صدر للروائية العراقية عالية ممدوح رواية جديدة «غرام براغماتي» طبعة اولى 2011 عن دار الساقي، سبق ان تناولناها في مراجعة حاولنا تشريح بعض فصولها، والرواية من أجمل الكتب التي كتبتها ممدوح من حيث تفننها الفائق في اختيار المضامين والأسلوبية المتميزة حيث يلاحظ القارئ أن هذا العمل تكملة لمشوار ممدوح الروائي المهم والمتمايز. حول هذا
الكتاب كان لنا حوار مع الكاتبة:
فظاظة الخراب
* ثمة مكانان اساسيان في حبكة الرواية: مكان البطلة راوية ومكان البطل بحر. الفرق واضح بين معالجتك مكانها ومعالجتك مكانه. في الأول تدخلين إلى أدنى تفاصيله، أما الثاني فشبه غائبة التفاصيل عنه. كيف تفسرين الأمر؟
– معذبي الأول والأخير، الشكل. أتأتئ وأتلعثم أمامه لكني اواصل التجريب ولا اتهيب وأنا اصطاد الأشكال من الموضوعات والشخصيات التي تواجهني ليل نهار، بعضها يردني لهذا الشكل، وبعضهم يهرّبني إلى آخر. راوية في غرام برغماتي، كانت، أو حاولت الانغمار تماماً في سطوة غبش المكان/ الشقة، وبالتالي ترتيب فظاظة الخراب بدءاً من الجسد الذي بدأ الهرم يفتته، إلى الجدران التي ظهر لحمها الحي، وانتهاء بالثياب وبطانتها الخ، ولذلك كان فضاء راوية هو المواجهة ولو بصوت خفيض كما النشيج والضنى الداخليين وهي تتشابك مع قسوة المكان الأجنبي، وأذية المكان الداخلي؛ هي ومتعلقاتها. راوية، ليست منشدة، ولا مغرمة أو ممثلة أو مواطنة عراقية من والد عربي، هي بمعنى من المعاني، لاعبة ولعوب، ليست مضطرة للاعتراف بكل ما لديها للمحبوب بحر، فهي تتوقع الأسوأ ولذلك لا تقف طويلا أمام مفاجأت بحر. هذا الأخير، يا عيني عليه، فبعد كذا شهر على صدور الرواية أراه اليوم كالمتدرب على الموضوع الوحيد القادر عليه؛ راوية والغرام بها، ثم إهماله. هذا التقصي المزعج لأدق الحميميات لبحر بدءاً من مقته للاستحمام اليومي مثلاً، وليس انتهاء بقول ـ أحبك ـ باللغة العربية ومن خلال لسان أجنبي يحاول تعلمها من بين شفاه من يغُرم بها، راوية. بحر حاول المراوحة ما بين المكان الثابت / روائياً / وليس نفسياً، ما بين الشقة وراوية / وبين المكان الغرامي الذي شاط والتهب في فؤاده وهو يواجه تناقضاته وانشطاراته، وما كان أمامي إلا المراوحة بين هاتين الهاويتين.
كتاّب ما بعد العراق
* من ناحية أخرى يقع القارئ في الرواية على المكان الأول ـ الثابت أي العراق، والمكان ـ الأمكنة اللاحقة المشتتة وغير المستقرة أي مكان الهجرة. أمكنة كلها جاءت عميقة في السرد، حيث في الأول يغيب الحنين التقليدي، وفي الثاني تتشظى فصول الكتاب وتتقاطع في برنامج زمني غير خطي وغير محدد، هل توافقينني الرأي؟
– ليسامحني عزيزي عباس بيضون عن مدن وحروف الباء: بغداد، باريس، برايتون وبازل، هذه التي وردت في هذه الرواية هي حروف قامت على المعاشرة التجريبية ما بين حرف المدينة الأول وخط سير دم أحد الأشخاص في الرواية، وكأن كل واحد من اشخاص الرواية يود المغادرة من هذه او تلك المدينة، فأما البقاء في مخطوطة العمل أو الهباء. الذوات المتشظية كلها في الكتاب لم تقدر على ضبط إيقاع العيش والغرام مع الكائن الذي تغرم به، فيغدو اللقاء متعذراً والعشيق قد غادر إلى جهة غير معلومة. لا تفاصيل بين خراب المدن وخراب الذوات، فنحن لدينا قدرة على تخريب ما انجزه غيرنا أيضاً ولو بأساليب بهلوانية مزرية.
