عالية ممدوح
1
ترى ما العمل بكل هذا الجمال؟ في مقال قديم لي عن الامبراطورة ثريا، كتبت ما يلي؛ انها وحدها سلالة. أسمهان سلالات من اللانصياع الذاتي، احتجاج الهوى بالغناء. إبقاء الصوت، صوتها غير قابل للتصنيف. دائما كانت في الحالة الأقصى، ولم يتسن لها الوصول حتى إلى ردهة الانتظار ولأي كائن كان. في حياتها وفرة من الألم، وإفراط في الشجن والشقاء فكانت تبعدهما سهوا وتهدّي من غلوائهما بالطرب. كنت أرى في شخصيتها نوعا من التودد للموت، كانت تناديه فبقدر ما تقبل على الشغف كان اقبالها على الموت. أستطيع الكتابة عن أسمهان فلا أقول شيئا. منذ وعيت لم ينبثق صوت لا يفارقك ولا يتركك، فترغب ان يكون سرك الوحيد الذي لا تبوح به لأحد، فهي لا تغني إلا لك، دائما تصورتها هكذا، وحدنا ولا ثالث لنا، أنا أنتحب وهي ثملة بحالها وبكيانها وببحتها وبكينونتها وباللاشيء الذي تنتظره فلا هو حضر ولا هي استجابت، فغادرت للبحث عنه. صوتها لا يبحث عن حل، هو الحلول جميعا فيدخلك دائرة نطقك ويتحكم في لهجتك وعزلتك وتراجيدية هذا المخلوق البائس الذي يدعى الكائن البشري. كأنني أريد ذريعة لكي أكتب عنها، هي التي تتطير من التأطير. ياه، كم كانت أسمهان وحيدة في ليل صوتها الوحيد.
عندما أخبرتني الروائية والصديقة إيمان حميدان أن يوم التاسع من نيسان الماضي 2015 سيتم عرض فيلم أسمهان ولمرة واحدة في مهرجان الأسبوع العربي الذي يقيمه القسم العربي في مدرسة: سوف ادونها في الفرنسية هكذا:Ecole Normale superieure سعدت سعادة فوق الوصف. الفيلم تسجيلي توثيقي وشبه روائي في نظري وبحثي من الطراز الرفيع. فالمخرج الطلياني سيلفانو كستانو شغف بأسمهان وبشخصيتها الفذة. فكان الفيلم عملا مشتركا من كتابة وبحث مع الروائية اللبنانية حميدان، وإنتاج شركتَي اتوبيك وتاماران. وقد عرض في بيروت ولمرة واحدة أيضا في مهرجان السينما الأوروبية عام 2014.
2
الفيلم يتسم بخصوصية شخصية اسمهان التي كانت تتنقل ما بين جبل الدروز والقاهرة والقدس وبيروت والعودة ثانية إلى دمشق، وبذلك القدر من التنوع والشائعات والأكاذيب والنميمة والمهارات والفضائل نفسها التي ساعدت اسمهان واهلكتها في الوقت ذاته. قدمها الفيلم عبر البحث عن خط سيرها ودمها ومقتلها وحريتها وعنفوانها، ومن خلال ورق أصفر عتيق ومجلدات ركنت وغطاها الغبار في المكتبة الوطنية في مصر، فلا كتب صدرت عنها في تلك الفترة إلا الريبورتاجات والصور، ولقطات من افلامها القليلة، وحوارات صحافية معها. صورها بالطبع على اتساع الشاشة، الطفلة الذهبية واليافعة المغناجة التي تسير بجوار الجنرال ديغول وحولهما الجنود الفرنسيون. الصور القديمة بسبب قدِمها مذهلة. كانت عملية البحث التي قامت بها الروائية حميدان وكاميرا المصور والمخرج وهم يسيرون في الحواري والشوارع والجادات والأزقة الضيقة والمكتبات، ملاقاتهم بالفنانين والموسيقين ذات ايقاع سريع مبتكر وقد قُدم بحرفية ومهنية عالية وراقية وعبر كل هذا ظل الصوت يوثق كل ثانية من البحث، ما دون عنها، ما تعدى الموت، موتها. فقد ظل مقتلها يحمل شحنة من الالتباس والغموض لليوم. هل قتلت ومن قتلها؟ أم كان الأمر قضاء وقدراً؟ هل عملت بالتجسس؟ وما هي منطلقاتها. الروائية حميدان قالت: “أنا لا أصدق ذلك أبداً. اسمهان لم تكن جاسوسة. أنا قمت بالبحث والعمل على هذا الفيلم من أجل رد الاعتبار إليها. فحين كنت صغيرة وفي بيوتنا الدرزية كانت العائلة لا تسمح لنا بالتحدث علنا عن اسمهان. أجل نصغي إلى أغانيها لكن نتوقف أمام أسرار حياتها. هي في رأيي سيدة امتلكت حياتها وذاتها، وقررت مصيرها في مجتمع درزي شديد المحافظة. هي حاضرة في جميع أعمالي فسحر وجودها وعذاباتها، جمالها وأناقتها وحيويتها لها مركز جد شاهق في روايتي التي ستصدر قريبا”.
