الولع يبدأ من مطار هيثرو – رواية بوليفونية آسرة – شكيب كاظم ــ بغداد

تبدأ رواية الولع للقاصة والروائية العراقية المغتربة عالية ممدوح، والاسرة ممثلة بـ هدى وابنها مازن منتظرة وصول زوجها السيد مصعب الى مطار هيثرو بلندن صحبة زوجته الرابعة وداد للالتقاء بزوجته وابنه مازن الذي يواصل دراسته العالية في الالكترونيات وبتفوق، وتنتهي الرواية بعد اربعة اسابيع حاول فيها مازن التوفيق بين الرغبات المتبعثرة لهذه الاسرة التي عصفت بها مغامرات الاب وغرامياته التي لاتنتهي والذي كان ممنوعا عليه التواري عن احداهما او البقاء اطول مع الاخر بعد ان حلقت طائرة ابيه ووداد عائدة الى عمان، في اشارة الى ايام الحصار، بسبب احداث الثاني من اب »1990، واضطرار الناس لركوب البر وصولاً الى العراق او مغادرته، وطيران امه كذلك، تاركيه لوحدة قاسية ممضة.
فأعود وحيداً ثانية وامي وابي ايضا، هذا هو الصوت الوحيد الذي بمقدورنا سماعه، صوت انفسنا نقف على ابواب ارواحنا، ونصيح بانفسنا ادخلوها آمنين، أتناول طعامي بدون شهية، اتصنع المرح واللهو فاعزف واغني … أعود للنظر الى مياه المحيط اجلس قبالته على احدى الصخور … لون الماء ادكن جدا وانا وحيد كذرة مياه في هذا الخضم المتلاطم، لكن كيف استطاعت عالية ممدوح في روايتها هذه الولع الصادرة طبعتها الاولى عن دار الاداب بيروت عام 1995، الافلات من قيد الحيز الضيق، الذي تدور فيه احداث روايتها هذه؟ بيت الاسرة في مدينة كاردف عاصمة مقاطعة ويلز البريطانية، فضلا على الزمان الضيق نسبياً، اربعة أسابيع، هي مدة الزيارة، زيارة الزوج مصعب لزوجته وابنه، وانا قلت اكثر من مرة تعجبني كثيرا قراءة روايات ما اسميه بـ الحيز الضيق او الحيز المحدود المحدد، لانها تبين امكانات السارد»الساردة وتفصح عن مواهبه في القص، لذا لجأت عالية ممدوح لاستخدام التقنيات الحديثة في السرد، واعني به السرد متعدد الاصوات، او مايعرف بالسرد البوليفوني، واستخدام طريقة الاستذكار والانثيال او مايعرف بالفلاش باك، تيار الوعي فضلا على الرسائل ومن خلال هذه الطرق السردية الحديثة والقديمة، استطاعت عالية ممدوح الابحار بنا نحن قراءها بحياة ممتدة الى عقود عدة، من حياة هدى مع زوجها السيد مصعب،الذي تصر في اماكن عديدة من روايتها هذه،على عدم تجريده من هذه الصفة السيد لكي توحي لقارئها بالعلاقة الرسمية وليست العلاقة الزوجية الحميمة التي ظلت تربطها بزوجها، المدير العام في احدى المؤسسات الرسمية والمنتمي بقوة وايمان الى أحد الاحزاب القومية، التي كان لها دور في الحياة السياسية العراقية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتاريخ اسرته العريقة في دنيا الادب والثقافة والسياسة، والتي يعينها بوظيفة بسيطة في دائرته لتكون من ثم زوجته على الرغم من معارضة الاسرة وخاصة رامي . وكان مصعب يردد امامي ان قريبه ذاك كان يرسم الدوائر حولي. مرددا انني اشعر بالابتهاج لو تركتها تشعر بالذل امامي كان يراك فريسة، كما يرى ان رجل الشارع لايحترم الا القوة الوحشية والنساء كذلك والاطفال. البشر يشعرون بالحاجة الى الخوف ان الخوف هو الذي يريحهم ص66 لكي نستشعر حجم الدمار الذي حاق بنا ونحن نطلع على المخفي من افكار بعض من كانوا مؤثرين يوما في الحياة العراقية، وحجم القسوة التي عاملوا الناس بها. وزادت من قسوة مجتمعنا وعسكرته.
