قراءة في رواية “الولع” لعاليه ممدوح – د. زهير شليبه

إذا تمعنا بنيةَ “الولع”، رواية الكاتبة العراقية عاليه ممدوح فإننا سنجد أنها إنتهت بموضوعتها الأولى. أعني بذلك موضوعة الإنتماء كما سنرى لاحقا.كتبت الروائية “ولعَهَا” على شكل رسائل، تبعثها بطلتها هدى من بريطانيا إلى صديقتها بثينه المقيمة في القاهرة. الشائع في البنية الروائية التقليدية أن يقدم الروائي شخصياته في الفصل الأول ممهدا لتقديمها ودخولها في مجرى الأحداث، وهذا مافعلته الروائية في “حبات النفتالين”، إلا أنها لم تقم بذلك في “الولع”1.
إعتمدت بنيةُ “حبات النفتالين” الطريقةَ الشائعةَ من حيث تركيب الأحداث والحوارات والحوارات الداخلية وتقديم الشخصيات المتعددة وطرح الموضوعات كما هي في واقع الحياة، لكون أحداثها تجري في العراق، أما في “الولع” فإن الأبطالَ محدودون ومغتربون، عراقيون “يخاف بعضُهم بعضا” ص168كما تقول عنهم هدى. هذا الإختلاف في نوعية الأبطال وعددهم بالمقارنة مع الروايات الإعتيادية أو التقليدية له علاقة و تأثير في تحديد أسلوب السرد وشكله المتجسد بالرسائل والأصوات البوليفونية لتناسبها مع طريقة البوح والمناجاة والحديث عن النفس، مما أثر بالتالي في بنية الرواية كلها.

تبدأ الكاتبة “ولعها” برسالة طويلة، كفصل كامل، تمهد فيه لتركيب أحداث روايتها، بحيث تصبح عمودا هاما تتأسس عليه بنيتها. تصبح الرسالة كاللازمة الموسيقية، بإيقاعاتها ونبراتها الخاصة. ولهذا فإن رسالة البطلة إلى صديقتها تتكرر بين فترة وأخرى وبعد كل ثلاثة فصول مكرسة للشخصيات الأخرى. ثلاث رسائل تحكي فيها هدى لصديقتها عن “ولعها” وتبثُّ فيها همومَها، تدل عناوينها على مدلولاتها: الفصل الأول “ضاحية الغضب”، الفصل الخامس “الأبناء القساة” والفصل التاسع “الطغاة الصغار”.
في العديد من النتاجات الروائية العربية ظهر ما يسمى بالشكل البوليفوني على طريقة داريل وفوكنر، بحيث اصبح تعدد الأصوات شائعا لدى الروائيين العرب المعروفين، إلا أن كاتبة “الولع” تجري تغييرا على هذا الشكل. عملت عاليه ممدوح على تقديم أصواتها بمقدمة قصيرة اقرب إلى لغة المسرح، فاسحةً المجال لها لتبوح بما يجول في نفسها، متجاوزةً بذلك الحوار والحوار الداخلي أو حتى “الدايالوجيا” كما يسميها باخنين عند دوستوييفسكي. هنا يكمن سبب إختلاف بنية “الولع” عن “حبات النفتالين”، فنحن هنا أمام لغة همس وبث ما في لواعج الذات.
إنه في حقيقة الأمر سرد، خليط من الحوار والحوار الداخلي ولكن على طريقة المناجاة والبوح الإنساني، ولهذا فإن البنية هنا شبه مغلقة تدور ضمن عوالم داخلية فالأبطال متناولون هنا من الداخل. ولكن هناك فصولا تكرس للشخصيات الأخرى مثل الفصل العاشر “كائنات الكرب” 149-161 لوداد والفصل الأخير “الحصى بين الأصابع” 162-192 مكرس لمازن، الذي جاء متناسبا مع بافَصِ الشعور بالضياع والبحث عن الإنتماء ونسق الرواية الصاعد.
تقوم رسائل البطلة هدى بوظيفة شدَ بنيةِ الروايةِ و منعِ تفكك أحداثها وضياعها في ذكريات الآخرين. يبدأ هذا الشعور لدى القاريء بعد الرسالة الثانية. أنظر ص48-57 وبسبب كون “الولع” ولعاً غير عادي، في الإنتماء والأصالة فإن بنيتها متشابهة في بدايتها ونهايتها لأننا لسنا امام رواية أحداث وحبكات ذات نهايات سعيدة أو غير سعيدة، بل حالات وجد ومعانات إنتهت بموضوعة بدأت بها.