*هل تتصورين العراق هو المكان الثابت؟
– ياه، كم تمنيت لو كان هذا صحيحاً أو دقيقاُ. يبدو لي العراق اليوم هو المكان المثالي للتلف والاختفاء، وباريس تجعلني يومياً أشك في عراقيتي فأقوم بتفكيكها وعلى مهل فانشطر إلى بضعة اشخاص كلهم أتشكك بهم لأنني لا استطيع القبض عليهم. راوية مزدوجة في عموم الطباع والعناصر، كما والدتها التي حاولت حرق البيت ففرت الأبنة للخارج. والد بحر المهندس المعماري البارز الذي كان شغوفاً باستلهام الفنون التشكيلية في عمارة وتخطيط المدن والأحياء الجديدة في بغداد الخمسينيات، صدم في مشروعه وقمع فهاجر إلى برايتون البريطانية وأنتهى شبه مجنون في مصح نفسي في تلك المدينة. برايتون مفصل في تاريخنا العربي المعاصر يعود إليها الآفلون بعد هزيمة مشروعهم التحديثي. بعد الامبراطورية العظمى، بريطانيا، اليوم يذهب العراقي المهزوم للولايات المتحدة. سنغادر سريعا ولا نشهد أفول تلك الولايات، فمن سيتسلى باجيال الآفلين الجدد؟ جيلان من الخاسرين، الوالد والأبن بحر، وراوية تحاول التحرك وليس بالتساوي، ربما، فيما بين كل هؤلاء، لتغذية واستنفار الأسئلة، فهذه المرأة محمّلة بجذرها الرافديني وهي تجوب البلدان وتنشد لمن بقي وغادر بلا تبجح أو تشاوف، فترى نفسها الهجينة، الاجنبية، التي تملك كل مقومات الأقلية، والتي لطالما سمعت: آه، هي من هناك، من تلك البلاد. فيتضاعف الشك بوجود العراق وليس العكس، فيبدو بلدا بعيدا فاسدا، بشعا، متزمتا وينتج الموت والدمامة، وكأننا في كل سطر وصفحة أو كتاب نقوم بتدوينه، هو فعل ترميم، ولكن بلا نفع ناجز، فافزع فيما إذا ما قيل عنّا في أحد الأيام: كتّاب ما بعد العراق.
* كما في رواياتك السابقة، تكثر الموضوعات وتتنوع، تترافق وتدعم بعضها البعض، ما يفتح آفاقاً واسعة لا تنتهي مع انتهاء الرواية. كيف تعملين على ضبط مفاصل السرد دون الوقوع في الهذر المجاني؟
– تدهشني وتستهويني أشغال الدماغ للكائن البشري، ولدي رغبة عارمة بالاختباء في تلك التلافيف وداخل النسيج السنجابي وصيد الأفكار والأفعال غير المتوقعة للكائن البشري. فنحن نقفز بين الكلمات والمواضيع، الوجوه والعلاقات، للرجال والنساء كالبرق، ثم ننقض على ما بين أيدينا، فنجهز بدلاً من الأسنان، قوة ونسغ ونضارة روحية، فالكتابة تحتاج إلى نوع غير شائع كثيراً من الصحة لتخزين الذات والجماعة، الفهود والثعالب، السخفاء والاذكياء.. الخ. آمل ان يكون ما تقولينه صحيح، ضبط مفاصل السرد. دائما أشك في هذا الأمر وغيره فأعتمد على المناورة وأحاول التحلق حول الموضوعات التي تستهويني. فأذهب لمطاردة العاشق حتى ينقطع نفسه، ومهاجمة المعشوق حتى تخور قواه.
