الولع لعالية ممدوح – رجاء عالم


لا تستهويني اليةُ الكُتِبِ، بقدر ما يستهويني ما تحمله من طاقة، هي من صُلْبِ الحياة وتتفوق عليها. الولع، كتاب للكاتبة العراقية عالية ممدوح هو تسجيل لموقفٍ يَتَفَلتُ من ذاكرة الكاتبة (اقرب للشحنة او للصعقة ساهمت الى حد كبير في صياغة مُبْدَعتها ككيانٍ مُتَمردٍ وقادرٍ على التخليق والبقاء).
يتاسس النص على مونولوج داخلي يتم في دخيلة الشخصيات الرئيسية (مصعب، وزوجتيه هدى ووداد، وابنه مازن من زوجته الاولى هدى. وتدعم روايَته ثلاثُ رسائل تبعثها البطلة لصديقتها بثينة، بل يبدا بواحدة من تلك الرسائل، فتفضح الرسائل والحوارات الداخلية الماضي والحاضر وتتكهن باللحظة التالية

او تناوشها، متمحورة بالنهاية حول البطلة هُدى التي هي بورة تلك المناوشات ومحاولات الكشف والهيمنة، الكتاب هو هذه المنازلة بين البطلة وكوابيسها او عادية المحيط بها والذي لا يخترق عاديتَه الا البطل مصعب، الذي تهوي به الرواية لدرجة الوسواس وترتفع لدرجة البطل الاسطوري المُدَمر لذاته ولمن حوله، حيث يتوجه النص لمواجهة وكشف (بل ومشاركة التلذذ ب) فعل التدمير الذي يُمثله مصعب، ترسمه عالية المتوارية في الكلمات بصفتها البطلة الحقيقة لتلك الاحداث، فتلهث محاولة للقبض على كينونة (او شحنة) قد لا تتكرر وقد لا ترغب الكاتبة في تكرارها (حيث في تكرارها كابوسية لم تعد قادرة على التعاطي معها واستعذابها) من هنا تجيء محاولة التاريخ او تحويل المُفْزِعِ لكلماتٍ تحت السيطرة، لاننا حين نكتبُ الاخرَ نُعيدُ تشكيلَه على هوانا، نُحْكِمُ السيطرةَ عليه وعلى نزواته وانفجاراته المباغتة، محاولة قد تنبع من تمام العجز عن التحكم، او من تمام الانتفاض صوب التحرر من تلك السطوة، تقول عالية على لسان بطلتها هدى: «انني لا املك بالطبع اي يقين نهائي في اي شيء، وليس لدي ادلة او براهين، لكنني اختلس النظر» على ما في الاختلاس من ثقب الباب من حجبٍ او تضخيم لموجوداتٍ دون اخرى، تدجينٍ او اطلاق في التوحش.
يستهويني الولعُ بصفته محاولة لاعادة الحياة، بغرض الفراغ منها للانتقال لحياةٍ اخرى، توضيبٍ لاوراقٍ في ارشيف الذاكرة، مُرَاجعة قَبْلَ قَلْبِ الصفحة الطافحة بكل مُتَنَاقِض لصفحة ربما اكثر تناقضاً، او هو لقاءٌ على مسرحٍ موقت (كما الحياة) تتهيا فيه الشخصيات للفراق لمسارح قد لا تلتقي، وهذا ما دفعني للتوقف عندها والكتابة استقاءً منها، هذا العجز عن مقاومة (او الوقوف بلامبالاة تجاه) فعل الولادة واعادة الولادة الذي يمارسه المبدعون، مهارة «اعادة التلاقح حتى مع الغبار» (غبار ما كان ويكون)، التلاقح مع الذات هزائمها وانتصاراتها، ذكورتها وانوثتها، تُصرح البطلة، «كم اتوق للتجوال الان، السير (على غير هدى) الا ترين ؟ لا ليس التنزه، بل المشي الممض، المعذب والطويل، وكان الطريق بلا نهاية.
(انني رجل) اي علي نسيان انني رجل». تُلَوحُ لنا بهذا الالتباس في الهوية، لا ليس التباساً بقدر ما هو تمام الهوية، التمام الذي لم نعتد مواجهته، لانهم اخبرونا ان علينا الالتزام بالجنس ذكراً ام انثى، بينما يتم الوجودُ بمغادرة الحد والتجول بين العالمين على هوانا.