إنه ولع لم ينته في حقيقة الأمر. أعني بها فكرة الإنتماء والمستقبل “علينا عدم نسيان أن المستقبل هو الأهم وليس الماضي …لا بد أن يجد المرأ بعضَ الأمور كي ينتسب إليها” ص5 تُشَيَّدُ البنيةُ في نهاية الرواية على عالم مازن الإنساني المغلق، المليء بالمعاناة والهموم بعد أن يودع والديه وزوجة والده والماضي ليتحدث عن حاضره و مستقبله و موضوعة إنتمائه، هو العراقي المغترب في بريطانيا. أعتقد ان إختيار الروائية مناجاة مازن لتكون نهاية “الولع” لم يأتِ إعتباطا، بل تأكيدا على مغزاها، فما مازن إلا ثمرة زيجة أليغورية لهدى ومصعب بعد مصاعب كبيرة لها علاقة بالسياسة والموقف من الغرب، وما طرده من عمله في الشركة البريطانية الأميركية بعد حرب الخليج الثانية إلا تجسيدا له “المغزى”. يتجسد هذا المغزى في علاقات الطباع وخلفياتها التي تطغى على الفضاء الروائي: مصعب سليل الضابط العثماني والصراع مع الغرب من أجل القومية العربية، هدى الأم الوطن، مازن الطير العراقي في سماء الغرب و وداد المرأة العراقية المهمشة في غربتها. لعله من المفيد هنا أن نتذكر بأن هدى في “حبات النفتالين” رفضت فارس أحلامها و”رجلها الأول” محمود لكونه شيوعيا لم تُشِرْ منشورات حزبه إلى جمال عبد الناصر، بينما ترتبط هنا برجل أكبر منها سنا ولكن لا يختلف معها في الإنتماء السياسي القومي. هذا ما سنحاول التأكيد عليه في مقالنا الحالي. يتضح هذا الطابع الألغوري في بنية الرواية بالتدريج حيث تمهد في بدايتها للشخصيات وتعطيها مساحات أوسع لتتحرك فيها وتمارس فعلها حتى تصبح أكثر وضوحا كما هو الحال في الفصل الأخير أنظر: ص169-177. ومهم جدا أن يبدأ السرد برسالة هدى وينتهي بمعاناة مازن في 30 صفحة ففي ذلك تأكيد على نفس المعاناة ونَفَسِها والهموم وكأننا أمام بنية جديدة لولع أخر بطله مازن. أنظر ص162-192. نلاحظ أن الكاتبة تمهد في بنية روايتها للكشف عن مغزى ولعها كما حصل في الفصل التاسع “الطغاة الصغار” 132-148 حيث يسمع القاريء صوت هدى العميق الذي تتردد فيه أفكار و موضوعات عديدة جسدت مغزاها. في روايات الرسائل يصعب على الروائي تركيب بنية أحداثها وترتيب حبكتها، إلا أن كاتبة “الولع” عرفت كيف تقوم بذلك من خلال اللجوء إلى طريقة العودة إلى الوراء و الكتابة عن ماضي الأبطال. هذه الطريقة من شأنها أن تُعين الكاتب الروائي في سرد الأحداث وزيادة الحبكة او التمهيد لخاتمة الرواية. يشعر قاريء الرسائل بالشوق لمعرفة أسرار هدى، المرأة “الذكورية” خاصة عندما تكتب لصديقتها “إنني رجل” ص138، هذه المرأة العاشقة للتجارب والتدخين فتصبح مراسلاتها وذكرياتها وإنطباعاتها وبَوحها، وليس الحوارات العامة بين الأبطال الطريقةَ الوحيدةَ في الكشف عن الغموض.
اللغة: تقول هدى نفسها “عندما أرفع ذراعي إلى أعلى أشعر بأني جواد صغير يجر عربة روحه…”ص77 مما يبرر إستخدام الكاتبة لغة همس خاصة، إنسيابية، إنسجامية، روحية، رومانتيكية، تحليلية نفسية، شاعرية، تعكس ما يدور في خلد الشخصية. تقول هدى “إننا نتابع تلاقح الرعب والذكاء والجمال غير المتقن، الذي يثير المخاوف. فكيف افصل هدى عن ذلك الذي خلته يوما كمصاص الدماء وطورا كالطبيعة، لا تعيد إنتاج أي شيء بسبب المجاملات أو الأكاذيب”. ص77 وهناك مقاطع كثيرة تحاول الروائية تحويل إنطباعاتها وتجاربها الحياتية أو الشخصية إلى مفاهيم فلسفية أو آراء في الوجود تتميز بالشاعرية والغموض أو الضبابية بعض الأحيان و قد يختلف القاريء معها لكنه بالتاكيد سيستمر في مواصلة القراءة. تقوم الروائية في حقيقة الأمر بفلسفة الحياة بلغة هدى، وهي لغة عادية غير مفتعلة لا بغموضها ولا بشاعريتها ولم تسقط بالمباشرة رغم الشروح والتأويلات لأن لديها ماتقوله من إنطباعات كثيرة ومتميزة. ولهذا السبب نلاحظ في رسائل هدى أننا لا نطّلع على ردود الثانية لأن المهم هو ما تبوح به الأولى، فهي بطلة من نوع ومستوى خاصيين تتكلم بلغة تتحقق فيها هذه المتطلبات الروحية والقدرة على فلسفة الظواهر والمشاعر. تكتب هدى في رسالتها: “نعود لأصحابنا. الشاي لم ينفعني كثيرا فاضفت إليه قطرات من البراندي. صار طعمه غريبا كطعم أولئك الأصدقاء. أستطيع بالطبع تعداد خمسة عشر غسما بين شاعر وروائي وباحث ومسرحي وممثل وقاص. لا أدري إن كانت تهولهم تلك الإزدواجية الجنسية. ولو كانوا خارج العالم العربي لأستطاعوا النفاذ بصورة طوعية إلى دواخلهم والتوقف عن طرد أنفسهم من خانة الذكورة أو ألأنوثة. تذكرين – صاحبنا – إياه، أجل ليس غيره، المسرحي، هل عرفته؟ إذن لا داعي لذكر الحروف الأولى من إسمه ….كان أحد النماذج المثلى….- للطاغية- إستعملي وبمنتهى المرح، النظرية التفكيكية في سبر ذلك وغيره وعلى الخصوص بين أولئك المثقفين الحزبيين وبعض الكتاب الأيديولوجيين… ألا ترين كم طاغية موجود تحت جلد أولئك وهؤلاء؟” ص136
إنها قدرة لغوية على تحويل العربية العادية أو المباشرة إلى لغة روائية فنية ليست إنشائية ساذجة ولا عاجية مفتعلة، بل لغة ديناميكية متدفقة. يستحق موضوع لغة الرواية برأي الشخصي التوقف عنده ودراسته من قبل النقاد والأكاديميين لأن أغلب الروائيين العرب عانى من أزمتها ووقع قسم منهم إما في السردية الجافة المباشرة أو في فخ الإنشائية خوفا من تهمة المباشرة أو السطحية والسذاجة.
