أرستقراطيو المنفى – د.حاتم الصكَر

براوية الكاتبة العراقية عاليه ممدوح تضاف للمكتبة السردية وثيقة فنية أخرى على دخول جيل المنفيين العراقيين في تفاصيل عالمهم الخاص بعيدا عما جرى اجتراره في متون سردية كثيرة من هموم الوطن الشائعة والمألوفة كالحروب والاحتلال والماضي البهي، والبعد عن أدبيات المنفى التقليدية كالحنين والاغتراب ، ولواعج الشكوى من المكان واللغة والثقافة المغايرة.
في رواية عالية ممدوح المكتوبة في باريس بين عامي 2007 و2009 تتصارع إرادتان لمنفيين عراقيين أو نصف عراقيين في الأدق؛ لأن المرأة (راوية ) والرجل(بحر الخليل أو رالف) لهما صلة قرابة واحدة بالعراق وأجنبيان من جهة ثانية .
تهدي الكاتبة روايتها بكلمة واحدة(إلينا) فيخيل للقراء كلهم أنهم المقصودون بذلك ،ولا يتبين إلا بعد الانتهاء من قراءة العمل أن المقصود هم المعانون في المنفى من حب مستحيل في فضاءات مزدحمة بالرغبات والعلل والإحباطات والطبائع التي تشتغل عليها الرواية.
لقد آثرت الكاتبة أن تتحدث عن انقطاع لا بين المنفي ووطنه بل بينه وبين قرينه وشريكه في المنفى والحالة النصفية(نصف عراقي) ، فجعلت لقاءهما مستحيلا :هو يكتب مذكراته من بريتون و يهاتف المرأة التي تقيم بباريس ولا يتم وعد لقائهما حتى النهاية.تنوب الأصوات والكلمات –المراسلات والاتصالات بالحديث عنهما ، ويقتسمان فصول العمل بالتساوي والتتابع كجزء من إيقاع العمل و توافقاته وتعارضاته ، هما مهندس معماري كمهنة أبيه ، داندي ومعشوق بأرستقراطيته ومزاجيته ، ومنشدة وحيدة تعيش في باريس، وتتجول لتغني بكائيات وترنيمات للوطن والحب والبشر.
يتم السرد عبر المنولوجات العذبة والتداعيات بالفلاش باك المتقن وبتقمص الرجل وسبره من الراوية المسهمة في العمل؛ لذا يكون علمها بالأحداث جزئيا ينمو مع معرفة المروي له بالوقائع والأحداث ؛ يظهر الرجل بهيئة المعشوق والمرفوض من الراوية ، والإفادة من التسمية تشي بمقصدية الكاتبة ؛ فالمرأة راويه (تروي عنه وعنها) ، وهو( بحر الخليل) اسم يوحي بالشعر والتقليد والتكرار الإيقاعي لأنه يأتيها صوتا فقط على آلة التسجيل في هاتفها ، كما أنه هاوٍ للتصوير يوثّق حاضره ويراجع ماضيه بالصور، ويظهر بهذه الهيئة التي تلخّصه ببلاغة((تركب دراجتك الهوائية ولا تلتفت إلى أية جهة . نظراتك ذات الاكتئاب النموذجي ، والريح البحرية في مدينة برايتون هادئة في هذه الظهيرة ، وأنت عاشق معتبر ، لست من هواة المناظر الطبيعية ولم تتوقف أمام التصاوير السياحية ، ودفتر ملاحظاتك في جيبك الخلفي من سروالك الرمادي الغامق ، والكاميرا ).
تبدأ الرواية من لحظة منتهية حدثيا فلا تطور فيها ولا شيء منتظر، فقامت اللغة بالاشتغال بفاعلية وحيوية لتسد ذلك الفراغ الحدثي ولتتجه الرواية صوب الطبائع والمشاعر لتشق طريق نموها العضوي وخط سيرها السردي بفنية ومهارة تعوض عن غياب الحدث بالمعنى التقليدي .
اللغة هنا عماد الرواية لأنها تذكرات وتوقعات واحتمالات ومشاعر وحدوس تتم عبر المونولوجات الطويلة برسائل ومذكرات وتداعيات ورصد للأمكنة بمكرسكوبية دقيقة ، وهي مسقطة كذلك على الأحاسيس وليست ديكورا أو مناسَبة لمرور الشخصيات أو لقائهم.
