إلى كندا؛ أفرح فإن الله يحب الفرحان

عالية ممدوح
1
في الحي العاشر من باريس وفي شارع ضيق وضاج ومزدحم بمحلات بيع الجملة والمفرّق، والمقاهي والحانات وآدوات الترميم الجارية لأغلب ضواحي وعمارات باريس من كل فصل وفي الرقم 82 من الشارع تقع القنصلية الكندية. نُقلت إلى هنا بعدما كانت تزهو في أحد أرقى شارع في باريس الباذخ والحاشد بدور الأزياء العالمية الواقع في نهاية الشانزليزلية. كانت الحرارة خانقة والشارع يبدأ بالارتفاع قليلا. ألهث وأنا أقف أمام باب أخضر ضخم من خشب يقول عمره العتيق. في الداخل عدة شقق والفسحة نظيفة مشطوفة للتو، وفي الواجهة لوحة معدنية معلق عليها علم كندا بورقة شجرته الأشهر والتي تعرف بورقة الإسفندان الذي أختارته هذه الدولة شعارا لعلمها. علم الأمم هو امتداد راديكالي لأسئلتها الحقيقية وتأملاتها الوجودية محصوراً في مفهوم فلسفي، هو بالضبط المساحة اللامرئية من الحرية، حرية الطبيعة المخيفة التي تحيط كندا وتحدد موقعها كثاني أكبر دولة في العالم، فتتوقف أمام ورقة ساقطة من تلك الشجرة الفاتنة لتضعها ايقونة على حدودها المعلومة والمجهولة. فتح الباب ودخلت. كانت القاعة شبة فارغة إلا من أنفار بسحنات أفريقية وآسيوية. أحمل ملفاً فيه العدة والعتاد. كدت أطلق ضحكة ذات وقع أمام هذا الهدوء المريب والتهذيب الجم. ففي كل مرة أذهب لدوائر دولية أو حكومية أرتب الهندام والمستندات فأضعها واحدة بعد الثانية وحسب الأسئلة، هنا في أوروبا، وهناك، وأنت تشد الرحال لزيارة الأبن والحفيدين، عليك أن لا تتلعثم في كلامك الأجنبي وأنت تنسق الحاضر أمام الموظفة المسؤولة التي ستقابلها بعد ثوان في انتظار الغد.
2
في أول الباب تواجهنا الموظفة الأولى وإلى جوارها آلة وعليها عدة ألوان، كل لون يعني قضية حضر المرء من أجلها. أخبرتها بحيل صدر ان ملفي كامل الأوصاف ، بهتتْ ياعيني، فهنا لا أحد يحضر وهو كامل مكمل حتى إذا كان أسمك كامل فما عليك الا ان تجري عليه بعض الترميميات، فالأمور ما عادت هي نفسها. أستبق الأحداث دائما، فأنا لا أكتب رواية، ولكنها رواية كل واحد منا، رواية كل يوم. أخذت الرقم واللون إياه وما أن بدأت بالجلوس قريبا من الشاشة حتى شاهدت عليها رقمي. سعدتُ وكدت اصيح، هلموا..! وقفت أمام شباك رقم 3. القيت التحية من وراء الزجاج وأخبرت الموظفة ان الملف قد اشتغلنا عليه أنا وأبني مشاركة فالمعلومات المطلوبة عنه أكثر من تلك التي عني. أتحدث وأنا أقدم مستنداً وراء آخر، ولا أرفع رأسي إلى السيدة ألا بعد الانتهاء من الورقة الأخيرة. عندما شاهدتها وهي تعيد تصفيف الملف ثانية ودفعه بهدوء من تحت الزجاج بأدب شديد، وبصوت غاية في اللطف ترفع بيدها ورقة مربعة مطبوعة بحروف جد صغيرة تجعدت من الاستعمال وهي تقول:
أنتم اشتغلتم على استمارات تاريخها يعود إلى 2006 وأخٌذت رأساً من الحكومة الكندية في مونتريال. الرجاء الدخول إلى هذا الموقع وعمل اللازم.
حسنا، وكم يستغرق منح الفيزا من وقت من فضلك؟
ابتسمت ابتسامة المونا ليزا القاتلة وهي تجيب:
كل أمرىء وحسب بلده وجواز سفره!!
وما إن حاولت الامعان في تعذيب نفسي بالأسئلة حتى دلت بيدها وبدون تأفف قط:
جميع ما تشائين من أجوبة تجدينه في الموقع.
