الدكتور عبدالله ابرهيم عن الاغتراب وادب المنفى العراقي: “حارس التبغ” و”الحفيدة الاميركية” و”المحبوبات”… نموذجا

عقدت في الكويت ما بين الثاني والرابع من أذار مارس الحالي ندوة لمجلة “العربي” بعنوان “الإبداع العربي المعاصر – تجارب جديدة، ورؤى متجددة”. شارك في الندوة عدد كبير من الادباء والنقاد والصحفيين العرب من خلال بحوث ودراسات اكاديمية، وكان للناقد والكاتب العراقي المقيم في الدوحة الدكتور عبد الله ابراهيم ورقة بعنوان “الراوية العراقية الجديدة – المنفى، الهوية، اليوتوبيا”، قدم فيها رؤيته لادب المنفى واسئلته واستعرض فيها الأدب العراقي مضيئا على بعض التجارب المهمة مثل “حارس التبغ” لعلي بدر و”الحفيدة الاميركية” لانعام كجه جي و”المحبوبات” لعالية ممدوح و”السراب الأحمر” لعلي الشوك. تنشر “الرأي” ملخصا عن الورقة لاهميتها.

أدب المنفى يمثل أدب المنفَى ظاهرة مميزة راح يتنامى حضورها في آداب الأمم التي خضعت للتجربة الاستعمارية، أو مرّت بظروف الاستبداد السياسي أو الديني. وتشكّل الكتابة السردية لبّها الجوهري. ويطفح أدب المنفى برغبات الاشتياق، والحنين، والقلق، وهو مسكون بفكرة إعادة كشف موقع الفرد في وطنه، وفي منفاه. كما يتصف بأنه مزيج من الاغتراب والنفور المركّب؛ كونه نتاجا لوهم الانتماء المزدوج إلى هويتين، أو أكثر، ثم في الوقت نفسه عدم الانتماء لأي من ذلك. فهو يستند، في رؤيته الكلية، إلى فكرة تخريب الهوية الواحدة والمطلقة، وبصفته تلك فهو أدب عابر للحدود الثقافية والجغرافية والتاريخية، ويخفي في طياته إشكالية خلافية لأنه يتشكّل عبر رؤية نافذة، ومنظور حاد يتعالى على التسطيح. ويتضمن أيضا قسوة عالية من التشريح المباشر لأوضاع المنفِيّ ولكلِّ من الجماعة التي اقتُلع منها والجماعة الحاضنة له، وهو أدب ينأى بنفسه عن الكراهية والتعصّب، ويتخطّى الموضوعات الجاهزة والنمطية فيعرض شخصيات منهمكة في قطيعة مع الجماعة التقليدية، وفي الوقت نفسه ينبض برؤية ذات ارتدادات متواصلة نحو مناطق مجهولة داخل النفس الإنسانية ويقترح أحيانا يوتوبيات حالمة موازية للعالم الواقعي.

المنفي ومواجهته للاغتراب تشكل قضية تخيل الأوطان، والأمكنة الأولى، واليوتوبيات، البؤرة المركزية لأدب المنفى، فثمة تزاحم بين الأوطان والمنافي في التخيلات السردية التي يكتبها المنفيون. ولكن مَنْ هو المنفِيّ الذي ينتدب نفسه لهذه المهمة، أو يُجبر عليها، فيخوض غمارها؟ يُعرف المنفيُّ بأنه الإنسان المنشطر بين حال من الحنين الهوسي إلى المكان الأول، وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه، وينتج هذا الوضع إحساسا مفرطا بالشقاء لا يدركه إلا المنفيون الذين فارقوا أوطانهم ومكثوا طويلا مبعدين عنه، فاقتُلعوا عن جذورهم الأصلية وأخفقوا في مدّ جذورهم في الأمكنة البديلة، يّم عليهم وجوم الاغتراب والشعور المريع بالحس التراجيدي لمصائرهم الشخصية، إذ عَطِبَتْ أعماقُهم جرّاء ذلك التمزّق والتصدّع، وقد دفع الحنين إلى المكان الأول رغبة عارمة لاستدعاء الذكريات الممزوجة بالتخيلات. فالمنفيّ، وقد افتقد بوصلته الموجِّهة، يستعيد مكانا على سبيل الافتراض ليجعل منه مركزا لذاته، ومحورا لوجوده، فيلوذ بالوهم الحالم بحثا عن توازن غائب. ينطوي المنفِيّ على ذات ممزقة، لا سبيل إلى إعادة تشكيلها في كينونة منسجمة مع نفسها أو مع العالم.

