إلى دُنى غالي ؛ التي ألوّح لها من قريب …


عالية ممدوح
1
هي تلويحة تومئ وتدنو ، تناجي وتصمت ، ولا تريد أن يأخذها المحبوب إلى الفطام، لا منه ولا من الحب الذي يشير بخفر على تحولاته ، ويقول في وقت واحد ؛ كلما ندون أمراً عن الولع نبتعد خطوة أو خطوتين عنه . هذه ألغازه وعلاماته في ديوان الشاعرة والروائية والمترجمة العراقية دُني غالي : تلك المراوح التي تلوّح من بعيد :
: ” لو انشدت عيناك
تراقب الفصول
وهي تعبرك بهدوء
وأنت ترد التحية بأكثر منها
لو امعنت
سترى جذري ينبت على جذعك ”
جميل البياض في ديوانها بين يدي ، فأراها تشتغل على الكادر كسينمائية محترفة ، مصورة بارعة ، ومونتيرة بامتياز . تقطع وتوصل، كما نقول بالعراقي ، تكسر وتجبر، وبلهجتها البصراوية الفاتنة على الخصوص في قصيدتها التي تحمل عنوان الديوان ، فأرى يافعات مغرمات عراقيات يتحركن بين المحيط الهندي وبحر العرب ، في أبي الخصيب، يوقدن الشموع في صواني النذور ويدفعن بها بعيداً . بيدهن المراوح وهن بين انتظار ووداع المحبوب / البلد ، وذاك المغروم المكسور الخاطر :
” مراوح بيض في صف منحنٍ
طويل طويل
في فضة خالصة
غير آبهة
تدّعي أنها الأخرى
أسقط بيدها
الأولى الثانية والثالثة
مثل الاغراب نقول
بانتظار ما تقرره الريح ”
2
انتباهات وجودية لتفاصيل دقيقة ، في العلاقات الإنسانية والعشقية ، تشتغل عليها بصيريا ولغويا وتقولها على مهل التجربة . تكتبها هكذا فليس هذا متاحا كل يوم . تتذوق ما لا يجوز أن يقال إلا بصوت جد خفيض ، أو هكذا :
” ليتك تقترح عليّ صورة
عن نفسي
للإطار الخالي على المكتب
ليتك لا تحسب الأمر تمرينا
لحزم الحقائب
والسفر ”
الشاعرة وعائلتها يعيشون في الدنمارك بين المنفى ودوار تلك البلاد . تشتغل بعمق على مفهوم المدينة ، خلاياها كلها والعلاقة مع قوانينها ، وبذلك القدر من الذكاء والرحابة والحزن أيضا ، فهي مع ندرة من العراقيين من كتب من داخل مصارين البلد الذي يحيون في مركزه ، ويتداولون إرثه بالترجمة ، ويشتغلون بمعنى من المعاني على إغناء التلاقح الثقافي في مشاريع دنماركية وعربية . في نص الشاعرة رصد للأشياء فريد وبسيط بصورة راقية :
” عند موقف الباص
بدت القرية مكتفية من دوني
مثل نداء هادىء
أرتد إلى نفسي ؛ عودي
قحط يترصد
هجرة من جديد ”
أقرأ يوميات الضوء الآتي من الداخل فبلاد الشمال ، نورها رصاصي واستطيع بفضل يقظة الشاعرة الروحية الوصول إلى شقتها وضرب جرس الباب ، وفي لهجة غاية في الاريحية تمد رأسها من الشباك وتصغي بانتباه وهي ترحب قائلة:
” أشكّ في المرآة
هل يرون ما أرى
أم أنها حمّالة أوجه “.