تبتدئ الروائية عالية ممدوح روايتها برسالة الى بثينة والاسم يحيلنا وخاصة لمن خبر الحياة الثقافية العراقية وامضى العمر كله في محرابها الى روائية مقيمة في القاهرة تحمل الاسم ذاته ومايؤكد ذلك كنيتها اذ ان هدى تسألها عن ابنها عمر، و عمر ابنك، هل تخرج هذا العام مهندساً بحرياً الا ترين كيف يهندسون الفضاء والمياه ونحن مازلنا نبحث عن شكل مميز لتوزيع الصراخ؟ علينا اذن ان نعرف كيف نصرخ. ص11
وان يسمح لنا بالصراخ فهذه نعمة من نعم الدنيا علينا، فلقد مضى علينا حين من الدهر كان لايسمح لنا حتى بالهمس او الاشارة فالاخ الاكبر لك بالمرصاد ويفسر كل شيء سوءا. اقامت عالية ممدوح روايتها هذه على اربعة شخوص هدى، ابنها مازن، زوجها السيد مصعب، وزوجته الرابعة وداد، فضلا على شخوص تطل برأسها قليلا لتختفي مثل صبيحة صديقة هدى في الدراسة الثانوية، والتي لاتهتم بشيء قدر اهتمامها بجسدها والنهل من لذائذ الحياة كأنها ابيقورية الهوى والتوجه رائية الفرد معدة وغريزة وسواهما اكذوبة وتصنع كانت تملك وفرة من الشهوة الجنسية وطريقة في عرض جمالها واعضائها فتترك نفسها رخوة، مزهوة، تتطاير فيها الرغبات وتبعث على الدوار وتطارد النساء والرجال متأججة فوارة، لاتتقدم للاخر كلها تمضغ جسمها أمامه. تتزين بطريقة فاحشة، وتبدو دائما على اهبة الاستعداد لكنها أميتت شرميتة وعثر على جثتها طافية في نهر دجلة، وقد تشوه منها وجهها بصورة بشعة، لقد دفعت ثمن لذائذها المنفلته، وجسدها المكتظ بالاشتهاء والمكتنز بالتشهي، كذلك عادل شقيق هدى وصديق مصعب الذي يسعى لتعيينها في الدائرة التي يرأسها السيد مصصعب كما يرد ذكر رياض ابن مصعب المنتحر، وشقيقه سمير الذي قتل في حادث سير خارج العراق وابراهيم الذي يحيلنا الى كاتب وفنان تشكيلي، عمل مع الجناح المسلح بعد انشقاق حزب من الاحزاب العراقية الاممية الى لجنة وقيادة، وخاض مع الجناح الثاني كفاحا مسلحا في الستينات، ما لبث ان غادر العراق قبل العقد السبعيني ليعمل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الطبيب الحكيم بلغة الفلسطينيين جورج حبش ولينتحر في لحظة يأس خريف عام 1971، كذلك السيدة بلقيس وهي المعادل الموضوعي لسيدة اقترنت بشاعر سوري شهير وقتلت في حادث تفجير السفارة العراقية ببيروت شتاء عام 1982 وتحطمت جثتها تحت انقاض السفارة كما يرد عرضا ذكر زوجتي السيد مصعب بن عبد اللطيف الاولى ام سعد التي كانت تكبره بسنوات عدة، وكان يصل الى جسدها في الظلام، لان الزمن لم يبق لها اية سمة من سمات الجمال التي تدفع الزوج للوصول الى زوجته على ضوء خافت يرسل شعاعه الكابي، والثانية نجلاء، لذا فان اقامة عمل روائي يقترب من المئتي صفحة وبحرف صغير، يحسب لموهبة السرد التي وهبها الله لعالية ممدوح ودرجة مرموقة في الفن اذا كان من حقنا منح المبدعين درجات على ابداعهم.