3
مضعضعة كنت وأنا اخذ مقعداً في أحد المقاهي. طلبت شكولاته حارة جداً جداً. أبتسم النادل فحرارة الجو ليست بالضرورة أحرّ مما في فؤادي. في العام 2013 وبعد أقل من اسبوع استقبلني مسؤول القنصلية ليطرح علي بعض الأسئلة الروتينية. سبب الزيارة، ماذا أكتب؟ وهل أنا في زيارة عمل، فخانة الشغل تمنحك على العموم فرصة في اختزال الوقت وبث الطاقة الايجابية التي تدفع الغير وعلى الأغلب، بتقدير المهنة وهذا من حٌسن الطالع. في المقهى أرسلت كل شيء إلى ابني ودخلت بدوري إلى الموقع الموما إليه. كانت هناك طوفانات من المعلومات والأسئلة، فحضرت بيبي وفيقة العظيمة، التي كانت حين تشتم أحداً تفعل ذلك في سرها في بادىء الأمر. نرى شفاها تتحرك ثم تنزل اللعنات على الذي خلفنا وخلف الذي خلفنا من سابع ظهر. كانت ظهور اجدادنا تتقافز أمامنا ونحن لم نر جداً واحداً، لا من جهة الأم ولا الأب. والآن ماذا علي أن اشتم وبمن أبدأ؟ بأي ظهر، الأول أو الثالث، أو الخامس أو التاسع حتى أصل إلى ظهري المغولي. كانت الشفرات أمامي مفرطة في قابليتها أن تكون وحالا ضدي فتخلق عالما معكوساً. هي أنواع من الأسئلة وكأنها رموز رياضية، لكنها أسئلة حقيقية وواقعية ولا علاقة لها بالبنيوية أو التفكيكية الخ. فهي ذات وظيفة احصائية تسأل ولا تلعن كجدتي، لكنها تريد ان تقوم بتحليل ظهور اجدادي واخوالي واشقائي. من هي هذه الأجنبية البدائية؟ فتأخذني خارج العالم الافتراضي وتضعني أمامها على الأرض. أربع عشرة استمارة تصورتها تتناول وبالمقلوب افكاري وأفكار أهلي وبيتي وشارعي ومدرستي الأبتدائية ومنامتي المنزلية. من أنا في الاستراتيجية الغربية الجديدة؟ ومن أكون؟ وماذا يٌنتظر مني؟ وكيف سأتصرف في العالم الجديد جداً؟
4
لم يعد شفيعا لي أن يكون ابني كنديا وبريطانيا معا. وأنه متفوق في مجال عمله الالكتروني ويدفع ضرائبه ويحترم العقائد والتعدد والاختلاف كما تربى في بيته الأول. لم يعد شفيعا للحفيدين مناجاة الجدة وما على هذه إلا ان تلوذ بالصمت. تسارعت الأحداث وعبر النت اشتغلنا على إملاء الاستمارات التي لم تكن معتمدة من قبل ألا بورقتين اثنتين. مطاليب طويلة، ومزعجة تشبه ساعات العمل الاضافية فأنا أعرف هذه الدولة الراقية ذات التعايش الحضاري والعرقي ولمْ الشمل، وفتح الأبواب لأجيال يافعة ذات تأهيل مهني وأكاديمي بمقومات العلم والمحافظة على روح التعددية ونمط الاندماج والتوافق، وتبجيل معنى الحرية التي بمقدورها شحذ الملكات ورفد الإبداع والابتكار. قبل بضعة أعوام قرأت، انها الدولة التي تتفرد بفراغ سجونها!!. انجزنا الملف الاستثنائي الحديث وعن طريق النت أرسل إلى العنوان المطلوب. وما من جواب. كتبت في روايتي غرام براغماتي عن انتظار المحبوب وانبعاث سقام الوجد من جراء ذلك، أنا الأخصائية في الانتظارات الطويلة، أطول مما عشت! انتظاري لنيل الفيزا واللقاء بالمحبوبين الحقيقيين الذي أريد الاختلاء بنبل القلب وتهدئة المشاعر وطمأنينة الروح، بتلك الروائح التي تُبث اريجها من صوابين الحمام، ومناشف الوجه، وثياب اليافعين منشورة على حبل غسيل يعرض الاعمار والالتباسات، وكوي لسراويل مختلفة في الطول فتضيف هامش الرشاقة والنحافة وتمارين الرياضة والمشي في الغابات وبجوار البحيرات ونحن نضحك ونقهقه، وربما نبكي.
+++
أتوهم حقا بإقامتي ووجودي القانوني في دولة تقع في قلب الحضارة الغربية، باريس. لكن ثمة ما يستدعي الفزع المريع مني وعلى أكثر من صعيد. أنا مفهوم باعث على الرعب، وإشارة تدل على الفزع، ووشم يميز حقبة محمولة بدم بقي يجري منذ قرون وما زال. وخاصية ارشيفية مهرت التاريخ وهي تتحدث عن مبدأ: التشبث والتمتع بالموت. احتكاره بنا وتوثيقه بغريزتنا، ولذتنا في التحدث عنه وتكراره، والأجبار والحرص عليه. أنا صيدلية الموت، بالاعتذار من افلاطون وصيدليته، ومن الواجب أن يأخذ الآخر بالحسبان من جميع ما دونته وتفوهت به، وانتقل معي عبر الماضي والحاضر ذاهبا عبر القارات جميعاً. عندما وصل الجواب وعبر النت وبعد تأخر طويل، كان لدي مرجع واحد، شخصيا اردده دائما في أثناء الكرب: أفرح، أفرح فإن الله يحب الفرحان.
السبت 23 شوال 1436 هـ – 8 اغسطس 2015م – العدد 17211

http://www.alriyadh.com/1071480