تكتب هدى رسائلها بلغة التسعينات عن أماكن الستينات والسبعينات وأحداثها واصفة إياها ولو بإقتضاب وحسب الضرورة من خلال العودة إلى ماضيها في بغداد والأعظمية وبيروت وحاضرها في كارديف. هذا النوع من السرد من شأنه أن يجنب الروائي مشاكل المحكيات العربية ويعطيه فرصا أكثر لخلق لغة روائية تتوفر فيها أهم مقومات اللغة الروائية مثل الإنسيابية والإنسجامية والتدفق بحيث تكون متناسبةً مع مستوى البطل الروائي الخاص والكشف عن عالمه الداخلي وهمومه الروحية. تراسلُ هدى صديقتها وكأنها تتحدث إلى طبيب نفساني، فتقول لصديقتها “لاتخضعيني للتحليل النفسي كعادتك” ص56
تقوم اللغة هنا بدور هام أيضا في صياغة ترتيب الذكريات بشكل مدروس وعناية، بحيث يظهر عنصر التشويق السردي وهو أمر مهم في حبكة المضمون بالنسبة لرواية تعتمد على المشاعر والذكريات وليس الأحداث كما سبق وأن قلنا. وفي مثل هذا النوع من السرد الروائي، حيث تختفي الأحداث من الفضاء الروائي الآني، من المهم جدا أن “يقتصد” الكاتب في الكشف عن أسرار شخصياته لزيادة تعقيد الحبكة وعنصر التشويق لدى المتلقي في كل رسالة جديدة يكتبها ابطال الرواية، كما هو الحال في رسالة هدى الثانية والثالثة حيث كشفت فيهما الكثير من غموض حياتها و عائلتها وبالتالي مغزى العمل الفني كله. وهذا هو ما قامت به الروائية في الفصل السادس “تكهنات الظهيرة” حيث كشفت عن عوالم أفراد العائلة وهدى من خلال لغة مازن، التي هي في حقيقة الأمر إنعكاس لحالة والديه ومعاناته الشخصية. اللغة هنا غير متعددة الطبقات فالأبطال الرئيسون معدودون على أصابع اليد الواحدة: هدى، مصعب، مازن، و وداد و هم غير عاديين ومن مستوى خاص، حتى زوجة الأب الطارئة تصبح خاصة بحكم إنطباعاتها الإنسانية بسبب الجو العام. ولهذا فإن لغة هذه الرواية خاصة، متدفقة، لغة حكي ولغة مثقفين عرب. وإذا كان من الضروري ان نقارن بين لغة “الولع” والروايات الأخرى فإنه من المفيد أن نذكر “أبنية متطايرة” لإدوارد الخراط و”خاتم الرمل” لفؤاد لتكرلي و”رسالة الصبابة والوجد” لجمال الغيطاني وغيرها.
السياسة
لا تصور كاتبة “الولع” الأحداث السياسية كما فعلت في روايتها “حبات النفتالين”، بقدر ما تتحدث عن الفكر والإنتماء وضحايا الفعل السياسي. “الولع” إمتداد ل”حبات النفتالين” من حيث إنتماء هدى السياسي القومي الناصري، إلا أن ذلك كان في العهد الملكي العراقي، أما الآن فإن الموضوعة تطرح نفسها في ظروف مابعد حرب الخليج الثانية وإقامة الكاتبة خارج العراق ولهذا تصبح أكثر شمولية وتعقيدا وحساسية.
تقول هدى عن الحرب الأميركية ضد العراق: ”كنت لا أعرف حقيقة هل ستقع الحرب أم لا. في بغداد كان يستولي عليّ قلق لا طاقة لي به. أما مصعب فكان يدير مؤشر الراديو على جميع المحطات ويحلل بصوت عال “ إن أحد الأسباب الحقيقية الكامنة وراء قيام الحرب، إذا قامت، هو دافعها لإبادة جزء متنام من السكان العرب لا يطيق سياسات تحديد النسل ولا يخضع للتعبئة والشروط الأميركية…” ص71 . تطرح عاليه ممدوح في ولعها موضوعة الشرق والغرب “الناس هنا لا يملكون أوقاتا للثرثرة …قال لي كرام زميلي في الجامعة: ”إن والديه لا يتجاوزحديثهما الساعة يوميا”…أنا لست قردا كما تحاول أمريكا أن تصورني، ولست مقبولا بصورة نهائية في أوروبا ايضا، وكل شيء ضدي. إذا تفوقت بدراستي الهندسية أغلقوا الأبواب بوجهي، إذا تشبثت بهويتي الوطنية أطرد من الشركة التي كنت أتدرب فيها…لا أحد يرى فيّ هنا لا الصديق ولا المواطن ولا الإنسان. لا المسلم، ولا العربي، ولا العراقي، فهم يحكمون علي من النظرة الأولى ص10. اعتقد أن هذه العلاقة ستمارس حضورها في العديد من الأعمال الفنية في الحقبة القادمة بسبب معاناة العراقيين المقيمين في اوروبا والغرب عموما ومعاناتهم الروحية الخاصة وقدراتهم على الإحساس بها و تناولها. يقول مازن: ”أمي وأبي يقولان، الغرب بالطبع هو النهب…قرأت أعمدة الحكمة السلعة وصعقت من لغة لورنس، إنه لا يخفي أي شيء….كان أبي لا يعيد الكلام فأسمعه يردد: الغرب والإمبريالية، وأمريكا. لكن يا أبي هذا الغرب هو النهضة الأوروبية…وهو تحويل العالم إلى أسواق. ورقٌّ وعبيد ونهب. نهبنا، أليس كذلك يا أبي، اهذا ما تريد أن تقوله؟… ومع هذا فإن الغرب الآن هو وجودي الحاضر…” ص180 “العراقي هكذا، دائما يكون له وضع خاص ودائما أكون أنا غير المقبول من أحد الأطراف. كأن مهمة العراقي أن يتجنن، أن يفتح روحه ويطلق عليها الرصاص، أن يحب بلده بدون أي سلاح، أي سلاح” ص186.