3
لقد تحدث ابن أخ فؤاد الأطرش الذي يعيش في سويسرا عن شائعة الجاسوسية فرد: إنها اشتغلت لبلدها واستقلاله. كنا نستطيع أن نسمع حدود الحكايات تلك حين نشاهدها تركب الفرس وتسابق الريح وهي تتحدث الفرنسية مع الجنود الفرنسيين. ونقدر سماع وجيب دمها وهي تنشد للرسول الكريم “عليك صلاة الله وسلامه شفاعة ياجد الحسنيين” لقد دون التاريخ الفني والموسيقي في أرشيف الغناء العربي، إن مطربتين صاحبتي صوت نادر هما أسمهان وليلى مراد وهما درزية ويهودية قدمتا أهم أغنيتين للحج. كان المناخ الاجتماعي والفني مشحونا بقدر لا نظير له من شساعة التسامح والتعدد والاختلاف وكلمة الرسول العظيم: اختلاف أمتي رحمة. هي دستور ذلك الوقت وكان قبل ثمانين عاما!! “ياديرتي مالك علينا لوم لا تعتبي لومك على من خان”.
تصدح الأغنية وكأنها أنشدت أول أمس والقاهرة أمامنا يغطيها الغبار وسطوحها حاشدة بملايين اطباق الستلايات وتحت أشعة صلبة وقوية تبدو في مشهد استعراضي روتيني للغاية، لكنه يشي بحيوية الحياة المصرية وصوت اسمهان اسمعه يعبر الأجيال والفئات والطبقات والأديان ويعلن استقلاله قبل استقلال جبل الدروز، يعصف وبطريقة لم تتكرر في الغناء العربي، إلا بما نسمعه اليوم من اعراض النفعية والرداءة والغباء النغمي والصوتي. على ندرة وقلة الأغاني التي خطفتنا من اسمهان، فكل أغنية كانت تؤديها كانت تمتلك نشوة السحر والتوحد بها. اختار الفيلم بانضباط تقني وبصري وجمالي مقاطع من أغانيها كانت وستظل تزهر وتنقّي هواء القاهرة الملوث وتجلو البصر وتنظف البلعوم والمريء. وبذكاء شديد كانت أغنية ياطيور قد سحبت اسرابا من طيور المتنزهات القاهرية فكنا نراها تحلق وتحط، بهدوء وانتشاء من فتحات السقوف وكأنها حضرت للاحتفاء والأصغاء.
3
ابنة اسمهان كامليا، قُدمت في الفيلم وهي غير عارفة قدر تلك الوالدة، أو لنقل، لا تعرفها. لقد منع التحدث عنها في البيت، وكما يبدو هي لم تسع للمعرفة أيضا، هكذا اقفلت الابنة صندوقها واكتفت بالتلقين القاسي الذي قام باختزال حياة وصوت وقامة ووجد وتهمة ودور تلك الفنانة إلى السكوت. لقد ربط الفيلم أيضا ما بين اسمهان والعمل السياسي، فقد عاشت في القاهرة التي كانت تسمى ذهبية في الانفتاح والحرية، في صناعة الأفلام وبهجة الاقليات والطوائف والاقوام والملل ومن جميع الجنسيات للعيش بنوع من الانسجام والسكينة والعمل. مرحلة ظهور أم كلثوم علق أحد الفنانين تعليقا مهماً: إن السيدة أم كلثوم قامت بتعطيل الموسيقيين الذين قاموا بالتلحين لها، فقد كان صوتها متوحشاً وله مساحات صوتية نادرة، فقد لُحن لأم كلثوم حسب تلك المساحات، وليس ما اقترحته الحداثة الموسيقية التي كانت في أوج توهجهها على أيدي كبار الموسيقيين الكبار. اهتم الفيلم ب؛ كيف يُخلد الصوت والشغف والولع والغرام؟ كيف يؤلف مصطلحاته ولوحده؟ وكيف يكون هو الفهرس والمرجعية وبمفرده. اسمهان كانت خارج الدور، جميع الأدوار التي حاولوا وضعها فيها، فقد وصفتها إيمان حميدان بدقة وبراعة حقيقية: “إنها سبقت النسوية وكل مفاهيمها دون ان تكتب نوتة حولها أو تصرخ بذلك”.
***
أسمهان كانت هشة لأنها طالعة من مجتمع جد محافظ، لكنها ذهبت إلى الفن بذات السلطة التي يمتلكها الهش وهو يدري أنه يشارك في إنتاج الفذ والخارق ولدينا أمثلة لا تصدق في ذلك. أول مرة أشاهد روائية وباحثة وكاتبة وأستاذة جامعية في دور بحثي سينمائي يتمتع بحماسة الباحثة ونضارة الروائية وحيوية الأستاذة الجامعية، تلك التي تريد أن تخلي مكان النص وهي تبحث عنه من أجل الحقيقة. فمنحت بحضورها قراءة جديدة لأسمهان، المرأة المتحررة الثائرة المتعددة الصعبة رغم هشاشتها. تصورت ان حميدان وهي تقوم بالبحث عن اسمهان كانت تقوم بالبحث عن جذورها وجذوري وجذورنا كلنا كمخلوقات شديدة الاختلاف والغنى والتعدد.
السبت 9 شوال 1436 هـ – 25 يوليو 2015م – العدد 17197