«الغلامة» رواية لعالية ممدوح صدرت عام 2000. الرواية تتحدث عن علاقة الأحداث السياسية العاصفة بالحياة الخاصة. وتُوغل كثيرا في اكتشاف هذا العلاقة، وفي حساب مدياتها التي من شأنها أن تقتل الإنسان معنويا وجسديا.
تظل الكتابة ويظل السرد مجالا خصبا للمقاومة. لمقاومة الموت الذي تفرضه الأنظمة الديكتاتورية. ولكن هذا ربما بالنسبة للقرّاء وللعالم الحقيقي، أما بالنسبة للعالم الروائي، فالأمر ليس أكثر من محاولة تدخل في المتخيل، وهي لا تغيّر في مجرى الأحداث أي شيء. وإن كانت ذات دلالة كبيرة تتصل بدور الرواية في الحياة وموقفها منها. وإذا ركزنا على صباح، وهي بطلة الرواية وساردة معظم أحداثها، فالرواية تُفتتح بسرد حوادث اعتقالها ليلا من رجال الأمن الذين يقودونها بملابس النوم إلى مكان الاعتقال. وأمام مثل هذا الوضع المرعب والشاذ تعمل صباح أو صبيحة على اقتراح أوضاع إنسانية طبيعية يمكن أن تترتب عليها أحداث مختلفة كليا عن التي ستقع. تقول: شبان نحن وعلى أحدنا أن يميل على الآخر. وعلى أحدهم، هو، وليس غيره، المولع بالعطر- تقصد الضابط الذي دخل غرفتها واستمتع بإفراغ قناني عطرها على جسده- أن يبدأ النوم معي، وحالا، فوق السرير، وقبالة خالتي، وأنا استجمع جسارتي واضطجع أمامهم.
وهي تزيد من وصف ما ستفعله وستطلبه منهم كما لو أنها في وضع غير هذا الوضع، وكما لو أنها محبوبتهم فعلا، وهم عشاقها، تقول: كنت سأنادي عليه أولا، وأنا فوق السرير، وبدون أي قلق، وسأطلب لو خففوا الضوء قليلا، فالنشوة تتضاعف في العتمة، وكنت سأنفصل عنهم بهدوء بعدما أفرطوا بوجودهم في داخلي. وحتى لو طلب مني هو، أو غيره، أن أسرح له شعره أو أقوم بتدليكه كنت سأوافق.. وإذا كانت من مشكلة فهي أن شعري سيكون في تلك الأثناء مربكا ومزعجا للأجواء، وأنا أعض على شفتي وأحدّث نفسي، ليس من شدة الخوف، وإنما من الحلول التي استطعنا العثور عليها. سنعثر على كافة الحلول.
سيبدو غريبا ذلك الاسترسال في سرد الذاتي والحميمي وسط موقف كالذي تُساق إليه الشخصية. موقف يشل الخوف فيه أي قدرة على التفكير والإحساس. ولكنها ميزة رواية عالية ممدوح، التفكير في احتمالات الحياة والسعادة، والتشديد عليها من خلال التركيز على أبعاد المأساة الشخصية التي تظل خاصة، ولا تروى إلا بوصفها خاصة تقترب كثيرا أو قليلا، هنا أو هناك، من سيرة عالية الذاتية، ومن معاناتها الطويلة مع المنفى ومع الحب ومع الوجوه ومع الأماكن ومع التجارب. وهي في طريقها إلى احتضان ألمها والحنو عليه والإشادة به لا تنسى مثل تلك الاحتمالات- احتمالات الحياة- التي تبدو في وسط العتمة التي يشيدها السرد من الحزن والفقد المتواصلين، مشعة ومضيئة وتصلح لأن يهتدي بها القارئ، فكأنها تقول في النهاية: لي وحدي عتمتي، ولكم ما فيها من ضوء. أنا استضيء بالعتمة وحدها، وعليكم أن تستضيئوا بالضوء وحده.
ولذا وبعد ذلك المشهد الأولي- مشهد الاعتقال- الذي يقترح وقائع أخرى غير التي تجري، تذهب الرواية إلى التشبث بأقسى ما يترتب على تجربة فتاة عشرينية جميلة تُعتقل بسبب نشاط حبيبها السياسي، وعلى يد الحرس القومي، أعتى قوة تعذيب شهدها العراق في الستينيات من القرن الماضي، فما يقع لها في المعتقل هو التعذيب والاغتصاب الذي ينتهي بالحمل لتخرج منه، متنكرة لحياتها، متنقلة بين حيوات الآخرين وعلاقتها بهم من أبيها وأمها وخالتها، وصداقاتها، إلى علاقاتها الغرامية المتعددة، وأسمائها التي تستبدلها بين حين وآخر، من صباح إلى وئام إلى سهاد.. وهي في كل ذلك كارهة- أو شبه كارهة- للجميع بمن فيهم ابنتها فخر، لتنتهي أخيرا منتحرة في دجلة بعد أن تترك مخطوطة روايتها التي سيتولى إتمامها الناقد (أحد شخصيات الرواية)، وتسميتها، فهي لا تملك لنفسها اسما، فكيف لروايتها؟!
هل نكتفي إذن بالتاريخي والسياسي والعام ونشدد على سرده؟ أم هل نشدد على أثره في الخاص وفي الشخصي وفي الإنساني؟ جواب هذا السؤال في ما تكتبه ممدوح. وهي تختار الخاص والإنساني وتصل به إلى أبعد مدياته تعمقا وتأملا وسردا للحوادث، لتقول للقارئ بطريقة ذكية: إن خسارتنا الأكبر التي ينبغي أن نحزن لأجلها، ليس الحجز ولا المدن ولا الأوطان.. ولكنها الاحتمالات الإنسانية التي تركناها وراءنا قهرا وقسرا، فحُرمنا من أن نعيشها كما ينبغي، وتحولت بعدها حياتنا إلى خراب. ومن تمام الخراب أن ننسى التنويه، في رواياتنا وقصصنا، إلى تلك الاحتمالات، أو ننسى التشبث بها، إن ليس من أجلنا فمن أجل من سيأتي بعدنا.
كاتب عراقي
«الغلامة» واحتمالات الحياة
عقيل عبد الحسين
أكتوبر 22, 2015