علاقة الشرق بالغرب هذه تأخذ طابعا أكثر جدية وخطورة له علاقة بإنتماء البطل مازن “لا أعرف إلى أين أنتمي، فكل شيء ملتبس وغامض ومتحرك امامي…” ص 110 عندما يتحدث مازن عن موضوع إنتمائه فإنه يقارن نفسه بوالديه كأنه مفجوع، فأي إنتماء يمكن أن يشعر به هذا العراقي الشاب إذا كان خاله عادل قد هرب من وطنه بسبب علاقة حب غير موفقة، رافضا العودة إليه، أما هو فقد تنقل في خمس دول وتعلم خمسة مناهج “هاهي الخيوط تتكوم بين أصابعي، بين لبنان وبغداد الرباط وباريس ثم إنكلترا. خمس دول وخمسة مناهج دراسيه وأنا اشبه بحقيبة السفر” ص121. تجد هذه الموضوعة صداها في شخصيتي هدى ومصعب كما سنرى لاحقا ولكن بطريقة مختلفة.
الماضي: يمارس الماضي حضوره في السرد واللغة وكل الفضاء الروائي فأبو مصعب عسكري قديم في الجيش العثماني. تقول وداد عن زوجها مصعب “افكر كيف سيحلق ذقنه ويبدو أمام المرآة سليل أبيه، الضابط العسكري في الجيش العثماني، وإبن أمه الصارمة، الطيبة، الصالحة، الشديدة الكتمان والحياء، المدبرة، المستورة، التي لزمت البيت بعد الإبتدائية، والتي تعرف الفرنسية والتركية والإنجليزية والعربية طبعا” ص 123 والمرأة الإنجليزية تصف وداداً “إن ملامحها عثمانيه…” ص75 وتقول هدى عن مصعب ”كان يدفع لي مرتبا عاليا كي اتمرن … على السكنى داخل دارة وضاءة، أنيقة، كبيوت العثمانيين في مرحلة أفولهم.” ص90 كل هذه الأوصاف والتلميحات تأتي ضمن إيقاع واحد جنبا إلى جنب مع موضوعات أخرى ضمن نفس بافَص الإنتماء في رواية “الولع” وروحها. كل شيء هنا يأتي ضمن هذا البافَص، حتى الحديث بحماسة رمزية عن الشخصيات غير الفاعلة في الفضاء الروائي، مثل صبيحه والسيد رامي عضو المجلس الثوري والشيوعين وغيرهم. الماضي موجود في “حبات النفتالين” والعديد من الروايات العربية2.
الشخصيات:
يلاحظ القاريء أن هدى تحلل الطباع وكأنها تنظر إليها من زاوية أخرى، من طرف آخر ممعنة النظر فيها على الرغم من أنها تنكر ذلك”أنا لست باحثة إجتماعية ولكني أختلس النظر إلى تلك الوجوه “أصحابنا” ص135-136
كما قلت إن إقامة الكتاب العراقيين في الخارج جعلتهم أقرب إلى عالمهم وطباعهم وبيئتهم وأكثر متابعة لها، فهدى مثلا تتحدث عن الخوف بلغة متميزة ومعبرة: “يخاف أخي وأبي كما لو أنه لم يفعل أي شيء طوال حياته إلا الخوف. تخاف عيني إذا فهمت الصور واحدة تلو الأخرى. تخاف رئتي الموت بالسل كأمي…أخاف، أخاف إذا عدت إلى نفسي وإفترقت عن بعضي. أخاف من النظرة الأولى إذا بقيت يتيمة…إذا جعت بشدة ونمت من شدة الخوف. إذا وصلت برقية تقول إن أمي ماتت في دمشق ودفنت في حلب. أخاف إذا زاد ذكائي وسار على عجل وقدم لنفسه إتفاقا مع الحلم والبهجة والنسيان. أخاف إذا شربنا قدحا من البيرة أنا وعادل ولم يكتشفنا أحد. أخاف إذا لم أخف …” ص93
و تدخل إنطباعات هدى عن تسلط الرجال و موضوعة الجنس ومدلولاته الشرقية ضمن هذا السياق أيضا “…بالطبع لم أتخذ يوما مقعدا لمشاهدة الإحتفالات الميثولوجية لدى الإغريق أو القبائل البدائية في وصالها الجسدي. لكني شاهدت بعضه وأنا مراهقة وبصورة خفية لدى نسائنا الشعبيات في جنوب العراق. إن التمركز الجنسي لدى هؤلاء لا يكمن إلا في إيقاظ أنوثتهن وحدها. إنهن متآلفات مع أجسادهن، منبسطات، مبتهجات، تفوح منهن رائحة الأرض التي فلحت توا. يفعلن الجنس لأنه أصل الأشياء…رافعات رؤوسهن إلى الرجل، متساويات في التلقائية التي تشبه عملية السقي والبذار…” أنظر ص 54-56 فعندما تتذكر البطلة الرئيسة طفولتها فإنها تعيدنا إلى أجواء “حبات النفتالين” “كانت جدتي تناديني هداوي و أخي عادل أيضا أما عمتي فلم تهتم بدلالي أو ولعي… ص132 ويذكر مازن ما كانت فريده، عمة أمه تردد ”ثلثان الولد على الخال” ص114 ويتذكر قصة حب خاله المأساوية ص115-116
لم تكن هدى أنثى طبيعية في طفولتها، حيث كانت عمتها فريده تقول لها “أنت مثل الرجل. أنظري إلى طريقة مشيتك وألوان قمصانك. لا أدري من سيروق له الزواج منك؟” “حبات النفتالين”ص132 وليست هي إمرأة عادية بدون ذكورة في “الولع” “إنني رجل” ص138
تتميز علاقة هدى بمصعب، كما قلنا، بطابعها الأليغوري وأعتقد أن الكاتبة قد وفقت في إختيار شخصية “حبات النفتالين” وتطويرها و في إضفاء هذا الطابع على هذه العلاقة لتوفر عدة مقومات رمزية لا تتعارض مع واقعيتها. هدى عراقية متميزة كونها من أم حلبية سورية، ذات بنية غلامية وتتكلم بلكنة خاصة في طفولتها ص49، أما مصعب فهو ايضا أكثر شعورا بالإنتماء العربي كونه إسكندروني، ينحدر من عائلة عربية عريقة، أما مازن فإنه طير عراقي يحلق في سماء أوروبا حاملا العلم الأوروبي في عقله وكل معاناة جده وأبيه وأمه في قلبه؟ يقف مصعب في مركز هذا المحور الروائي الأليغوري وتتضح أليغوريا شخصيته من خلال كتابات هدى وإنطباعاته هو نفسه عنها وعن العالم من حوله.
