الروائية رجاء عالم لـ «ثقافة اليوم»: أبحث عن اللغة التي بِنَفْثها أستطيع أن أكون هنا وهناك


حاورتها: عالية ممدوحقلت لرجاء عالم؛ نحن في الغابة الآن، في الجزيرة الامريكية، ست كاتبات عربيات مختلفات بطريقة جذرية، حتى أن الكلمات تستعصي على التغذية لكنها تضاعف من متطلبات الجوع. ان اللغة في كثير من الأحيان ترفسني إلى خارجها فأظل أجري وراءها ولا أقدر على الامساك بها، هل أطاش صوابك كل هذا السحر هنا؟ الا ترين ان الجمال يعادل الرعب والموت؟
تفشت الصداقة فيما بيننا فقلت لها: أنت صديقة نفيسة كما أنت هكذا ككاتبة. لن أتهرب من قول ذلك ونحن نطل عليك في جميع الأنشطة التي أقيمت هنا فشعت موهبتك الانسانية والثقافية وكانت شديدة الامتلاء. خلّفت الاعجاب والتقدير لدى اولئك القوم.

لم تلعبي لعبة بعض الكاتبات والكتاب العرب، ونحن نعرفهم جيدا، ولم تخضعي لقواعدهم أيضا، حسنا، قدمت بلدك وعراقة مكيتيك المقدسة. تعالي، نريد الاقتراب والدنو من ذواتنا قبل أي شيء آخر، فهذا حوار فيما بيننا، عنا ومعنا بالدرجة الأولى، لأن كل ما هو ذاتي وشخصي هو أمر عام بمعنى من المعاني. لقد مستني وسحرتني روايتك خاتم فهل نبدأ بها؟
س1: يبدو من عموم ما قرأت لكِ، ليس كله، أنكِ مسحورة بسيرورة الزمن السحيق، بتشكيل البدء وإعادته ثانية على أشكال مختلفة. من المؤكد أنه هاجس روحي ومعرفي، البحث الحارق إلى ماوراء الزمن، وهو من جانب آخر يُثبت وحدة الوجود، من جمادٍ ونباتٍ وحيوان وبشر، هم جميع أقطاب عموم أعمالك. حدثيني عن هذه السلالة التي تشكلين إحدى أُسسها في المملكة.
ج1: ليست سلالة بمملكةٍ بعينها وإنما خارج كل الممالك، كونية، بشيء من الصمت تكتشفين أنكَ واحدة منها، ولقد سمعتِني يا عالية أقول هنا بأنني أبحث عنها، بكل ما أكتب أنا أبحث عن أفراد هذه السلالة، عن نفسي بالدرجة الأولى، أبحث عن اللغة التي بِنَفْثِها وبِتَمَثُّلها أستطيع أن أكون هنا وهناك ذهاباً ورجعة، ما أبحث عنه هو النفاذ من اللارجعة، لا تتقبَّل أطرافي فكرةَ أنها تتصاعد وتزدهي وتنضج لتتبدد، تعرف أن لها حياةً ممتدة بلا آخر، لذا تُحفزني أصابعي على الحرف، يُحفزني نَفَسي بالحرف أن أبحث لها عن قدرتها المطلقة. تعرف كل ذرة مني أنني في الجميع وأنني أعرفهم ويعرفونني في أعمق لحظات صمتي وتجلياتي. لذا أكتب ولذا يقرأني ويعيني إلباحثُ عن ذاتٍ.
س2: مكة المكرمة، كيف استطعتِ العبور بين برزخ المُقَدَّس القدسي والدنيوي العادي أو المبتذل في بعض الأحيان، ولا تقع في الفولكلور والأكزوتيك، في رواية خاتم على سبيل المثال؟
ج2: رواية خاتم ككل رواياتي، كحياتي، كحياتك، ألسنا في تلخيصنا هذا العبور لهذا الخانق بين المقدس والدنيوي، كيف حين أحيا وأكتب أنجو من هيمنة فعل العبور الذي هو في الخطوة القادمة وفي النّفَس القادم الذي يملأ صدري وصدرك. مكة هي قبل كل شيء فضاء لبيت الله الذي بناه آدم ثم إبراهيم ثم مالانهاية من البنائين، بناء المقدس بالدنيوي، هي المعادلة التي نحاول التنصل من حجرها وطينها بادعاء التقوى، بينما خُلقنا بشراً نكتمل في لحظات التجلي ولحظات التجاوز والرجعة.
أما الوقوع في الفلولكور أو النجاة منه فبرأيي أن الكتابة هي بصمة الكاتب، فكيفما كان تكون كتابته، الأنبياء يأتون بالرسالات والشعراء بالشعر والعلماء بالرموز، وهكذا حين نكتب نفضح ما يتنزل ويختبىء تحت الجلد، ونعمة أن ننطق ولانحتاج تركيب نغمةِ أصواتنا، تَتَرَكَّبْ هي بالولادة ولا تفارقنا ولا بالموت.