تجارب المنفي وترحاله وتعامله مع الهوية من المتوقّع أن يقدّم أدب المنفى تمثيلا سرديا عميقا لهذه الحالات المتضاربة من الرؤى والمصائر، والهويات والأقنعة والتجارب التي يخوضها المنفِيّ، وبخاصة حينما يلجأ إلى الكتابة السردية التي تتعرّض لارتحالاته بين الأمكنة والأزمنة والثقافات واللغات والتقاليد والمجتمعات والبحث عن موقع له بينها، وكشف موقفه منها ثم الكيفية التي يعيد فيها بناء مسار حياته ضمن رؤيته بوصفه منفيا يقف على حافة كل الحالات، ولا ينخرط فيها.

العراقيون وادب المنفى أفرزت الحال المزعزعة للمنفيين مدونة ضخمة من الكتابة الشعرية والسردية تعرف بـ”أدب المنفَى”. وهو سجل متنوع أسهم فيه عدد كبير من الكتّاب المنفيين الذين استلهموا تجاربهم، وجعلوا منها خلفيات لعوالم افتراضية أفضوا بحنينهم إليها، ورغبوا في أن تكون المكافئ لإحساسهم بالفقدان والغياب. وقد عرفت الرواية العراقية هذه الظاهرة خلال العقدين الأخيرين، وما لبثت أن أصبحت موضوعا اجتذب إليه الكتّاب الذين وجدوا فيها معادلا سرديا لحالة المجتمع العراقي، فطرحوا مشكلات الهوية والهجرة والاستبداد والاحتلال.

“حارس التبغ” لعلي بدر تصلح رواية “حارس التبغ” لـ” علي بدر” أن تكون مثالا عن كيفية طرح موضوع الهويات السردية المتحولة لشخصية المنفي حيث تُخرّب ركائز المطابقة مع الذات كما هي، فتتجدد الشخصية في كل زمان ومكان تكون فيهما. يصبح الوطن، في وقت واحد مكانا للجذب بوصفه مسقطا للرأس، والطرد بوصفه مكانا للحياة. لا تتوفر للشخصية قوة نفسية على هجرته، ولا على نسيانه، ولا يمكن العيش فيه إلا بالتنكّر والتخفّي. لم تتمكن الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي يهودية، أن تعيش خارج العراق، لا في إسرائيل ولا في إيران، وتعذّر عليها العيش في العراق إلا بعد أن انتحلت اسما ودينا ومذهبا لا صلة لها باسمها وعقيدتها. هذا ضرب جديد من المنفى الداخلي الذي يتخطّى الدلالة الجغرافية لمفهوم المنفى؛ فالعلاقة المركّبة بين إحساس الشخصية بالانتماء للوطن ونبذ الوطن لها، وضعتها في منطقة متوترة لا تستطيع فيها أن تكون هي بصورة معلنة ولا تتمكن أن تكون غيرها بإرادتها فتبتكر فكرة الأقنعة المتعددة.

الهوية المرتبكة في “الحفيدة الأميركية” تقدم رواية “الحفيدة الأميركية” لـ”إنعام كجه جي” تمثيلا سرديا شائقا لموضوع الهوية المرتبكة وأحوال الأقليات العرقية والدينية التي يهتزّ انتماؤها حينما تعمّ الفوضى وسط الجماعات الكبرى الحاضنة لها، وكل ذلك على خلفية وضع العراق الذي زعزعته أحداث الاستبداد ثم الاحتلال، فتنهار أساطير الانتماء القديمة وتُستحدث أساطير بديلة وتتغير الأسماء ويقع التلاعب بالمصائر وتُقترح هويات ضيقة جدا أو هويات كونية واسعة جدا. لا مكان لامرئ سوّي في هوية مغلقة ولا في هوية متوهمة ولا يمكن أن يكون بلا هوية. يحتاج المرء إلى هوية مفتوحة هي مزيج من هويات موروثة ومستحدثة، هوية قابلة للتحول بتحوّل الأحداث والأزمان تطوّر نفسها بنفسها. هذه هي الخلفية الثقافية العامة التي ترتكز عليها رواية “الحفيدة الأميركية”. وتنفتح على المتغيرات التي شهدها العراق في تاريخه المعاصر. وبانتقاء شخصيات متّصلة بذلك التاريخ وتحوّلاته تطرح الرواية جملة من الرؤى والمواقف. لم يعد العراق أرض انسجام اجتماعي وتماسك أخلاقي، إنما تناهبته الأيدلوجيات والمصالح والرهانات الكبرى. صار العراق بحاجة إلى إعادة تعريف نفسه. ذلك ما تقترحه الرواية بطريقة واضحة وقاسية؛ فخلف نسيج الأحداث تقبع مواقف الشخصيات لتعبر عن رؤى جديدة مغايرة لرؤى الأجيال القديمة.