مصعب ليس بطلا عاديا، بل شخصا بطوليا أليغوريا ولكن بالتأكيد ليس على طريقة روايات القرن الثامن عشر التعليمية والتنويرية، إذ إن عاليه ممدوح لا تبشر في “ولعها” بشيء غير ولعها. منذ بداية السرد تختار هدى أن تسميه “السيد مصعب” مكونة بذلك إيقاعا خاصا لها “السيد مصعب” ص62
ومن الواضح أن هدى لا تلونه بالأسود والأبيض وأنه يبقى نبيلا و وسيما رغم حبه للسلطة والرعب والطغيان وإختلافها معه كما سنرى.
تبوح هدى بأفكارها وإنطباعاتها وأسرار حياتها الشخصية بالتدريج وبالتوازي مع بافَص ولعها وصعود نسقه، فتعود إلى ذكرياتها وعلاقتها به واصفة ليلة زواجها منه وهي إبنة الثامنة عشر سنة بينما هو في الأربعين “ مازال مازن في الصالون لا يعرف كيف يعيد لأجفاني واجفانه الكرى. نهضت وسرت على مهل وأنا أمسك حافة الكرسي. أشعلت المصباح في السقف وذلك الذي بجوار راسي، كما حدث منذ ربع قرن، كما لوكنا جالسين معا في ذلك الفندق النظيف في الطرف الآخر من بغداد، وهو ينظر إليّ بهدوء. وبلا كلام نزل من العربة. يصعد الدرج الخشبي الكالح والممر المعتم، فأصعد وراءه. نعبر وجوه الخدم المطفأة. نقف أمام الغرفة رقم9 يفتحها راسا. جدتي كانت تقول: ”الله وحده يعلم ماذا يريد الرجل من الفتاة، فتاة الثامنة عشرة؟. كنت أعرف ماذا أريد من السيد مصعب عبد اللطيف…لا أريد أن يعينني أحد…ينبغي أن لا أحول عينيّ عنه. ينبغي النظر إليه فقط وفقط.”. ص 64
وتقول ايضا مقارِنةً إياه بالرجال الآخرين، بوالدها بالذات “…عيناه بنيتان مخيفتان ومتفوقتا… نبدأ من اليدين… لوسارت الأيدي لتركتها وحدها، لجاءت يد أبي الحقيقية التي كانت تصحبني دائما على الرأس والكتفين. يضرب أبي ودموعي مثل بخار السطح العالي ألاحقها وتفر من أبي، يد الأخوال والأعمام… هاهو أمامي ويجب النظر بلا هوادة. يجب النظر بصورة صحيحة، وهو يردد بصوت خفيض: هيا تحدثي، قولي أي شيء… قال يوما ونحن في غرفته الواسعة الوثيرة بعد ايام من تشغيلي في مديرية السكك”حين أراك أقول هي ستخترع الأشياء وأنا سأصدقها”. أربعيني وسيم وعلىّ أن أورثه أكاذيب وبطلاني” ص65
إنها لا تكتفي بوصف مصعب كشخصية إنسانية طبيعية بدون ملامح أليغورية، تتضح بالتدريج في سياق الذكريات ومسار “الأحداث” وتصاعد بافص ولعها وإكتشافها لعالمه :” لكنني كنت أريد أن أرى ماذا يجمع بين المدير العام والمناضل الذي يتمدد بكامل ملابسه أمامي…وذلك النسغ من الألم، من الخوف، أجل الخوف. من قريبه السيد رامي عضو المجلس الثوري، وأحد أعضاء الحزب الحاكم..كان مصعب يردد أمامي: ”إن قريب ذاك كان يرسم الدوائر حولي. مرددا : إنني أشعر بالإبتهاج لو تركتها تشعر بالذل أمامي، كان يراك كفريسة كما يرى أن رجل الشارع لا يحترم إلا القوة والوحشية والنساء…إن الرعب هو الذي يريحهم…” ص66 …كان يتشكل ذلك الشيء الذي سغدو مشتركا بيننا: الرعب…هناك شيء كان يقوله لي وأسمعه وحدي: عذراء هو الآخر”. ص67
تتحدث هدى عن إنتمائها ولكن ليس بدون الحديث أيضا عن مصعب:” حضر من الإسكندرونه. ولد في بيروت وتدحرج إلى العراق. كانت فروع أنهاره تذهب إلى تلك المصبات الأولى مصب النهر العظيم كما يسميه: العروبه …كنت أكتب إليه من بيروت التي سافرت إليها للدراسة…لا ابدو قومية ول شيوعية، لا وجودية ولا فوضوية، لا شيعية ولا سنية ولا حتى مسلمة. لماذا علىّ البرهنة على ذلك ودائما؟ وهذه لغتي تتحول إلى أداة إرتياب” ص87
تمتُّ هذه اللغة بصلة بمغتربي التسعينات من العراقيين التقدميين الذين يشعرون بالضغط والتمييز في المجتمعات الأوروبية، التي تصنفهم ضمن نفس تصنيفها للعمال المغتربين، القادمين من قرى تركيا والباكستان وأريافهما وبعض الدول العربية.
