً إلى اعتبار كل سلوك عنيف في شخصيتي وراثياً ومرتبطاً بالأب, وبالتالي بلبنان. لأنني أتجه, في شكل أو
بآخر, إلى أن أساوي رمزياً بين ما وقع تاريخياً في لبنان وما حصل لي. لبنان بلد شيزوفريني أو انفصامي الى أبعد الحدود, تماماً مثل والدي الذي كان إكلينيكياً شخصاً
شيزوفرينياً. أنا أيضاً أحس أن لدي نزوعاً مشابهاً, لكنني واعية ذلك وأستطيع بالتالي أن أتحكم فيه وألا أستسلم له. ومع ذلك ليس من السهل أن تتعايش مع كل هذه المشاعر
والنزعات المتناقضة. إنه نوع من العصاب, أسعى إلى احتوائه ذهنياً وهذه مسألة تجعلني في صراع داخلي مستمر.
أتعرفين لبنان قليلاً؟
– بدأت أقرأ بعض الكتابات عن لبنان كي أتعرف على عائلة والدي وأفهم بعض الأشياء, لأنني بنت أخي جورج إبراهيم الذي دبّر الاعتداءات التي استهدفت فرنسا سنة
1987. وقد مات والديّ قبل وقوع الأحداث وكان الموضوع يشكل “تابو” في عائلة والدتي التي تربيت في كنفها بعد الحادثة, وهي عائلة, على الطرف النقيض, تؤيد
حزب الجبهة الوطنية العنصري. وفي مساري الشخصي, بدأت أهتم بموضوع عمي عندما أصبحت عضواً في تنظيم من أقصى اليسار قضيت داخله سنة ونصف السنة.
خلالها أتيح لي أن أقرأ كتباً كثيرة عن “الموقوفين” وعن الإرهابيين المرتبطين بالحركة المباشرة أو بالألوية الحمراء. وتعرفت الى تاريخ أقصى اليسار في أوروبا بصفة عامة
وبدأت أكوّن آراء مستقلة عن الإرهاب. أنا الذي اعتبرت عمي دائماً في خط والدي, أي مجرد رجال عرب قادرين على القتل, بدأت أفهم أن الحركة الإرهابية ليست دائماً نوعاً
من اليأس المطلق, بل يمكن أن تكون اختياراً مفكَّراً فيه لتحرك سياسي. منذ ذلك الحين وأنا أطالع كتابات عن لبنان لكي أفهم بعض الأمور التي تبدو لي على قدر كبير من
الغرابة: فعائلة والدي مارونية متدينين ومع ذلك لهم رؤية سياسية قريبة من أقصى اليسار أو شيوعية, مما يصعب تخيله في فرنسا. الكاثوليكيون اليساريون في فرنسا لا علاقة
لهم بالشيوعية, إنهم اشتراكيون! وقد اكتشفت أن الأمر لا يتعلق بالبلاد كلها, بل مقصور على منطقة القبيات التي تتحدر منها عائلتي. القبيات منطقة ظلت دائماً تعاني نوعاً من
“الشيزوفرينيا” على المستوى الإيديولوجي بفعل التحالفات التي كان عليها أن تعقدها, حيث سيصبح المسيحيون اليساريون موالين للعرب بالنسبة لبعض التحالفات, وهو ما
ينطوي على كثير من الغرابة بالنسبة إلي, لأنني لا أملك الأدوات المناسبة لقراءة أو فهم كل ذلك. وعموماً, لبنان بلد غريب الأطوار وعلى قدر كبير من الغرابة. ما عدا ذلك,
لدي ثقافة واسعة في الطبخ اللبناني…
*Les Hussards , هم مجموعة من الكتّاب الفرنسيين تحلقوا حول روجي نيميي في الخمسينات من القرن العشرين, وحّدت بينهم الرغبة في مقاومة سارتر وما
كان يمثله, حيث تصدت مجلتهم “لا بَاريزيان” لمجلته “الأزمنة المعاصرة” وكانت لمعظمهم اختيارات سياسية يمينية, من أبرزهم برنار فران وجاك لورون…
الحياة 2004/10/29