ما أبهرني حقا ان رواية الولع هذه التي يولع بها من يقرأها ويحبها ويْعلَقْ بها، انها خلت من اي حوار، لقد جاء السرد الروائي الذي يزيد على المئة والتسعين صفحة، خالياً من اي حوار مع شخوص الرواية، لكنها جاءت مكتنزة بالحوار الداخلي وانثيال الافكار، لتشير عالية ممدوح من طرف خفي الى اختفاء العلاقات الاجتماعية بينهم، وفقدانهم لاواصر المحبة والمودة التي تطبع حياة الافراد، والتوجس والحذر والريبة من الاخر الذي هو الزوج والزوجة والابن انهم يحيون فوبيا الخوف والبوح، لذا كانوا يلجأون الى حديث مطول مع الذات والانكفاء عليها وحتى هذا الزوج الذي قدم الى كاردف هذه المدينة البريطانية الهادئة المنساحة على صدر الريف الانكليزي الاخضر، ما باح بشيء الى زوجته تلك التي تباعد عنها منذ سنوات كما لم يتحدث مع ابنه مازن ابدا اية حياة محبطة يحيونها واية خيبات ترسم ظلالها عليهم؟ ولانهم على هذه الجبّلة والشاكلة فما ان ضمتهم سقوف بيتهم في كاردف بسرعة حتى تفرقوا كل في طريق وبسرعة مخلفين إبنهم مازنا يواجه مصيره وحده، الطرد من عمله، محملين البريطانيون اياه تبعات احداث الثاني من اب، كانوا يشعرن بلذة طردنا من الشركات التي كنا نتدرب فيها للسنة الثالثة 1990 من الجامعة، وطوال تلك الشهور التي مرت عليها وقبل بدء الحرب لم نكن نجرؤ على النظر الى ذواتنا بصورة طبيعية، لدرجة ان الحياة ذاتها بدت لنا زائدة ، وهذا الرجل يواجه مازنا بكل البرود الانكليزي المعروف هذا الرجل في منتصف الخمسين مجعد الوجه، مغضن الجفنين وهو وصف دقيق لمن خلت روحه من المشاعر والاحاسيس وينظر الى الحياة على انها حقائق مجردة وارقام، ان شغلك يامستر مازن طوال الاشهر الستة الاخيرة كان رديئاً، وما عليك الا ترك الشركة ومن غير ابطاء ص170.
هناك الكثير من الرجال من يتزوجون بنساء من دون ان يحسبوا حسابا للفارق الثقافي او العلمي بين الطرفين او لا يضعون في حسبانهم الاختلاف في الاهتمامات فتتحول الحياة الى جفاف ويباس، فلا هو بمستطيع الاقلاع عن هواياته التي يحسبها جزءا متمما لحياته لابل كل حياته ولاهي تحاول الاقتراب من بعض مايجد فيه بهجة وحبورا القراءة، مطالعة الصحف، سماع الاخبار ومشاهدتها، سماع الموسيقى التامل الكتابة وهي تكره كل هذا لذا يتمدد الجليد على حياتهما ويحولها الى صقيع، لقد لمست غيرة وداد الزوجة الرابعة للسيد مصعب، والمحظية الاخيرة ربما من محظياته والتي وصفها مرة بـ المليحة مما دفع بهدى الى ان تطلق ضحكة غريبة ازعجتها وداد الانسانة الاعتيادية التي لاتكاد تغادر اهتماماتها ارنبة انفها وترى الحياة طعاما وشرابا ونوما طويلا تغار من مواهب هدى التي لديها قدرة على التلاقح حتى مع الغبار كما يردد زوجها مصعب كان بمقدور هدى التحدث في كل شيء وعن اي شيء، انها باستطاعتها قضاء الساعات ربما عشر ساعات وهي جالسة في سريرها الارضي تقرأ وعندما يدخل عليها مصعب كان يحاول ترك الباب مواربا كي يدعها تسمع ما يدور بينهما في حين لايجد مايتحدث به مع وداد التي ليست لها اهتمامات هدى، تقول لهدى أشعر انني وحيدة معه، ها انا اتحدث معك افضل مما اتحدث معه .. انه لايحدثني هو يلاعبني الورق فقط، فقط، اننا صامتان اكثر الاوقات ويحدثني في الامور العادية، شراء الحاجيات دفع الفواتير مقابلة بعض الناس اي الاشياء المفرطة في التفاهة. ص153.ص154.