وبلا شك أن الكاتبة تستفيد من تجاربها الشخصية ولكن حالما تعالجها في مشغلها الإبداعي فإنها تتناولها ضمن المؤثرات المعاصرة التي تحيط بها وتضيف لها صفات متنوعة حسب ضرورة مغزى عملها الفني كله وليس الرواية فحسب.
ولهذا فإن الكاتبة تصف بطلتها في مكان آخر من الرواية لابسةً الصليب في عنقها “…كانت تلك السيدة تريد من القس أن يتلو عليها آخر الصلوات…لكن أمي كانت تبحث في صدرها عن الصليب الذهبي، تنحني وتخرجه من عبِّها وتقربه من شفتي السيدة”. ص184
فمن هي هدى؟ وما هو سبب إنتمائها العام؟ هل هي مسلمة كما كانت طفلة في “حبات النفتالين”؟ أم مسيحية تحمل الصليب في عنقها؟ هل هي عربية الإنتماء وهل تريد الكاتبة أن تؤكد إنتماءها القومي والإنساني، أم أنه نوع من الشوق والحنين للمسيحية، وإلا فلماذا تحمل الصليب؟ وماذا يعني أن يقرأ والد مصعب الكتب السماوية الثلاثة؟ وهل يمكن أن يكون ذلك مجردا عن الطابع الأليغوري الذي إتسمت به شخصيات الرواية؟
هدى عراقية، أمها من أصل حلبي لها اقرباء يقيمون في الشمال، ومصعب إسكندروني، لبناني، عراقي، عروبي، يتزوجها شرعا و “لم يستطع تحويلها إلى زوجة مطلقا” ص49. لماذا؟ لأن هدى ليست إمرأة بسيطة أو عادية لتتحول إلى زوجة بالمفهوم المبتذل، الضيق الأفق الشائع، ولو كانت كذلك لما أصبحت ذات ملامح أليغورية وإنسانة ذات مستوى خاص، بطلة روائية تحمل في طباعها سمات عصرها وجيلها. هدى ليست جميلة بمفاهيم الجمال التقليدية، إلا أن مصعبا يتحدث عنها بطريقة رفيعة فيها السمو وشيء من الإحترام والقداسة على عكس قريبه المسئول الحزبي السيد رامي، الذي يحرضه على مضاجعتها فحسب. ص96. وما محاولات هدى في الإنتحار والإنحراط في ثورة الجزائر فما هو إلا تأكيد على قوتها وطاقاتها ورغباتها في تحقيق أهداف كبيرة وإلا فلا معنى للحياة. ص100-103
والإنتحار ليس موقف هدى فحسب، بل رياض بن مصعب وشقيقها عادل، إلا أنها ليست محبطة، بل قوية ترددُّ “مصعب، أرجوك لا تمت. لا من أجل الله أو الحزب، لا من أجل هدى أو الوطن…” ص101 و” على هدى تغيير وتعديل وشطب وتحوير الكلمات..” ص105 ألا يعني ذلك أنها هي الأصل وهي التي تضع النقاط على الحروف واللمسات الأخيرة وأنها تحيط عالمهم بعواطفها ومشاعرها رغم كونها زوجة غير عاديةٍ.
وعندما يتكرر إسم هدى على لسان مازن، الذي يناديها بإسمها بدلا من كلمة أمي فإن القاريء يشعر بنوع من العلاقة الحميمية أو الخاصة، غير العادية، مبررا ذلك بنفسه قائلا: “أناديها دائما بإسمها” ص108
حتى حب صبيحه، عشيقة زوجها مصعب، لهدى أمر يأتي ضمن سياق الجو العام و الطابع الأليغوري والصوفي للعلاقات بين الشخصيات الأدبية، فتقول الأولى للثانية “أستعيدك وأنا بين ذراعيه” ص145
وهدى هي أيضا تحب الأثنين: زوجَها وعشيقته صبيحه المقتولة في ظروف غامضة، وتتحدث عنها بطريقة خاصة، “مريبة وغامضة”، وان فيها صفاتٍ مشتركةً تجمع الثلاثة، بل تصفها في مقطع من أجمل مقاطع الرواية الرمزية “كانت إمرأة شتائية، تحب المطر والأعاصير، الرياح والزوابع. فتطوق الأرض بكلتا يديها وتلثم الماء. وإذا ماأقبل الشتاء… تمكث هناك هكذا ساعات، وتبدأ بخلع ثيابها ورميها أمامها…” ص129
ألا يعني هذا علاقة صوفية ذات طابع أليغوري بسبب عشقها لمصعب؟ تبدأ صبيحه بالغناء العراقي الحزين…صبيحه لا ينبغي الإحتياط منها، هكذا كانت تضيف هدى. لكن كل شيء كان مؤكدا بين مصعب وصبيحه…لم يبالِ بأحد مردداً: اللقاء خلف الجميع أجمل. هكذا، وهي هناك سجينة، مخمورة، ساحرة، شريرة، متسلطة. هذه أوصاف هدى ومصعب معا…” ص128
حتى وداد، ضرتها، تتحدث عنها بطابع يتميز الخاص، بحيث يشعر القاريء أنه أمام إمرأة قوية، واثقة من نفسها “كأنها المنتصرة على الدوام. لديها معدات تشغل بها نفسها. إذا لم تقرأ تسمع الموسيقى…إن لديها قدرة على التلاقح حتى مع الغبار…هدى تربح دوماً. لم تخسر أحداً، لا الزوج، ولا الإبن ولا الأصدقاء. حتى أنا أتوجه إليها”. ص150-151
وتقول وداد عنها بنفس طريقة صبيحه ” أتذكر فقط أن هدى، أجل يدها وليست يد مصعب هي التي كانت تحط، وتربت على كتفي وشعري…”. ص161
أما هدى فإنها تقول عن ذكورتها “إنني رجل …أنا هدى كنت أقل بقليل من أي رجل …وأيضا أكثر من أي إمرأة في داخلي…” ص138-139
