خمسون غراماً من الجنة للروائية إيمان حميدان


عالية ممدوح
1
برشاقة وشجن قاتل تعّين الروائية والباحثة والأكاديمية اللبنانية إيمان حميدان مواقع وأزمان روايتها الجديدة الصادرة عن دار الساقي خمسون غراماً من الجنة وخرائط المنطقة الملتهبة. تشير عليها المؤلفة بالاسهم النارية والدموية، وكيف ينتقل الخاص بإرادة أسراره في الغرام والفقد فيعود إلى العام كمرجعية أولى وعاشرة وإلى يومنا هذا. نساء الرواية: مايا اللبنانية أرملة الحروب،
والزوج الذي لم يبح أمامنا إلا بصمت مرضه بالسرطان فتعود العائلة من باريس لكي يدفن في لبنان. الأبن شادي الحائر بين أم تود إعادة كتابة ذاتها في بيروت، كما تعمل على إعادة إعمار وسط بيروت في انتاج فيلم لهذا الغرض، وهي تبحث عن موت اسمهان، وكأن الموت يرشدها للحياة، فتنبثق علينا حيوات جديدة تخترق الرواية، حين تعثر على حقيبة عتيقة عليها غبار المحبوبين ويوميات الشغف عن أشخاص نتعرف عليهم حالاً فيتوهجون في مواضعهم، ما بين سوريا الكبرى الدامية، والتي لم تنجز خارطتها الأولى بعد تسقيط الامبراطورية العثمانية. الرواية ترسم خارطة شخصياتها من العشاق والضحايا الذين كانوا يتنقلون واذيال ثيابهم دم، وما أن تفتح مايا الحقيبة، حتى نسمع وجيب قلب كمال التركي، المحب الذي لا يتكرر كثيراً في الروايات العربية، وهو يرتج أمامنا غراما، فيطلع منُ نسغ السرد ويسلك طريق الجمل المجنونة، كنت أخاف عليه القتل فالرواية حاشدة بالقتل بعدما قتلت حبيبة كمال نورا. وكنت فزعة لو يتم الغدر بالعاشق أيضا.
2
أقرأ بعيون مايا ونحن في التسعينات عن مرحلة الحرب الأهلية. يوميات نورا بعد أن فرت من جهاز المخابرات السوري وبعد انتحار شقيقتها هدى بسبب أحد عناصره. فتعمل في وكالة صحافية لبنانية فرنسية فيتعرفان كمال ونورا عبرها.، كمال شيوعي وهي معارضة يسارية: “لم أرد أن اصبح شيوعياً مثل أبي ربما لاعتقادي أن كل الشيوعيين هكذا في الخارج يلعبون لعبة المناضلين، يناقشون ويحاورون وفي داخل بيوتهم يعودون إلى طبيعتهم الممتئلة نزقاً ورغبة في السيطرة “. رائحة الجنة تناسب بعض ما يحتاجه المغرمين وسط دول تشتعل ومصائر تبتر فيظهر العنوان الآسر ويقدم من مخيلة الروائية والعاشق وبائع مصري محبوب في خان الخليلي، وهو يسأل كمال بعد أن تنشق عطراً أخاذاً، فيسأله بالانكليزية: “كم تريد ياسيدي؟ هل خمسون غْراما من الجنة تكفي”؟. بين كمال في تركيا ونورا في بيروت وأعوام الجمر بين: 1977-1978، ونورا تقرأ، ونحن في العام 1994، وهي تبحث عن السيدة صباح كرابوز وطفل نورا من كمال بعد زواجهما، عن ذاك الذي بقي مشرعاً للقراءة والبحث الذي تقوم به مايا، وهي تعترض بضمير غاضب وبإيقاع لاهث يشبه طبول الحرب.
3
“بيروت ركعت وأُهينت وأذلت ليس على يد الجيش الاسرائلي فحسب بل أيضا على يد المخابرات السورية والجيش السوري وعلى أيدي الكثير من المليشيات اللبنانية”. صباح القادمة من ماردين التركية حضرت وزوجها هربا من التجنيد الالزامي، لكنه خطف في بيروت. مايا تفتح البومات الصور التي عثرت عليها فتسأل صباح التي ظلت ذاكرتها لم تهشمها صور الجثث ولا الاعتداء عليها. كانت تروي لمايا خطوات القتلة واللصوص وحفيف ثياب العذارى اللاتي تم الاطاحة بهن في سطور تعصر القلب. دائماً يعثر الروائي الحقيقي على مواقع تماس جديدة للحروب الأهلية التي مرت على وطنه وهذا ما يدع الذاكرة والمخيلة في حالة من الأشعاع. عثرت مايا في شخصية نورا وهي تدون يومياتها وارشيفها ورجلها كمال، الذي يصعب الفرار من أمامه، فتكتشف مايا بسالة نورا الجديدة التي كانت تنبثق بالتدريج من اعماق مايا نفسها. ثم يلتقيان مايا وكمال بعد دعوته لبيروت؛ هذه اللقطة في الرواية كانت فولتيتها عالية جدا في الشغف والإثارة والسحر. في الرواية درجة متينة من الانضباط وقدرة فائقة على بناء الشخصيات والإصغاء لصدق أسرارهم حتى لو بقيت صباح تكذب إلى الصفحات الأخيرة وهي تخفي مصير ابن كمال قائلة: إنها باعته لعائلة ميسورة أفضل من قتله أو أو..
4
المحكية اللبنانية لذيذة، والفصحى مقيمة في تعدد اللهجات. الجمال وصخبه. الأنوثة والذكورة كلها مشغولة بطبيعية وتفهم. يُحسب كثيراً لفكر إيمان حميدان، لتربيتها وثقافتها، أن لا نستشف قط أية كلمة، أو موقف، أو خيط حريري، أو.. أية جملة تشي بقرابة أو أمتياز أو أنتماء لصالح مذهب أو دين، طائفة أو قومية أو أية أثنية تخدم أو تطبع أو تشير على هذه الشخصية أو تلك. هذه كتابة مرهونة فقط بالحرية، بتاريخها المعلوم والذي يشار إليه، بجميع كوارثنا ومعجمنا الحربي والطائفي. إن تصور رواية في قلب كل هذا النفي للحرية، فتؤسس لها عبر مواقف وأفعال أبطالها، في اللغة الفاعلة التي يتبادلون بها الحوار، سواء أكان سرياً أو مكشوفاً. بقيت حسرة واحدة لدي، كنت أود لو تمت إضاءة حكاية مقتل يوري غاغارين أكثر واعمق من مبدأ انه قتل أيضاً كما قتلت نوراً، أو اسمهان وأجيال عربية تنتظر في من يحقق في قتلهم ويقارب من حيواتهم الثمينة كهذه الرواية الفاتنة.
السبت 25 جمادى الأولى 1437 هـ- 5 مارس 2016م – العدد 17421

http://www.alriyadh.com/1134558