كفاف الغرام
* الرواية قائمة على لعبة سبر اسرار الآخر، أي الرجل والمرأة في آن: من هو في رأيك المسيطر الأقوى في هذه العلاقة العاطفية المميزة؟
– يبدو لي وأنا في سني المتقدم هذا، ان طلب الحب والشغف اشرس من طلب الطعام، فهذا الأخير متوفر بالرغم من توحش امبراطوريات الجشع العالمي، لكن الغرام أمر معرض للخطر. اراقب نفسي وأنا في حالة غرام، واراقب اصحابي ونحن نتحدث عن هذا الأمر الذي يفتفت الكبد. إن الرجل اسرع أواسهل فريسة للوقوع في الحب، على شرط ان تبقى حركته ضمن الجماعة، فاذا شط عن هؤلاء يفقد وجاهته الاجتماعية وهي تعادل في بعض الأحيان ذكورته، وبسبب جميع ما نسمعه ونعرفه عن الهيمنة والسطوة في نظام الذكر في الغرب والشرق، وما يخص موضوعة الحب فالرجل يشعر بالخطر بصورة مرضية فيقدم ويحجم، أنا أسميه؛ يعيش على كفاف غرامه. المرأة ونتيجة لمخاوفها التاريخية، يبدو ترددها وأحياناً تسرعها تعويضياً، وهو بمعنى ما يقوم على النضوج وفيما بعد في علاقتها الحميمة مع جسدها، وبالتالي مع الرجل فنراها تمشي ولمسافات طويلة وعسيرة في عمر العلاقة الغرامية وأطول من الرجل. هي أمور غاية في التعقيد فهي تخص المشاعر، فلنقل أن الرجل أكثر عشوائية، والمرأة أكثر براغماتية بالمعنى الطريف والعملي، من هنا يبدو لي عذاب بحر شديد الدسم في غرام براغماتي، كمن يزحف بجسده كله على أرض وجسد راوية، وهذه كانت تطوف بالقفز من فوقه لكي تشدد على دفاعاتها الروحية. لا مغروم يسيطر على آخر. منذ سن البلوغ وإلى المغادرة يمتلك البشر مزايا ومواهب التخطيط، وتحسين مستويات التفكير والتركيز: كيف نقوم بتعديل امزجتنا والبعض من طباعنا، وتعديل قدراتنا لكي نبقى أطول فترة ممكنة في حالة احتدام غرامي.
رائحة الشغف
* رغم شغف العاشقين نرى ان العقلانية هي التي تضبط ايقاع هذا الشغف، لكن من جهة اخرى، رغم كل هذه العقلانية، نرى الشغف يسيطر وبقوة على جو الرواية. كيف وفقت بين الاتجاهين؟
– تخترقني كلمة ـ الاندماج ـ في الجمهورية الفرنسية، وألاحظ وأنا أكتب كتابي الجديد عن مخلوقات الخوف، ان فعل يندمج هو فعل يسبب الرضوض والكسور التي لا ترى بالعين المجردة. بعضنا يفكر بالاندماج في علاقته بالآخر؛ الحبيب، الزوج، الحزب، الطائفة، المقاطعة، الأم ووليدها الخ العواطف البشرية كالمياه الجارية لا نستطيع إمساك أو فحص، أو رسم الحدود بين ذرة وذرة، وفي لحظة واحدة تامة ونهائية. أحدنا قد لا يطيق ويغرم بالشخص ذاته وفي اللحظة ذاتها نفسها. هو لا يسعى لذلك، ربما، وسلوكه العدواني للمعشوق يستعيض عنه ببعض المبالغات والأكاذيب الغرامية كخط دفاع أو فرار. تحليل المشاعر البشرية أمر عسير جداً ولا علاقة له بالذكاء أو الأخلاق أو.. أو الخ هي سلسلة من الخبرات البشرية، والمسيرات الطويلة التي قطعتها الإنسانية وسعت أن تكافأ ذاتها بالحب، وبعد جميع عمليات القتل، بدءاً من الحيوان، وليس انتهاء بالإنسان. حسناً، على الشغف ان تفوح رائحته في صفحات الكتاب، أي كتاب نحب أن يصاحبنا، أو نسعى لتدوينه. أما العقلانية كما كتب عنها، وأنت واحدة ممن كتبت، فربما هو الضبط الضروري لنظام الكتابة الذي أخشى عليه ودائماً التسرع والفجائية.
* هل في مرحلة ما من كتابة هذه الرواية شعرت أن علاقة الحب هذه أضحت مستحيلة وهل هذه الاستحالة كانت الركيزة الاساسية في وضع التقنية التي عليها بنيت الرواية؟
– حتى الذين تزوّجوا بمن شغفوا بهن بقيت نزعة العلاقة المستحيلة في الجانب الخلفي من الجمجمة. المستحيل نزعة متأصلة لدى بعض النفوس الهائمة على وجهها وزمانها في هذا العالم البطاش، حتى لو كان الحب ممكناً أو حلاً للمآزق والورطات، وهذا الأمر أشك فيه كثيراً، سيبقى اعتماد بعضنا على ان الحب هو خط الحماية والأمان لنا، نحن البشر. ربما هذا وهم أيضا، لكننا سنبقى نتوهم ونقاتل من أجل البقاء في مدى المحبوب. الغرام هوالأمر الوحيد الذي يدعنا بلا أي نوع من أنواع الحماية، وما علينا لهذا السبب وغيره إلا القيام به وبدون مقاومة تذكر، بدون تعديلات أو طلباً للتسويات، فكل شيء مكشوف تماماً أمام هذه الآفة ذات البهجة الدائمة؛ الانخطاف، ولأن الأحداث في العمل الروائي تتم في الروح وبين جدران شقة او داخل قطارات، فيتصور العاشقان ان التتمة دائماً لدى الآخر. أظن هذا هو أيضاً فعل الكتابة الكاوي للقلب دائماً حتى للمؤلفة بالذات.
