بغلاف وردي تتوسطه كف نسائية مرهفة، وبعنوان مخطوط بارز يشع بوهج الفضة، صدرت عن دار الساقي في بيروت، حديثا، رواية عالية ممدوح الجديدة «المحبوبات».
انها الرواية الثانية للكاتبة (التي اصدرت اربعا من قبل) التي تتخذ من بلد غربي مسرحا لاحداثها. وبهذه الصفة، تنضم عالية ممدوح الى مجموعة من الروائيين العراقيين الذين اقاموا ما يكفي من الزمن في بلاد الهجرات او المنافي لكي يسحبوا سفن الخيال من شواطئها الاولى ويلقوا بالمرساة على يابسة الاغتراب، مؤثثين اعمالهم بشخصيات واماكن واجواء اجنبية.
اصدرت عالية ممدوح، قبل سنوات، رواية «الولع» التي يدور الحدث الرئيسي فيها في مدينة بريطانية. لكن شخوص الرواية كانوا عراقيين حملوا معهم قضاياهم الخاصة الى البلد الغريب. اما «المحبوبات»، فتتصدرها شخصية محورية عراقية، وفي فلك هذه الشخصية تدور شخصيات كثيرة اخرى، عراقية ولبنانية وسويدية وفرنسية وغيرها. ورغم ان الرواية تتناول شجونا انسانية لا جنسية لها، كالصداقة والامومة والمرض ومقاربة الموت، فإن الهم العراقي يبقى وتد خيمة «المحبوبات»، وتبقى الذاكرة العراقية تبث روائحها الحميمة في ارجائها.
ترى، هل يمكن ان يتوصل روائي عراقي مغترب الى كتابة رواية مطلقة السراح، بالكامل، من قبضة العراق؟ وهل يكون لتلك الرواية، ان وجدت، مكان على خارطة الادب العراقي الجديد؟
سهيلة، بطلة «المحبوبات» سيدة عراقية تقيم في باريس، حيث تصاب بأزمة صحية تؤدي بها الى الغيبوبة. اما الراوي الذي تتلاحق على لسانه الاحداث فهو نادر، ابن سهيلة الوحيد الذي يقيم مع زوجته وطفله في كندا، ويهرع الى باريس لكي يكون الى جوار والدته في ازمتها الصحية. وباختيارها ان يكون الراوي شخصا آخر غير سهيلة، وضعت المؤلفة نفسها في مأزق اكيد، لأن الرواية تقوم، في جانب كبير منها، على الهواجس الداخلية للبطلة وعلى علاقاتها بصديقاتها، في حين ان الابن نادر يتعرف للمرة الاولى على صديقات والدته، شريكاته في الرواية، من دون ان يمتلك خلفية قادرة على اثراء تلك الشخصيات واعطائها العمق المطلوب.
لكن عالية ممدوح، وبقدرة وبراعة، تمكنت الى حد كبير من الخروج من البئر التي حفرتها لنفسها، وتحقق لها ذلك باللجوء الى حيل عديدة. مثل ذكريات نادر عن ماضيه المشترك مع والدته تارة، وتارة من خلال مراجعته لرسائلها اليه او اطلاعه على مراسلاتها مع صديقاتها، وايضا من خلال العلاقة التي نسجت خيوطها بينه وبين الشخصيات الاخرى وهي تدور حول سرير سهيلة في المستشفى، وخارج المستشفى.
لقد كتبت عالية ممدوح نشيدا للصداقة، وكشفت انها ملح الحياة بالنسبة لسهيلة، المرأة الوحيدة المهاجرة الى بلد لم تكن تعرف فيه احدا. فالصداقة في حياة سهيلة (أم عالية؟) هي الاسرة التي يؤلفها المرء باختياره، وهي بشكل ما الوطن الآخر الذي يحاول ترميم لوعة الحنين الى الوطن الاول، البعيد والمبعثر.
فسهيلة، المرأة المعذبة بعراقيتها، خريجة الفنون الجميلة والراقصة السابقة في فرقة للرقص الشعبي، زوجة الضابط الذي اختفى في حرب ما، هي اليوم اي في زمن الرواية مريضة، سادرة في غيبوبتها، غير انها ليست مهملة ولا وحيدة اذ تتحلق حولها صديقات توطدت علاقتها بهن في باريس، وكل واحدة من هؤلاء الصديقات تحاول، بما تملكه من مواهب او خبرات او محبة او ادعية، ان تستعيد الغائبة الى دنيا الوعي: وهكذا نتعرف على السويدية كارولين التي فتحت امام سهيلة العوالم العجيبة لتكنولوجيا الكومبيوتر، وعلى اسماء التي تبسمل وترفع الصلوات وتنذر النذور على مدار ساعات النهار، وعلى نرجس المناضلة اللبنانية وزوجها العراقي حاتم، وعلى تيسا المثقفة الفرنسية التي تأخذ بيد سهيلة وتجد لها مكانا في فرقة للمسرح، وعلى بلانش العراقية التي كانت صحافية، ثم هجرت مهنتها وبلدها وغيرت اسمها العربي وتحولت الى بائعة للسجاد في باريس، وعلى الدكتورة وجد الطبيبة التي تبحث عن نفسها من خلال بحثها عن سهيلة، ذلك ان مساقات الرواية تقودنا الى الشعور بأن كل شخصية فيها تبحث عن نفسها في موضع ما، وبالاخص الابن نادر الذي تزوج من بريطانية ذات اصول هندية وصار بدوره ابا لطفل شرقي غربي في آن. كان الابن يظن ان زواجه من سونيا الشرقية الجذور سيجعل منها وطنا له في غربته الكندية ويجعل منه وطنا لها. لكن مرور السنوات زعزع تلك القناعات، وها هو يجد نفسه مشدودا بين وتدين مثل قوس حائر: أمه سهيلة ذات السطوة الداخلية عليه رغم البعاد الجغرافي بينهما، وطفله ليون الذي هو وشيجة الدم الوحيدة التي تداري عريه العائلي المر في كندا، بل ان نادر، في لحظة ما، يبدو وكأنه يغبط سهيلة على ما تتمتع به من صداقات و«محبوبات» كفيلات باذابة الجليد عن الروح المغتربة.
الشرق الأوسط : 13 – 09 – 2003