س3: وَلَعُ هلال بخاتم، ولع الصبيان/ العبيد الذين أكتووا بذاك السعير،تُرى بمقدور الكاتبة السعودية الكتابة عن ولع البالغين بمثل هذا الصفاء والشفافية؟
ج3: في قصرك (للكاتبة السعودية) سورٌ أشعرُ بسؤالِكِ ينصبه على فئةٍ من البشرِ لتصويرهم في هيئةٍ مُفَارِقَةٍ لهيئةِ البَشَرِ ولقدراتهم. فكرتي عن الكتابة هي خروج عن الجنس والأطر المسبقة والأسوار والقيود، تَأمَلْي في حوارنا الآن وجلستنا في هكذا الكوخ وسط هذه الغابة، بهذا المحيط الكوني الخارج عن أي سياقٍ، وقولي لي ما أنتِ؟ فيم يمكن حصرك؟ عراقية؟ باريسية؟ غزالية؟ أم نورانية؟ أي الأشجار أو الشوارد أنتِ؟ والمرأة نانسي سكينر، هذه التي أقامت هذا المُعْتَزَل للكتابة، وحفظت هذه الغابة حيوانها وشجرها، وكرستها مع شريكتها الكاتبة شيريل فيلدمان، للكاتبات من كل جنس، أيمكن حبس أي منهما في وصف المرأة الأميركية؟ ونسحب عليهما تَصَوّراً قاصراً عن المرأة أميركية كانت أم عربية؟ لذا لا استوعب مثل هذا السؤال. وكان يكفي الإحالة لبقية كتبي، لولا أن في ذلك وقوع في شرك السور، دوماً آمنتُ أن الفرد ابن نفسه بقدر ما الكون ابنه، يستطيع أن ينجز ما هو مُقَدَّر لإنجازه، ما يختارُ إنجازه، ما يُباغته في خلاياه لإنجازه بصرف النظر عن مكان حضوره وغيابه. أتمنى لو تأخذني اللغة التي يَشِفُّ بها الولع ويصير قابلاً للنسج من نسيج الجسد، من نسيج الكلمة التي أنطقها والنَفَس الذي أشهقه، أتمنى لولا يطاوعني هذا اللهب لكي تداوره كتاباتي أبعد، وترحل وراءه أبعد، لتجسيد حقيقةٍ بعمقِ هذا المُعْتَزَلِ القادر على استدراج كل هذه الكائنات الخلاقة بولعها المنقرض.
س4: رواية فاطمة كُتبت بالإنجليزية، وقدمت هنا. معنا في هذه الرحلة. حدثينا عن استقبال الجمهور لهذه التجربة؟
ج4: الجمهور عموماً مامن سبيل لدراسة رد فعله، إلا لو رجعنا لأرقام المبيعات التي تؤكدها مكتبة مثل إليوت باي التي لا تزال تطلب الكتب وتنفذ حتى الآن، لكن أمامنا هذه الجماهير التي خاطبناها معاً، أنتِ اختبرت معي بعض هذه الردود، وحقق كتابك النفتالين الأعلى مبيعاً في أسبوعنا الثاني هنا، سمعتُكِ يوماً تُعَلّقين مبهورة: شيء لا يُصَدَّق ! وترين تنويعة الجمهور الذي يأتينا الفكرية والاجتماعية. جل ما أستطيع اضافته أن هناك من جاءني وقال: أنا من سلالتك التي تبحثين عنها. وكان هذا كافياً ليقول لي: ان كتابتي بلغةٍ إضافية بَلَغَتْ ففَتَحت لي باباً إضافياً لسلالة تتوزع الكون. هناك من جاءني بحجارة مُذهلة، لا هي بالكريمة ولابنصف الكريمة، حجارة ذات بهاءٍ فريد، ليدسها في يدي. هناك من لحق بشقيقتي شادية استوقفها، اعتقاداً منهم أنها أنا: ليدس في يديها أعشاباً عطرية من أسرار الهنود الحمر، ملفوفة بخيوط لترسم كائنات فنية بديعة بلا جنس. هناك من جاءني بجسد مصبوب من معدن وعليه كتابة عن بلوغ القوى. هناك من وَقَفَ ودمعت عيناه يشد على يدي، هناك من هتفَ: لكِ روح كبيرة تلم العالم. لا أعرف ما تقول كل تلك الآيات لكنها أشعرتني بأنني في قلب العالم، هذا الذي يملك اللغة أو الطاقة المُحَرِّكة والمُغَيِّرَة بوسائط منها الكلام وغير الكلام. أشعرتني وأكدت لي: أننا هكذا نريد أن نبلغَ العَالَمَ بالروح، وما يتولَّد عنها من عوالم عصية على الفناء.
نوفمبر / 2005