لم تلجأ الكاتبة لسعار النوستالجيا أو هيجان المرض الوطني لتستثمر المأساة فتذكر المسألة العراقية- المشكلة!- استعراضا واستدرارا لتعاطف ما مع شخصيات روايتها ، بل لم تمسَّها مسّاً شعاريا وسطحيا ، وبدل ذلك ذهبت لعمق المنفى كمكان ، وللمنفيين كشخصيات سردية ، لا كأشخاص عراقيين فحسب. ولامست مسائل كونية مثل الرغبة والحب المستحيل والطبائع المتناقضة والتكيف والماضي والتأجيل في المشاعر وتعليقها والجدل مع العواطف لا الاستجابة لها . المصائر والإرادات والاختيارات ولم يكن الغرام فقط هو استراتيجية عمل عالية ممدوح كما يوحي العنوان الذي لم أجده موفقا كثيرا.ربما لأن الخطاب السياسي استهلك البراغماتيا كوسيلة أو تكتيك واحتكره.و تمنيت لو كان عنوانها غرام ارستقراطي مثلا تطابقا مع شخصية بحر خاصة الذي يظل منتميا لطبقته ومستكملا لتربيته عبر ممارسات المكان الجديد ويومياته فيه وسلوكه العام.
إن المشكل بين الشخصيتين وجودي وشعوري ،وليس من مستهلكات الحب ونواح المعشوقات وزفرات العاشقين التقليدية أو الإنشائيةحتى حين ضاق المأزق وانحصر في مربع الجنس وتكرر التفكير بمضاجعة لا يقدّر لها سرديا أن تحصل ، ولكن سرعان ما يعود المزاج للتحكم في التباعد لا الرغبة المؤجلة وحدها.
وتستوقفنا القدرة على استبطان رجل. النسويات وأتباع الفيمنست والفمنزم سيتوقفون كثيرا عند تفوهات ومشاعر الرجل خاصة. ورغم أن الكاتبة نظريا وكما صرحت مرارا لا تؤمن بأدبيات النسوية المعاصرة وتقول بأن لا وجود لأدب نسوي وآخر رجالي .وتعدّ الدعوة لأدب نسوي نوعا من اختلاق معزل جديد لنفي المرأة وحصرها فيه..لكن عملها هذا يصوّت لغير قناعتها تماما، فواضح هنا الوعي النوعي بدور المرأة الاجتماعي ، ومن خلال اختيارها لحظة الحب ومكانتها فيها بإزاء الرجل ،فانعكس بذلك تميز وعي المرأة بالعلاقة وما يريد لها الرجل أن تكون كجزء من خطاب يصنعه هو ويضع للمرأة دورا محددا فيه، كما يتجلى ذلك في لقطة مهمة حيث تضع راوية رجالها وعشاقها السابقين في خزانة الثياب منمطة كل واحد بنوع من الثياب مطلقةً عليه وصفا لا يخلو من ازدراء؛ فتغدو الخزانة خزانة الرجال كما تصفها صديقتها ! وكما في رصدها لانقطاع دورتها الشهرية وانعكاسها النفسي والبايولجي عليها في فصل نادر وجرئ.
ستكون الخاتمة تأكيدا آخر على نسوية الرواية ؛ فهي تتم بقرار من راوية(و من يدري ، فمن الجائز يا بحر أننا كالمدن ، بلمح البصر نبتر ونندثر ، فبعض المدن لا تحتاج أن يعيش المرء فيها ، فهي لا تحتمل أبناءها فماذا ينبغي أن نفعل ، وإلى أين نأوي .؟ “” فلننشد هذه الأغنية سنوات لا عدَّ لها ) راوية إذن تراهن على النشيد ، وبحر ينسحب فلا ينبس بسطر ولا يزيد واحدا! هي تظل تنشد منطلقة بصوت ، بينما هو يصيبه العي فلا سطر لديه ليزيده على ما قال ولا مكان له بعد حتى في آلة التسجيل الهاتفية، وكأن الرواية تعود لفصلها الأول ( الأصوات) لتنتهي دورة الكر والفر الصوتيين بين راوية وبحر .تجف مياه بحر ويخرس بينما تظل راوية منشدة لسنوات لا عدّ لها كما تقول.
