استدعاء الوطن في رواية غرام براغماتي* لعالية ممدوح – د. كرنفال ايوب

كلية الاداب – جامعة بغداد
طالما عرفت الروائية عالية ممدوح بقضيتها مع الوطن الذي ابتعدت عنه منذ سنين , اذ لاتخلو رواية من رواياتها من الاشارة الى اماكنه وتوصيفاته او استدعائه خاصة في الروايات التي تدور احداثها في الغربة التي نجد الروائية فيها تعقد الصلة دائما بين المكان (الوطن) وبين غرام شخصياتها بصورة يشكل معها هاجسا للشخصية وهي تسرد مواقفها التي تعيشها ضمن خط الغرام الذي تنتهجه لها وتقدم معه امثلة مبدعة عن استرداده سواء من خلال الذكريات او من خلال عقد الصلة بين المكان الماضي (الوطن) وبين المكان الحالي (مكان العيش خارجه) . ففي رواية (غرام براغماتي) يشكل الوطن مصدرا ملهما للشخصية حين يرد كعلامة في سياق سرد التجربة والموقف الشخصي مع الطرف الاخر, ولا ادل على ذلك من كون الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية , عراقيتين عاشتا في العراق مدة طويلة قبل ان يلفهما تيار الغربة والاقامة في دول الغرب.
تشير الكاتبة عبر الشخصيتين اللتين تربطهما علاقة حب الى العراق من خلال الاستدعاء فراوية عاشت طفولتها وشبابها في العراق وهي الان تعيش المواقف في خضم علاقة حب تربطها ببحر او رالف وفي وسط هذه العلاقة يشكل لها وطنها هاجسها لا تجد الا ان تستدعيه لدلالة تتعلق بداخلها وعلاقتها مع مكان طفولتها ((الوالدة تشاركك في هذه الصفحات , ولو بالفاكهة التي كانت تنشف وتموت في الاشجار في حديقة بيتنا في حي المنصور ببغداد ولا احد يقطفها . قلت لها في احد الايام :
– ياامي هذه الاشجار تريد بعض الغناء والاناشيد تريد شيئا من اللمس والحنية))(1)
ويبدو ان عالية ممدوح تسعى الى توثيق الصلات بين الموقف الرومانسي العام حين تسند فلسفتها الروائية الى اساس تجربة الغربة والعيش في خضم علاقة حب يحكمها شعور الانتماء للوطن من جهة , والعيش بعيدا عنه في بيئة مختلفة من جهة اخرى, فراوية وبحر تركا العراق والتقيا بعيدا عنه في ظل ظروف مختلفة لكنهما يحملان في داخلهما وطنهما , اذ ان جل مواقف البوح خلال علاقتهما تستند الى استحضار شعورهما تجاه العراق حين كانا يعيشان هناك, بشكل يمنح الانطباع عن ارتباطهما الشخصي الوثيق به على الرغم من الظروف التي جابهاها هناك عبر مامر على العراق من ويلات, ولعل هذا جزء من خطة الروائية في توجه السرد والخطاب عبر خلق المواقف بصورة مبهرة استدعت مزج الشخصية لاحاسيسها (( وانا الاحقك من سطر الى سطر لكي ارصّك جنبا الى جنب معهم في صف لطيف . لااظن انك على علم بالغاز الوالدة وباقي افراد الاسرة , صحن الدار الواسع وماعون الفاصوليا اليابسة ذات المرق الثخين والرائحة الزكية والارز بالشعرية ونحن الوالد المحزون دوما وانا))(2).
تحاول الكاتبة اقتفاء اثار الوطن عبر سلسلة مواقف تقيمها بتوجيه موضوعة الغرام الاستثنائي بين رواية وبحرمن خلال الغاء غيابه( الوطن) من دواخلهما اذ تأخذ الذكريات عندها مداها في الحركات والمواقف التي تبني خطابها بشكل مقصود للاشارة الى الحمولة الدلالية التي تبغيها من وراء خلق هذه الصلات (( هيا ياراوية , اتذكر الان يوم الاستحمام في بغداد وانا في الثامنة والجدة السيدة بهية كانت ترافقني , وتداعبي واحيانا تقرصني وهي تحك جلدي بالليفة الخشنة التي عرفت فيما بعد انها لا تستخدم الا لتنظيف جلود بعض الحيوانات , يقال الخيول… الاستحمام في الحمامات العراقية يجعل الدم يغلي كارضياتها وجدرانها ومياهها))(3)
من الواضح ان الوطن في هذه الرواية يشكل تفاصيل انسانية داخل شعور الشخصية , فعلى الرغم من الابتعاد المادي الا ان الكاتبة لاتبتعد عنه نفسيا مطلقا وذكر الوطن عندها يمثل دلالات تعيينية وتخييلية تستهدفها عبرالاحالات اليه دائما: ((نريد من عدستك يارالف ياابن احد المهندسين العراقيين القدامى والخالدين ان تقوم بتكبير ذاك البلد , بلدنا))(4).