3
تراوغ الشاعرة وتلعب عل الموجودات، بدرجة الوفاء للأمكنة غير المنجزة ؛ بمعنى إننا نحاول أنا، هي أو أنت القيام ببعض الانجازات من داخل الحقبة التي نعيش فيها ، ولكن خارج وهم سقف توقعاتنا المرتفعة التي قد تكسر رقاب بعضنا وترميه بعيداً . دُنى غالي يسكنها تداخل الأمتلاء ببلد فتك به الأبناء والأغراب، ومنفى مدعوم بأسئلة ومحبة تستغرق الديوان ، حتى لو بدا الحب الشخصي هو المعنى الخاص / العام أيضا. تحتفي بكدح الترجمة أيضا من الدنماركية للعربية . فبلد المنفى يدعنا نراه أكثر رقة وأشد صقلا، وهي تقوم بتدعيم معارفها ، فتصدر عدة عناوين لافتة ؛ اكتشافات متأخرة ، انتصارات صغيرة، إضافة للترجمة للعربية في الشعر واليوميات والمختارات ما بين اعوام 2004 إلى 2012 . وكأن جل ما تقوم به هو الاقتراب من الآخر الذي يعني الدفاع الوجودي عن فداحة المصاب في ذاك البلد المفتت والمهجور : ” ويسير على الجمر ليقصر الطريق ” . الديوان يحمل حكايات معبرة قصيرة ثرية تصلح أن تكون فاتحة لفكرة روائية تترتب عليها حياة صادمة ، تحضر دائما من حيث لا نتوقع : ” أجرُ قدميّ
حين جيبوبي سواحل
تحمل مخلفات دمار
في طريق عودتي ”
لاحظتُ عبر نصوصها ، وربما من خلال طريقة تفكيرها ، انها تملك الإرادة في المواجهة وتطبيق ذلك على الذات ، وهو الأمر الأصعب لدى الكثيرات والكثيرين من الذين يكتبون ويقيمون الحوار بينهم والآخر ، بينهم وأنفسهم ، وهذا هو الذي يستحق التقدير . وهذا يتضح من كتاب لآخر ، فالحرية التي يتمتع بها الغريب المنفي ، المهاجر والمغترب ، وهناك تسميات والقاب لا تحصى ولا تعدْ كلها تطرح على المكان ونحن داخله اسئلة حارقة ؛ سؤال الحرية بالدرجة الأولى . أظن أن اعظم مؤلفات أي كاتبة / كاتب ، هو الحرية التي لا نُقسم باغلظ الإيمان ، وكل دقيقة، اننا نستحقها في حياتنا العامة والخاصة ، فالكثير منّا ومنهن يستعيرها فتظهر واضحة وبدقة في نتاجه وسلوكة لكونه هو / هي لا تصدقها وبالدرجة الأولى . دنى غالي حريتها تظهر في أوراقها كمغرمة ، كامرأة ، في هيئات من الايروتيك المشغول بالعفة الناضجة فيسيل بالحشمة . ما هذا .. هل هناك مواكب عاطفية نتلصص عليها ونردد في سرنا ؛ ذاك لم نختبره شخصيا !
” كفي عن الهذر
لست سوى أغنية
ألبسي جسداً اقيم فيه
تلثغين أيضا فلا أفهم
هل أنت حرة ؟
” نقول إنه قبل النحل
وبعد الموت
وعلى مهل
والصحون
لا مانع ان تبقى
في مكانها على الطاولة ”
دعيت الكاتبتين الدنماركية كريستين تورب ودنى غالي لتلبية دعوة كل من النادي الأدبي في الرياض فاستقبلا من قبل الناقد المميز الدكتور سعد البازعي ، وفي الدمام قدمهما رئيس فرع جميعة الثقافة الشاعر أحمد الملا في العام 2014. ونقلت تجربة ترجمة رواية ” أله الصدفة ” التي قالت مؤلفتها : إن هذه الرواية تمثل نقداً للعقلية الأوربية وصعوبة تقبلها الثقافات الأخرى” .
+++
هو ديوان الالتياع وحكاية مغامرة النفي والترحل، هو تلويحة للمدينة ، للمدن التي تعلمت فيها، وتلك التي علمتها الهجر. وهو يوميات الطبيعة الهادئة والباردة التي تتلاطم دمويتها في نصوص غالي فتغري بالفضول ونحن نقف أمامه نرقبه ونتفاعل معه . هو تلويحة لموقف للباص النظيف، والباخرة ، الشرشف والمطبخ والاولاد ومواعين الليل وآخره والثلج في أقصاه، وكل شيء مكترث به وبنا إلا ذلك البلد. ديوان بعض المقاطع التي تشوي الكف في أثناء القراءة، على الخصوص صفحات ؛ 86 و 87 وإلى آخر الديوان . هو كتاب الغرام في المنافي الذي تنهكه عضات اللغة ولدغة الخديعة ، والمنفين الذين لا يتعبون من النفاق والتدليس . كتاب معالج من الترحال الذي يوجع الفؤاد بطريقة اكتشافات طرق في تناول الحب ذاته وعلى الريقْ . حب رجراج فهو لا يقف على أرض صلدة ! . نقول، الغرام في البلد يتحمل الرمد في العينين ، يتحمل الغبش وقصر وطول النظر، يتحمل الانفصام اللغوي والشخصي ، لكن هناك في مكان خارج ذلك الحب السري ، تأخذنا دنى غالي إلى مجرى آخر :
” عسل ربيعي
اجمع له في قبلتي
من مائه زهرة ”
السبت 19 شعبان 1436 هـ – 6 يونيو 2015م- العدد 17148

http://www.alriyadh.com/1054554