وربما كانت النهاية متوقعة احتكاما لإحدى ندّات راوية في تقييم العلاقة حين تقول (من الطبيعي أن يتم هذا الانجذاب بين شخصين على شاكلتنا ، أنت بسبب التبرم والتشاؤم ، وأنا بسبب الفكاهة والتقشف الذي يدع صوتي صداحا بالأناشيد التي أقوم بترديدها على مسارح بعض الدول الأفريقية والأوربية ) .أما هو فسيلخص نفسه أمام طبيبته النفسية كالآتي:( أبدو أنني من صنع الخيال ، خيالي ، والأدق أنا زائف . أخفي هذا الزيف بوجهي الشهواني ورشاقتي كأي جنتلمان أوربي فريد . إحداهن قالت لي : أنت منقح كثيرا فلم يبق منك أي شيء تتباهى به).
هكذا اندحر الرجل في غرام براجماتي عابر للمدن! فبدا لنا عاريا زائفا ، وإذ هزم معشوقاته حتى اللصيقات به منهن ك(ليزا ) ومصيرها المأساوي بسبب ترفعه عن مواصلة غرامها وملله. بدا الآن فارغا ورجلا منقّحا جرت عليه تصحيحات كثيرة فقدَ بسببها أصالته ، ولم يبق منه شيء للتباهيّ! وقد فضحته راوية بكتابة منولوجه الشخصي حين اعترف (أدري أنني وفي أغلب الأحيان أغش فلا امّل كما يجب ، أو يبدو مللي وكأنه لا يستطيع أن ينقذني منك فأمشي وأمشي ، أقود دراجتي الهوائية و أستهزئ بالعشيقة القديمة والحديثة وال بين بين ، فأغلب الأشياء تتعلق بالنقص في الزمن ، بالوقت الذي أرى فيه كل هذه الجموع المسرورة على الشاطىء ، الناس ، البشر العائد إلى بلدان بعيدة أو العكس ، وأنا الفار للتو من أمام ليزا وأمامك ، بهذا الحاضر الذي أكابد فيه الآن بسبب الفترة المنقضية وأنا أنتظرك فأميل أو أتحول إلى ليزا ، أوازن بين نهايتها وبدايتك ، بين طوفانك في وفرار ليزا ببلاهة من أمامي وتنصلي منها ، فهل تسمحين ببضع صفحات من كتابك عنها ؟ كل عشيقة سابقة هي امرأة ، على الأرجح كان أمامها الوقت غير المستحب لكي تفشل وتنسحب) ، أما بصدد راوية فقد ظلت الشقة التي ترممت وطليت علامة على حياة أخرى ستعيشها راوية ، وربما دخل بحر في خزانة الملابس والذكريات ، وارتضت استرجاع لحظات بايوليوجية ونفسية مهمة في حياتها ، كانقطاع الطمث وافتقادها تلك الراوئح والمثيرات المصاحبة لكل عناق أو لقاء ويجب أن نتببه إلى عمل اللغة الواصفة هنا وقدرة الكاتبة على تمثيل تلك اللحظة التي يصعب تخيلها في متن ذكوري مثلا .هذا تصويت آخر لنسوية الكتابة وخصوصيتها التي لا تعترف بها الكاتبة نظريا.
التأجيل هو القرار الأكيد في فكرة لقاء العاشقين ، وكما تقول راوية منتظرة ما لم يأتِ (الذي لم نعمله أخطر وألذ من ذاك الذي فعلناه) فتكتفي به صوتا تصفه بالوصفة الشعبية التي ترينا كيف يمكن أن نتوغل في الآخر عبر عضلة اللسان ، وتتعدل ثنائية شتراوس عن النيئ والمطبوخ أو الطبيعة والثقافة ، ليصبح الحب هو الثقافة، والجنس هو الطبيعة السابقة عليه.
يبرق الوطن هنا وهناك وتستعاد طقوسه ومفاصل تحولاته وبعض راهنه كسياقات تحف بالحبكة التي تدار بالمودة والاتصالات كما يقول بحر ولا تستهدف لذاتها.وهذا أحد ابرز مزايا السرد العراقي في مرحلته الراهنة، حيث لم يعد الوطن لوحة أو رسما بعيدا بل هو شيء يحمله المهاجر معه في تفاصيل يومياته كما في حجيرات دمه.