ان المدلول الاساسي من ذكر الوطن انما يأتي انطلاقا من تصور الروائية عن علاقته بالعلاقات الانسانية والذي يمكن ان يشير الى اهم قضية تحكم واقع الفرد وهي قضية الحرية التي تعد الهم الاكبر لعالية ممدوح في اغلب اعمالها الروائية , اذ انها في هذه الرواية تجسد الوجع داخل الوطن وبعيدا عنه وتربطه بوجع الغرام حين تجعل من الشخصيات منتمية لاوطانها وهي بعيدة عنها , حين تتوجع من ازمات الغرام ويبدو ان هذا التجسيد محمل بحمولات دلالية تتعلق بمد الخطاب الروائي بالمفاهيم التي تكونه , فاستدعاء الوطن لايعد عنصرا شكليا وانما هو عنصرا مهما وطرفا في علاقة ذات مدلولات نفسية ومعرفية تكسبه قيمته التعيينية حين تمنحه عالية ممدوح وظيفة الشهادة على التأريخ الذي ترزح تحت وطأته شخصياتها بالاعتماد على المسار الاستدعائي لاكساب البنية الروائية مدلولات اوسع خاصة مع ما يمثله الوطن لكلا الشخصيتين من تأريخ حافل سواء على المستوى المهني((وها انا في عقدي الخامس ادل على تلك الحال كواحد من اهم نشاطات وجودي في التصوير الذي استهواني وانا في بغداد , فكانت اغلب تصاويري تحوي اكواما من الفراغ , عربات فارغة , جثثا, قناني, وجوها مقلوبة, قلوبا, اعضاء, خزانات, عيونا, رجالا, نساء))(5). او على المستوى الاجتماعي والشخصي حين يتعلق الامر بتاريخ العائلة : ((فكنت ابدوكالابله كما انا الان امام والدي , تلك الجدة في السرير وانفتها تغطي جبينها العالي نازلة الى حركة الشفتين المقفلتين والكتفين الهادئتين , فهذا الرجل الواقف بجوارها لم يعد ابنها , ولا هذا حفيدها , وكان عليها العثورعلى لقبين اخرين لنا حقا, لاوجود للابن الابدي فهذا هو الحداد الذي لايبرح الامهات , فبدا كل شيء غير معقول الام الالمانية التي اصرت على المغادرة فجلدها لم يعد يحتمل الشمس العراقية يعقل هذا الامر كثيرا , وعلينا بالتفاؤل , ونحن ندونه هنا . الشمس تلك اصبحت من الماضي …. فتلك الميتة لجدتي لم تبرح ذاكرتي , فهي ماتت قبل الموت , كنا هكذا , سمح لنا بهذا والجدة لاتحجم عنه , هي التي كان بمقدورها اعادتي الى تلك المدينة….وحين انشدت لبغداد في الحفلة نفسها في عام 2005 ظهرت المدينة امامي وجها لوجه بلا فواجع ))(6) .
ان الوطن يمثل حقيقة غير قابلة للتبدل عند راوية وبحر خاصة حين يختبرا حقائق العيش في الغربة فالعراق عندهما حالة سردية طويلة لا تنتهي تتمازج فيها اشياء كثيرة ومواقف شكلا وعائلتيهما جزء كبيرا منها فراوية تبتعد ابتعادا ممضا عن العراق فتحاول دائما ان تحافظ على الصلة معه ولعل اظهار تلك التجليات لم يكن لولا علاقتها مع بحر,وكذا الامر مع بحرالذي تظهر عنده التجليات نفسها ويبدو ان الروائية قصدتها مع الشخصيتين لتجعل من الوطن طرفا مشتركا يدفع علاقتهما باتجاه الاحداث.
تدفع الكاتبة الغربة عن الشخصيتين من خلال صورة الماضي في وطنهما وتكشف باستمرارالعيش بعيدا عن مكان الولادة وتقحم الشخصيتين في دوامات متلاحقة تتمثل في المراحل التي مر بها بحر وراوية لتصل في النهاية الى حقيقة توردها في الاسطر الاخيرة من احداث الرواية تتلخص في التيه الذي يعانية الفرد بعيدا عن وطنه: ((وما ان انتهي من جميع الترتيبات حتى اختلس النظر اليك جيدا عبر جميع الصفحات , افلي كل كلمة, وسطر, ومفردة كما لو كنت تلك المدينة , مدينتي التي ما ان اقلبها حتى لاتعود معلومة تماما قط. بحر هذا دخول وتدخل في سير المخطوطة , وانا اراه ضروريا , فبغداد لاتصلح للوداع , لااحد بمقدوره ان يقول لها وداعا , ستسمح بان نتقاسم الغرام فتلاحظ فقري وعوزي .رجاء لاتسخر منيو فلا احد بمقدوره ان يشرب نخبها , وقتذاك انتبهت , وانا انشد لها انك نفرت وتضايقت وانا استحضرها في الاناشيد , لكني لم اهتم حين قال هانز بصوت رصين ونحن نحتفل في دارته بمدينة هوف:
– لا احد يمتلك تلك المدينة , واولهم انت ياراوية , ثم التفت اليك وواصل, “مضحكون اولئك الذين يريدونها كبيرة بالكلمات” ))(7).

