عالية ممدوح تذهب إلى أقصى حدود الوجع العراقي

أدب السيرة يتيح للقارئ أن يتلصص على الحياة السرية للمؤلف وهو ما يدفع بالكاتب إلى الابتعاد عن هذا النوع من الكتابة.
العرب – مفيد نجم
يلعب العنوان دورا محوريا في وضع القارئ في أفق التجربة التي يحتضنها النص، من خلال قدرته على اختزال التجربة مبنى ومعنى بصورة يكشف معها عن طبيعة الترابط القائمة بين العنوان والنص، والنص والعنوان. لكن العنوان الرئيسيّ قد لا يكفي للقيام بهذه الوظيفة فيحتاج إلى عنوان ثان يكتمل معه معناه الصريح. من هنا يمكن أن نفهم الدواعي التي دفعت بالكاتبة الروائية عالية ممدوح في روايتها “الأجنبية”
لوضع عنوان ثان هو “بيوت روائية” إلى جانب العنوان الرئيسي.
اختيار العنوان الذي يتمّ غالبا بعد الانتهاء من كتابة الرواية ينم عن مقاصد دلالية تتوخى الكاتبة تحقيقها، فهي هنا لا تكتفي بأن يكون العنوان مجرد مفتاح تأويلي، أو علامة دالة موحية، بل سعت من خلال العنوان الثاني إلى تعيين طبيعة النص، وهو ما سوف تتكشف عنه مقاصد الكاتبة بصورة مباشرة عندما تتحدث عن موقفها السلبي من أدب السيرة، وشعورها بالنفور منه “لا أميل لأي عنوان تدخل فيه كلمة السيرة، فهذه كلمة ما إن أسمعها تنطق من فم فلان أو غيره حتى أصغي لنوع من صفير يتجمع في قاعات مغلقة، ومن هناك يبدأ التغامز”.
الخوف من الآخر
أرادت الكاتبة عالية ممدوح في روايتها التي يلعب الخوف دور البطولة فيها بامتياز، أو يشكل فضاءها الدلالي والوجودي، أن تهرب من مصطلح السيرة إلى عنوان بديل يتألف من جملة اسمية “بيوت روائية” يحمل فيها خبر المبتدأ المحذوف اسم مكان بصيغة الجمع، بينما تحيل صفة المكان على جنس أدبي هو الرواية. رغم ذلك فإنه ثمة علاقة اتصال ولو غير مباشرة بين العنوان الثاني “بيوت روائية” وأدب السيرة، إذ أن البيوت باعتبارها اسم جمع لمكان مغلق، تحيل على ما هو حميم وذاتي وداخلي، لأن فيها تتكشف الحياة الداخلية للشخصية.
ثم هناك السرد بصيغة المفرد المتكلم، والإحالة إلى أعمالها الروائية التي صدرت سابقا، إلى جانب استخدام أسماء شخصيات واقعية معروفة وأسماء أماكن معروفة، عاشت فيها بطلة الرواية التي تتولى عملية السرد، وهي شخصية الكاتبة نفسها. كل هذا لا يمكنه أن يبعد شبهة السيرة الذاتية عن هذا العمل، سواء صرحت به الكاتبة، أو استبدلته بعنوان آخر خوفا من الغمز حيال ما يخص حياة بطل روايتها.
إن إحدى العلامات البارزة التي تميز النص الروائي الأنثوي هو حضور الجانب السيري في هذا النص. قد يتيح أدب السيرة للقارئ أن يتلصص على الحياة السرية لشخصية الكاتبة، وهي مسألة لها محاذيرها في مجتمع محافظ مثل مجتمعنا، ما يدفع بالكاتبة وكذلك بالكاتب إلى الابتعاد عن هذا النوع من الكتابة. الكاتبة تعترف على لسان بطلتها بأن الكتابة أو التأليف ليست سوى رمشة عين في ليل الخائف الطويل.
بطلة الرواية تكشف عن استراتيجية الكتابة في هذا العمل، عندما تصرح منذ بداية الرواية، بأن ما سوف تكتبه ليس من بنات خيالها، لكنها في المقابل لا تريد أن تضحي بالحكاية لصالح تعويم السرد في هذه الكتابة،
التي تستعصي على محاولة التأطير داخل نوع بعينه، يمكنها أن تحيل عليه، رواية كان أم سيرة ذاتية.
إن عالية بقدر ما تهجس برغبتها في الإفلات من جنس الكتابة، فإنها تحاول التهرّب من عملية المطابقة بينها وبين شخصية بطلتها، وذلك عندما تضع نفسها في مواجهة هذه الشخصية الروائية، التي هي تختلف عنها في الواقع، وتحاول أن تتعرف إلى ذاتها من خلال الأحداث التي تواجهها في حياتها. الكتابة في هذه الرواية عند عالية هي لعبة روائية تسعى من خلالها إلى استعادة شخصية محبوبها الذي هجرته، وحاولت طمس وجوده في حياتها.
الخوف يلعب دور البطولة في الرواية
لكن كتابة عالية ممدوح التي تهجس بالخوف من كل شيء ومع كل شيء، تغدو وسيلتها للتخلص من الخوف، الذي كان وما زال يلازم وجودها كظلها، بوصفه مقدمة لتحقيق دافع آخر على مستوى علاقتها بالرجل الذي أحبته كعشيق وهربت منه كزوج “كنت أريد أمرا واحدا في هذا السرد، العثور على خوفي الفردي، الذي قاومته لكي لا يتمكن مني، ولكي يدعني أفصل بين العشيق والزوج”. الكتابة هي وسيلة بطلة الرواية للتعرف إلى حقيقة شخصيتها، طالما أن الكتابة كما تراها خارج مقاس أيّة شخصية، الأمر الذي يجعل الرواية خارج أيّة محاولة ممكنة لتدوين وقائع الحياة التي عاشتها، أوما زالت تعيشها.
المنفى المزدوج
تبدو بطلة الرواية منفية خارج اللغة، باعتبارها وطنها الثاني بعد أن عجزت عن امتلاك مفاتيحها، رغم محاولاتها اليائسة المتكررة، وكأنها بذلك تستكمل سيرة منافيها وغربتها التي لا تنتهي، بعد أن فقدت كل شيء، وباتت تعيش في الدرجة صفر من الوطن واللغة الفرنسية معا.
معاناة تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات الشاقة، التي بات يعيشها الإنسان العراقي بعد الاحتلال الأميركي لوطنه، وقيام دولة الطوائف “وكان الأمر المزعج فعلا لأولي الأمر أن زوجي ليس من مذهبي، ووالدي من مدينة كيت وأمي من مدينة كذا، وأنني في قلب هجنة الحبكة الوحيدة التي كانت متقنة جدا ومحبوكة أكثر مما قمت بتدوينه من حبكات فاشلة وأنا أكتب روايتي”.
تحيلنا الجملة الأخيرة من اعترافات البطلة/ الكاتبة إلى علاقة الرواية بالواقع أو الخيال بالواقع، إذ يبدو الواقع أكثر غرابة وقدرة على حبك الحكاية من الخيال، بعد أن تحول هذا الواقع من حيث غرابته إلى مسرح اللامعقول. لا يبدو أن الكاتبة هنا تكتب سيرتها الذاتية، بقدر ما هي تكتب سيرة وطنها العراق، من خلال ذاتها التي باتت معلقة في أفق عواصفه وأقداره وفواجعه، الممتدة من الماضي/ الحاضر، أو من الحاضر/
الماضي حيث لا فرق.

http://www.alarab.co.uk/?id=27075