وتقول بوضوح أكثر عن إرتباطها الروحي بمصعب و علاقتها بصبيحه بطريقة أصرت فيها الكاتبة على إستخدام نفس الفعل غير مبالية بالتافتولوجي كي تعطي جملتها إيقاعا مضمونيا خاصا كما يبدو:” هو كان يدري أنني أدري وهي كانت تدري أنه أخبرني وأني أدري، وجميعا كنا ندري أننا مرئيون، مراقبون أحدنا من الآخر ولا شيء يمكننا إخفاؤه …فكثيرا ما أخبرت صبيحه بعد تفشي الأمر بيننا، وبصورة مواربة إن مصعبا يصلح أن يكون عشيقي هو الآخر. ياليتني تزوجت غيره كي أخونه معه…” ص 147 ولهذا فإن ضرتها تحتار في إمكانية خيانتها “هدى” لزوجها رغم إبتعادها عنه و عدم مبالاتها به بعض المرات.
مصعب: تقول هدى عن زوجها “جميع ما فعل هو شيء في منتهى الإخلاص لهدى!…إنني آفته المحبوبة..” ص141. عند حديثها عن مصعب تلجأ لذكرياتها عن حبها له “أما الحب فهو أول عمل قمت به ودخلت من أجله… إني على أهبة الفرار إلى مصعب وهو لاجيء سياسي في بيروت…” ص12 وتقول عنه :”هاهو مصعب يبدو في الأخير مجرد فاتح قديم. هو بلا شك سليل والده المناضل العراقي الذي كان يتبرم بإندفاعات السيد لورانس ويشمئز من أكاذيب الإنجليز…” ص16. نلاحظ أن الروائية تقدم مصعبا كشخصية منتخبة، منتقاة، متميزة وذات مستوى خاص، غير عادية، إنه شخصية بطولية أليغورية في إيجابياتها وسلبياته. أما إنتماء مصعب إلى هدى فإنه ايضا يتميز بخصوصية كونها أكثر من زوجته، بل مأواه “أنتِ بيتي” ص35 وهو نفس المستوى الرفيع الذي تتحدث هي به عن زوجها. وتضع الكاتبة مصعبا في مركز المحاور وعلى نفس مستوى هدى في السرد والذكريات ويأخذ مساحة كبيرة من الرواية ويلعب دورا كبيرا في بنيتها علىالرغم من أنه لا يكتب الرسائل، إذ إن أغلب ما يكتب أو يقال من قبل الآخرين يدور حوله لأنهم ولعون به.
تقول الراوية هدى عنه “أردت أن أشيد بيتا تتوارى خلفه جميع البيوت التي سكنتها. بيت يحتفظ بأبوابه مشرعة، نوافذه مضاءة، خزائنه مليئة، وأسسه متينة. لكني لم أفلح في ذلك أبداً. لا معك ولا مع “أم سعد” ولا مع السيدة “نحلاء” أما وداد فلست أدري. الا تدرين يا هدى أن ذلك البيت لم يكن صلبا كما توخيت. فأنا من أسرة عريقة في النضال. وأملك البراهين على ذلك. ليس لدي إمتيازات أو إقطاعيات. لا أراضٍ ولا موارد. إنني وريث أبي صاحب الشيم العربية الصافية والمقاومة والبطولة.. تماما. مصعب ليس أي رجل. كنت أناجيه بعد أسابيع من التعارف. بين المرح والجد وأردد على مسمعيه :”أنت أعظم من أنجبته البشرية” …أفصح له: “رجولتك تنتشر فيَّ كما الزعفران في الماء” ص79-80 وفي مقطع آخر تقول عنه:”مصعب ليس أي رجل. وأنا نصف قروية. إبنة بغداد أنا، لكنه كان يردد:”لديك نفاسة الريف” ص81 . نفاسة الريف هي بالتأكيد تلميح للطبيعة والصدق والأصالة والرومانتيكية.
هذا البوح والحكي بطريقة الهمس وبلغة رومانتيكية عن شخصية مصعب، التي تقترب من أبطال الأساطير ولكن طبعا ضمن الواقع العربي السياسي المعاصر، يؤكد فكرتنا منذ البداية عن أليغوريتها ففشله في تشييد البيوت أو حمايتها والأحلام الكبيرة و القصص الرفيعة المستوى ليست ذات طابع شخصي فحسب، بل عام أيضا وأكثر شمولية، تتسم بالبعد الرمزي كما سنرى. تقول البطلة الرئيسة عن مصعب: “إنه أحبني يوما، بلى، حدث ذلك كما أحب الجلادون ضحاياهم، وها نحن أمام الآخر وبيننا أدوات التعذيب: مازن الإبن، ووداد الزوجة الرابعة وأنا… فمن أين سنبدأ؟ الحروب هي التي تبتدع دائما آلات السحق …فمصعب رجل جاء مع الحروب، ولد بين الحربين، وتهيأ لجميع الحروب التي مرَّ بها …وها هو يطالب بالأرض الموعودة: فلسطين ليست وحدها أرضه تلك. في البدء الإسكندرونه. ثم أنا…” ص83
تسلط الرجال: تصف هدى مصعبا بالتسلط والزهو بنفسه فبينما تلبس هي الملابس الداكنة يلبس هو الملابس الزاهية. ص51-52 وتلجأ عاليه ممدوح إلى السخرية من أغلب الرجال من خلال مناداتها له بالسيد مصعب. ص50 ” السيد مصعب زاه بملابسه، متباه، إمبراطور…” و تقف عند إسمه وحروفه كأنها تفكك رموزه “إسم صحيح معافى من أي حرف من حروف العلة” ص52، بل إنها تقارنه فيما بعد بالأسماء “الباردة” الأخرى “حاتم، جلال، مصطفى…” ص144 وتقول عنه في مكان آخر” إنه محبوبي” 153 و”إنه يصلح أن يكون عشيقي” ص147 وهو تأكيد واضح على رمزيته بالنسبة لها.