ان هاجس الروائي يتجه دوما نحو تأشير النقاط الحيوية التي تمارس تأثيرا مباشرا في وجود الفرد وحياته , وعالية ممدوح استطاعت ان تضع يدها وتؤشر ابرز مايمكن ان يثير المواجع ويلغي الوجود , وجود الفرد وكيانه داخل الاطار الانساني المطلوب , ولعلها ادرى باوجاع اهل بلدها لذا نرى ان هاجسها يتجه دوما نحو الوطن والمكان بل هي تجعله طرفا اساسيا يحكم العلاقات ويسير الهواجس , ويمكن ان نذهب الى انها تجعله عنصرا مؤثرا في اغلب تفاصيل بناء الرواية الفكري فضلا عن كونه عنصرا من عناصر البناء الفني (المكان) وتدفع به لان يكون استثنائيا كما مشاعر واحاسيس شخصياتها.

الهوامش

* رواية لعالية ممدوح صدرت عن دار الساقي, بيروت, عام 2010.

– (1) غرام براغماتي, ص22.
– (2) المصدر نفسه, ص34,33.
– (3) المصدر نفسه, ص112.
– (4) المصدر نفسه, ص138.
– (5) المصدر نفسه, ص206.
– (6) المصدر نفسه, ص208,207.
– (7) المصدر نفسه, ص223,222.