“المحبوبات” لعالية ممدوح الرواية الجديدة للكاتبة عالية ممدوح “المحبوبات” لم تنقطع عن قضية المنفى والهوية، فهي تعوم على مجموع متلازم من أخبار النساء المنفيات وأوضاعهن، وقد أجبرن على ترك أوطانهن الأصلية ولُذنَ بسواها، فتقاطعت مصائرهن مع مصير “سهيلة أحمد” ممثلة المسرح العراقية التي تعيش وحيدة في باريس بعد أن نزحت عن بلادها. ثم تتفتح الذكريات المتداخلة، فإذا بالأم العراقية التي اصطحبت ابنها إلى المنفى ضحية زوج عسكري مشبع بالروح الإسبارطية وقد ظل يكبح موهبتها الفنية طوال حياتهما في بغداد، فلم تتمكن من تقبل النزوع العسكري المفرط في عنفه، فأجبرت على حياة لم تتكيف معها، فتركت بلادها حينما وجدت تعارضا بين أحلامها وواقعها. وكانت عالية ممدوح قد أهدت روايتها هذه إلى المفكرة النسوية “هيلين سيكسو”. وهذا الإهداء سيرسم أفق تلقٍّ خاص لأحداثها، فهي بكامل أطروحتها السردية تندرج ضمن رهانات الفكري النسوي الباحث عن كتابة تحتفي بهوية الأنثى التي تقوم على الترابط، ونبذ التفرّد، وثلم كل أنانية ممكنة كرستها الثقافة الذكورية. تتمركز الأحداث في الأدب الذكوري حول انجاز فردي يقوم به رجل، وبوجوده تكتسب تلك الأحداث قيمتها، ومن عالمه الفكري تشتق المعاني أهميتها، فهو المركز الذي يصدر عنه إشعاع يضيء الشخصيات الأخرى التي تتراءى مثل أشباح في مجال الشخصية الرئيس، وحينما يجري الحديث عن أدب أنثوي فلابد من نقض تلك المبادئ، واقتراح أخرى بديلة تقوم الانسجام والتواصل، والشراكة وتدفق المشاعر وليس الفردية والأنانية والصلابة والسيطرة. المحبوبات نسوة متضامنات كدن يستغنين عن الرجال، بعد أن مررن بتجارب مؤلمة، وحصدن إخفاقات نفسية وجسدية، وهن يتواصلن عبر الأحاسيس الجياشة والأحزان المتبادلة والرسائل التذكّرية واليوميات، وإيماءات الحزن والطبخ واحتساء النبيذ والموسيقى، ويكافحن بعيدا عن هيمنة الأزواج والآباء والإخوان، ويمكثن وحيدات يتبادلن مواقعهن ومواطنهن وعواطفهن، وجميعهن مشدودات إلى أنوثة ناعمة تواجه كبحا عاما وتهميشا مقصودا، فيلجأن إلى تواصل داخلي متين فيما بينهن، يستعضن به عن تواصل مبهم مع رجال ينتهي الأمر معهم إلى الاستئثار بكل شيء. يتطلع الأدب الأنثوي إلى إبطال مفعول علاقات التبعية واقتراح علاقات الشراكة. فهن جماعة متشابكة المصائر، لا تفصلهن فواصل ثقافية أو عرقية أو جغرافية. إنهن نوع عابر لكل شيء، ينتمين كلهنّ لهوية أنثوية جامعة، ويعرضن المساندة لبعضهن، وهنّ قادرات على التعبير عن مشاعر فياضة، ويتم التواصل بينهن بلغات متعددة كالعربية والفرنسية والانجليزية. ومعظمهن يتناوبن في عرض التجارب، فتبدو الرواية مزيجا من أصوات متداخلة تكافح ضد مبدأ التغليب السردي الذي تتبوأ فيه شخصية الرجل بموقع البطولة.

الرأي 2009-03-12