لا أفضل الإجماع العربي
* هذه الرواية اخذتك إلى فضاءات كتابية صعبة حيث لن يسامحك القارئ على أي تراجع، ماذا تقولين؟
_ منذ مجموعتي القصصية التجريبية الأولى: «افتتاحية للضحك» وإلى اللحظة أصاب بالفزع الحقيقي من اقتراحات الكتابة. كل كتاب هو كتاب بدئي. وكل بداية تبدو أصعب وأشق من بدء البدايات الأولى فما عليك الا تفحُّص تربتك ثانية وألف لكي تصيبك الشمس مباشرة وتسمح للهواء بالدوران والتنافذ في كيان العمل الذي تقومين بتدوينه، فهذا يساعد في تبريد الكلمات. صرت اردد دائما: علينا الكتابة عن الأمور الملتهبة بلغة شديدة البرودة لكي يتم التبخر المطلوب. لم أراهن يوما على قارئ أو متلق غير حيوي قط. أنا شخصيا لا أعرف فعلا من يقرأ لي، لكني أدري أن كتبي تبيع بصورة بطيئة لكنها مستمرة، أي نعم، ممنوعة من عموم البلدان، فماذا كنا سنفعل لولا فسحة لبنان؟ لكنها تلك الكتب مطلوبة أيضا. فلا النجاح لاحقني فأمسكت اذياله يوماً، ولا الجفاء الذي ما زال يلاحقني ككاتبة عراقية قدر على لي ذراعي. أشعر انني لم اخذل بعض القراء حين أخبرتني ذلك الشاعرة الجميلة نوال العلي فاستغربت فعلاً. حسنا، أنا لا افضل الاجماع العربي حول هذا الكتاب والمؤلف أو الرواية، أحب الكتاب الذي يشبهني.
* باتت جائزة البوكر على وشك إعلان لوائحها. ما سبب غيابك عن اجواء هذه الجائزة؟
– في عام 2007 أصدرت التشهي، ووافقت على ترشيحها لهذه الجائزة، لكني وفيما بعد علمت، وربما، هذا كلام متأخر وقد يثير بعض الحساسيات، لكن عليّ قوله اليوم. كانت رواية التشهي صادمة بعض الشيء فربما لم تقدر ناشرتي العزيزة رنا ادريس ودار الآداب الدفاع عنها، لا أعرف فنحن لم نتحادث عن هذا الموضوع لليوم. ثم علمت ان الكتاب أصلاً سحب قبل التقديم للترشيح. دائماً يبقى الكتاب وحده يدافع عن جدواه وعزلته، من يومها عافت نفسي الموضوع برمّته، وهذه المرة الأولى التي اتحدث فيها وهي حادثة جد عادية علينا ان لا نتوقف أمامها لولا سؤالك. قبل اسابيع وصلتني رسالة من ناشرتي العزيزة أيضاً، دار الساقي، تعلن عن رغبتها بترشيح غرام برغماتي للجائزة. اعتذرت ورفضت. لا أعرف ان خذلت الساقي وآمل أن لا يكون الأمر كذلك لأنني لا أريد الدخول في بازار من اللغط والشائعات حول هذه الجائزة بالذات وبجميع دوراتها مما يجعلني أتساءل وبأمانة حقيقية: هل تمتلك هذه الجائزة آليات قراءة واختيارات نزيهة لـ 130 رواية عربية، في الفرز والتقييم، في الوقت والمزاج والذائقة، في الرفض والقبول، في اللاتطير من بعض الأسماء والروايات والدول، في الاخوانيات والشللية الخ. أصبت باستغراب حقيقي في الدورة الأخيرة حين قرأت تصريحاً لأحد اعضاء اللجنة وهو يرجو وبشق الأنفس ثلاثة من خمسة من الأعضاء إعادة قراءة إحدى الروايتين اللتين وصلتا للمرحلة الأخيرة. وبعد التي واللتيا، اعلنت المناصفة. أظن ان واحداً من الفائزين لو قام برفض تلك المناصفة تماماً لجعل الأمر أشد وقعاً ومصداقية من الحنق الذي كان ظاهراً في وجهَي الفائزين .