ولعله من المفيد الإشارة هنا أن إسم مصعب غير منتشر في العراق بحيث يشعر القاريء العراقي منذ بداية الرواية أنه امام شخصية ذات مدلولات معينة أرادت الكاتبة أن تضفيها عليه.
مصعب ناقم على الوضع، مزهو بشخصيته، يعاني من إحباط بسبب فقدان سلطته على الآحرين رغم ما يملكه من أموال وزوجات وعشيقات.
وهو كأي طاغية يبدو صامدا أمام الهزات التي واجهته كإنتحار إبنه ومقتل الثاني، ونلاحظ أن مازن يتحدث عنه بطريقة تختلف قليلا عن أمه لكنها لا تبتعد كثيرا عن هذا الإطار. إنه الجنرال ص61 ، بل يسميه إمبراطور وطاغيه و يقارنه بستالين وهتلر.
مصعب قوي جنسيا يعاشر العديد من النساء وهو أمر غير غريب على الرواية العربية في تصوير مثل هؤلاء الرجال الطامحين لنيل السلطة والإستيلاء والإمتلاك والعطاء. الجنس هنا رمز للقوة لدرجة أنه لا يشبع منه ولا يكتفي “فأنتقل إلى الغلمان، الذين لم يضيعوا ماضيا…” ص73
إلا أنه رجل طموحاتٍ كبيرةِ‎ٍ ومشاريع أضخم من قدراته في الحياة بشكل عام، “يده كلاعب شطرنج مازالت تشع بالمواهب…” ص78 أو أنه يردد “أردت أن أشيد بيتا تتوارى خلفه جميع البيوت، التي سكنتها…”ص79
لكنه لم يكن قويا في نظر وداد التي لاحظت قوة هدى ولا مازن الذي عبر عن حقيقة هذين المخلوقين: هدى ومصعب في نهاية الرواية بطريقة معبرة “كانت هدى في تلك اللحظات تبدو أمي من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. أما وليست أمي فقط. حتى تصورت أنها أم أبي أيضا” ص190
المكان والزمان:
تبدأ أحداث الرواية وتنتهي في المطار. تبدأ الرواية في أجواء الإستقبال والتوديع وإيقاع السرد عن الماضي في رسالة البطلة أثناء الإنتظار. وهذا هو ما قصدت به عندما قلت في بداية المقال بأن موضوعتي البداية والنهاية متشابهان، كذلك الزمان والمكان حيث المطار والإستقبال و الرحيل.
تدور أحداث الرواية في حقيقة الأمر خارج بريطانيا رغم أن الشخصيات تقيم فيها لأن ماضيها يحتل حاضرها ويطغي على مساحة الرواية، فيتحقق الهرونوتوب فيها.
وفي الحقيقة أن المكان لا يمارس حضوره لوحده بدون الزمان أو لوحده مستقلا عن الأماكن الأخرى، لأن الكاتبة تنتقل من هرونوتوب إلى آخر مكونة بذلك هرونوتوبات مختلفة ومتنوعة متوزعة ما بين بغداد ولبنان والإسكندرونه والرباط وبريطانيا “فلا الحقيقة بدأت في الإسكندرونه ولا الحياة ستنتهي في مدينة كاردف البريطانية”ص 78.
يشعر القاريء هنا بأنه أمام هرونوتوب من نوع خاص فعند إنتظار هبوط طائرة مصعب تختلط الأزمنة والأماكن ويحدث نفس الأمر في ذكريات الشخصيات عن ماضيها وإنطباعاته عن حاضرها أثناء قيادة مازن للسيارة.
تختلط هنا علاقات الزمان والمكان في أحاديث الأبطال مع أنفسهم وتتقاطع الأماكن العراقية مع البريطانية ص27 لدرجة أن مازنا نفسه يشير إلى هذا الخلط في يوميات هدى المدونة. ص47 إلا أن زمن شخصيات الرواية الفعلي هو فترة ما بعد حصار بغداد وإنتهاء حرب الخليج الثانية ص70-71 ولكنها تعود بذاكرتها إلى الوراء كما قلنا سابقا.
على الرغم من هذا الزمان، المليء بالأحداث السياسية، إلا أن السياسة لا تمارس حضورها بشكل مباشر، بسبب قدرة الروائية على توزيعها ما بين السطور من خلال الذكريات بإعتبارها جزءاً من الماضي ولأنها تعالج الفكرة والإنتماء قبل الحدث
السياسي.

1- أنظر:
– عاليه ممدوح. الولع. دار الآداب. بيروت. 1995
– عاليه ممدوح. حبات النفتالين. القاهره 1986
2- د. زهير شليبه. حبات النفتالين. بانوراما الواقع العراقي. القدس العربي. الثلاثاء 5 آب 1997

د. زهير شليبه
ناقد واكاديمي من العراق
09/01/2009