قلت في بداية حديثي النقدي ان عالية ممدوح اقامت عملها الروائي هذا الذي تولعنا به الولع على تعددية الاصوات في النص الروائي لانتشاله من أسر المكان والحيز الضيق وللافصاح عن طاقتها الباهرة في السرد لذا فانها تنقل لقارئها وصفا لنزهة يقوم بها مازن مع زوجة ابيه الرابعة وداد، الى المدينة للترويح عن النفس وشراء الحاجيات، وربما وهذا هو الشيء المهم، تركهما وحدهما في البيت هدى مع زوجها مصعب اللذين يعيشان حياة الهجر والبعاد كل في مكان ربما لاعادة المياه الى مجاريها، وتلبية حاجات الزوجة العطشى الى جسد زوجها المغامر المغادر المهاجر، تصور لنا عالية ممدوح، هذه النزهة إذ انتجت خلوة للزوجين المتفارقين، من زوايا متعددة، ففي الفصل السابع الموسوم بـ هسيس اللحظات وهو عنوان جميل ومكتنز بالايحاءت تنقل لنا الحدث من خلال هدى المختلية بزوجها مصعب، حيث لاحظت انها تطلق اسمه خلوا من صفة السيد كأنها تحس به بعد سنوات من الهجر والبعاد زوجها العائد اليها، انه مصعب وكفى، وياتي الصوت الحواري الاخر عن طريق مصعب ومناجاته لذاته، في حين ياتي الفصل الذي يليه الذي اسمته عالية ممدوح افصاح التوقعات ص156 منقولا من لدن مازن ووداد لنتاكد اننا امام رواية بوليفونية متعددة الاصوات، اجادت حبكتها الروائية المبدعة عالية ممدوح مذكرة ايانا نحن القراء برائعة ميرامار البوليفونية التي ابدعها النوبلي المصري نجيب محفوظ.
منذ ذلك اليوم التموزي القائظ الذي انتج لنا احترابا سياسيا، وخراباً مجتمعيا، بدأ العراقيون ياخذون طريقهم نحو افاق الدنيا الاربعة، بعد ان اصبح العيش في الوطن صعبا او مستحيلا، فهذا مازن، الذي حط في بيروت زمناً، وتطبع لسانه بلهجة البيروتيين وعندما كان يتلعثم كانت عراقيته لهجته العراقية التي ما استطاع التخلي عنها تفضحه لكنه في ويلز وعاصمتها كاردف واذ يندمج في المجتمع البريطاني طالبا دارسا نابها للالكترونيات بدأ الخراب يتسرب الى لسانه هاهو يبدأ بنسيان اللغة الام بسبب الابتعاد الطويل عن بلاد الاباء والاجداد، وعدم وجود من يتحدث معه بها مناجيا ذاته لغتي العربية تتقوض قليلا قليلا، وقد تختفي هي الثانية، كما اختفى الاتحاد السوفيتي، كما اختفت حقب، أجناس، دول، شعوب، حيوانات، اساطير، حضارات. ص176 لابل انه يكتب خواطره وقصائده بالانكليزية لان عربيته تكاد تتلاشى، عارضا اياها على هدى، التي ما أسماها أمي، دلالة على تهشم علاقة الامومة والبنوة بينهما، ويبدان كلاهما بالترجمة، ترجمة اشعاره وخواطره الى اللغة الام، تقرأ هدى بصوت عال ونبدأ كلانا بالترجمة. نقرأ ونتنهد ص177، ويا لفجيعتنا بالذي حصل لنا وانقطاع الاواصر بالوطن.. ولغته وخاصة لدى الجيل الثاني من المغتربين، جيل الابناء والاحفاد، الذين مارأوا ارض الاباء والاجداد وشموا هواءه ونهلوا ماءه.. صارخا مازن هل سأبقى هنا حتى تدق عنقي؟ هما يعرفان اين ينام وليدهما اما كيف ينام ذلك الفتى فلا يعرفان … اني لست ولدهما فقط انا … ولد التوزع والفوضى والمزاج المغاير لاحدهما… ص186.
/8/2013 Issue 4484 – Date 17 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4484 التاريخ 17»8»2013
AZP09