«الخائن كامن في كل واحد، وليس في الخارج». نتساءل للمحة: هل كتابة الولع هي التجسد لتلك الخيانة ام البراءة منها ؟ لا فرق، تقوله عالية على لسان مصعب: «هناك لحظة ينبغي ان ندرك فيها ان البطولة توشك ان تتحول الى خيانة. ليس من اجل الشهداء يا مازن ولا الاحباء الناقصين، لكن من اجلك انتَ وغيرك ممن في مثل سنك»، فعل الكتابة هنا تطمح لتجسيد لحظة الخلاص من المسبقات، لحظة بدءٍ لم تُثْقَل فيها الكلماتُ بعد بمخزونها من المعاني سلبية كانت او ايجابية.
يصفُ مصعبُ بطلتَه: «امام الورق تنتقل من حالة البراءة الى حالة العفوية، والجميع يتربص بها في اللعب. فتخسر ولا تهتم بالربح اطلاقاً، هي مفعمة بالخسارة الى اقصى حد، حتى لتبدو خسارتها جزءاً من انبهارها بالعالم. فالربح يُورث الكابة، وعكسه يورث الندم وقلة النبالة، لكن هدى – عالية تربح دوماً. لم تخسر احداً، لا الزوج، ولا الابن، ولا الاصدقاء». ورق اللعب او ورق الكتابة، لا فرق. تتدفق عالية بالكلمات وتروي خشيةَ ان يقتل الصمتُ الحكايةَ او يُفلتها من بين اصابعها، تُعبر عن ذلك على لسان مازن الابن: «وان الكلمات لا تنتظر كثيراً تحت الجوانح، اذا انتظرتْ شاختْ، او تعفنت، ومن يدري لعلها تُفرخ وتُنجب اولاداً واحفاداً….
ينبغي علينا ان نتحرك في هذا العالم…. كنتُ اود لو اسجل كل ذلك على شريط فيديو باسم جيل ابي، جيل الكرامة العربية». ويوكد مازن «بالطبع لم استطع كتابة اجمل ما يمكنني قوله. فربما كان هذا الامر يستدعي امحاء الروح او الموت». ويقول مازن «على كلّ منا ان تكون له هزيمة ما كي يستكمل بها شرطه البشري». وعالية تقارب امحاء الروح لتفضح الولع وتنجو بهزيمةٍ صغيرة تُكسبها الحرب، حنين الكتاب للوطن العراق او رثاوه ما هو الا «حنين للماضي الفردي. يجري الحديث عن الوطن كما يجري الحديث عن الشباب الضائع». والذي توكد لنا عالية بولعها انه يكمن في الكتابة / الخلاص. «ان هدى توفر الحياة للجانبين، الاعداء والاحباء». توفرها بما تطهيه من اطباق وكلمات، تصير اللقمة والكلمة واحد، خالق، مانح للحياة على يديها، كتابة تتعمق لتمنح عمقاً لما لا يمكن تبريره ولا مواجهته بعادية، وكما يجيء على لسان ضُرتها:
«كانت تجلب اجوبتها من فوق، من الطبيعة، كان الجمال الذي لا اعرف له سبباً، ولا اريد ان اعرف، هو الذي يدع الكلام والمفردة ينطلقان من بلعومها…» منطقة من السحر تظل تحمي عالية في ولعها وفي ايقاعها اليومي.
نعم «ان التفاهات وخواء الاخرين لابد منها، كي نفترق عنهم، والى الابد». يظل ذلك شعارها وان كانت تتعاطف مع الضعف كثيراً، وتُجيد التعامل معه بامومة.
(ضاحية الغضب، كنوز المكري، الطير العراقي، البيت، الابناء القساة، تكهنات الظهيرة، هسيس اللحظات، افصاح التوقعات، الطغاة الصغار، كائنات الكرب) تشعر ان عنونة الفصول وتقسيمها لاحد عشر فصلاً لاضرورة له، حتى ياتي الفصل الاخير بعنوان (الحصى بين الاصابع) فتعرف ان في التقسيم تقاسيم حياةٍ تكون للابن الكلمةُ الختامية فيها، ينفرد مازن بخاتمة الكتاب ليقول الحياةَ وتجددها في صيغة الابن الذي يحمل كل العذابات ويُلخصها في كينونته الجديدة والقادرة على المنافسة، هذه الكينونة التقنية المُحَملة بالشعر وبالاغاني.
*** عالية ممدوح، وفيما لو كان الكاتب بكل ما يكتب يكتبُ ذاتَه، فان عالية هي الولع، هي تلك العين المُرَاقِبَة التي لهدى بطلة الرواية، هي هذا الطوفان الذي يعصف بالمكان ولا يُبقى ولايذر، لاول مرة انتابني شوق لاعادة كتابة بطلة الولع في رواية، لاعادة تجييشها بهذا الذي اكتمل فيها بالحياة والموت ونَضَجَ، لان بوسع عالية ان تحب كطوفان وبوسعها ان تُطريك وبوسعك قبول كل ما لاتقبله من سواها، لان كل ما يصدر عنها قوي واحياناً لدرجة الفجاجة لكن بنكهة وَلَعٍ خاصة. اتذكرُها في اخر لقاء في ربيع باريس، كان الوقت صباح الجمعة، كنت اعرفُ ان علي العودة للافطار في قبو القصر الصغير الذي حولوه لفندق، وكنتُ قد غادرتُ لموعد الطبيب منذ السادسة والنصف، لا تستيقظ باريس مبكرة، تكاد تخلو شوارع السان جيرمان، الا من عربات توريد الورد والكراوسان والباجيت الطازج والفواكه، وهذا العامل الضخم بمخابز (بول) يصعقُ سوادُه في نصاعةِ الدقيق وقبعة الطبخ، ومن وراء الزجاج يغمز مُحيياً! لم اكن اسير بقدر ما كانت الشوارع وروائحها مما قبل اليقظة تاخذني، تناولتُ غصناً من تلك الشجرة الشاحبة، جلستُ على مقعدٍ مهجور ولاتزال تغطيه بقايا نداوة الليل والحمام، كانت باريس لي وحدي في صباحها الباكر ذاك. الان غصت الشوارع، تجاوزت العاشرة بقليل، موعد لقائنا، كنتُ مقبلة من شارع نابليون بونابرت، وورائي نافورة سوبليس، وامامي تقف عالية على ركن كنيسة السان جيرمان ومواجهة لمقهى الديماجو،
«دقيقة وكنتُ ساغادر». استقبلتني بالاحضان مُنْذَرَة.
«عذراً، لقد امتدت جلسة التدليك، لم اشعر بالوقت». على جبهتي اثار الحفرة حيث اُغْرِقُ وجهي ريثما يتم تنضيد عظام عمودي الفقري. تمسحُ عاليةُ الحَد على جبيني بحنانها الطافر.
«ياعيني». تقولها بطريقتها الخاصة التي تحتمل كل شيء، انها تشفق عليك ولا تُشفق، انها تُحْبكَ ولاتُحِبكَ، انت في كل الاحتمالات معها، وهذا ما يمنحها تفرّدها.
انزويتُ وعالية في ركن الديماجو مشرفتين على شارع السان جيرمان. انسياقاً للحظةِ افتتحتُ المذاقات بالقهوة المُرة وبقايا الصباح، تلذذنا بمُرَبع الشوكولاته الخفيف كورقة تذوب على اللسان، تَحدثنا عن الالم وكونه حالة ابداعية، عن الاخر والعَالَم الذي يُساهم في صياغة عجينتنا الجسدية والروحية في كل لحظةٍ ومع كل نَفَسٍ نلتقطه! تحدثنا سيراً للمسافة من محطة سان جيرمان للاوديون حين وَدعتُ عاليةَ لمترو الانفاق، وجعلتُ طريقي للفندق.
هل يمكن ان نحب شخصاً قبل ان نقراه، ان تكفي نظرةٌ لوجهه لتُبَصرنا بدخيلته الشديدة التفرد، التفرد لا بمعنى المديح وانما السبك خارج القوالب والتكرار.
«هدى كانت الطاعة توذيها، اذى جسمانياً، كان توضع روحها في معصرة كهربائية، ويتم هناك تلاشيها فلا تعود هي اياها..». هذا ما تقراه في عالية حين تُقبل عليها، تعرف ان ولاءها لا ياتي من جعبةِ الخوف في الراس وانما من الضمير المتيقظ، لذا تُخيفُ محبتُها بقدر غضبها وكراهيتها. من هنا تجيء كتابتها في منطقة لا تتوسط، ولاتُهادن: «كتابي الجديد كارثة، وسيخلص مع الصيف». تُهَددُ، ونترقب.