عالية ممدوح
لو وضع طالب الرفاعي في بعض كراسيه المسامير والاشواك والأبر فلن يتراجع عشاق ومرضى الكراسي على الاستقتال للوصول أو للجلوس عليها. مجموعة قصصية جديدة للروائي والقاص الكويتي جاءت في وقت شديد الخطورة وبلفتة ذكية من المؤلف، فيهدي الكتاب إلى “أرواح شهداء مشوا درب الحرية حالمين بنهار أجمل يهل على اوطانهم العربية”.
لو ترك الرفاعي الكرسي فارغا، لو عاقب هذه البلدان باستعداد الكرسي على الاختفاء من الوجود فالوقوف ليس حالة استثنائية في علم السياسة، فالجميع
اليوم يقفون على اعقابهم للبحث عن كرسي طائر مخلوع أو لا يقوى الوقوف على أربعة. لو اعترض الكرسي ذاته على خشبه وصناعته، لو رفض، لو كذب علينا وعلى صاحبه وقال كلاما صالحا في حق من اعتلاه وطواه وأخذه معه إلى العالم الآخر حتى. لو استدار الكرسي العربي على عقبيه وقال قولته التي لا ترد؛ إنني أعرف قدري فلا تدعوني أقبل البهلوان والأراجوز. الرفاعي يصفق الباب وراءه بهدوء فنصغي عبر هذه المجموعة إلى سخريته المرة ويرافقنا حزنه الطويل الأمد وعبر شخصيات أصحاب المقام العالي والواطي وإلى الصفحة الأخيرة. إنه الكرسي صائد الملذات وجامع الرغبات ومفرق الجماعات، ولو وضعنا الألوف من النعوت فهي صحيحة. قلت لطالب ونحن نتخاطب كثيرا: هذا موضوع وعر لكنه لذيذ وخطير، ترى هل نسيت كراسي الكتاب والشعراء والفنانين… و. ؟
2
تستهويني الطاولات المصنوعة من أي نوع من الخشب وحولها الكراسي خالية. ينبغي أن نبقى بانتظار الزوار والضيوف ونكتشف على مر سني العمر أنهم ؛ إما تركونا أو في طريقهم إلى ذلك. الرفاعي وضع عدته في كراسي صفها في أرقام. كرسي رقم واحد إلى الرقم 14. في عموم أعماله يضع اسمه وذاته الشخصية في العمل. هو المؤلف وكرسيه في مأدبة القراء. يلاطف ويمزح ونضحك سويا : “”ولأنك صرت طالب الرفاعي نظرت إلى مرآة صفحة يدك فأبصرت صورتك التي تعودت على رؤيتها بلمعان الشيب في شعر رأسك وخطوط جبهتك، ونظرة حزن في عينيك وزمً شفتيك. فجأة نهض الرجل صاحب النظارة، قائلا يخاطبك : تفضل.
يتفضل المؤلف ويقدم لنا نماذجه واحابيل شخصياته وبضمير الغائب ويختار بالفعل نماذج غاية في الذكاء والاستفزاز والهشاشة؛ العسكري الذي يريد اعترافا بالنجوم التي تبرق، والنياشين التي معظمها لا تستحقه. هو السجان على كرسي ويفكر بالتياع بسجانته المرأة المغوية الموجودة في الطرف الآخر من رأسه. كل واحد من البشر سجين كرسي ما بعلمه أو بدونه، من الخيزران أو الحديد، من الحرير أو الجلد، ولا ندري متى سيهترىء النسيج أو يشوينا المعدن الساخن. الكرسي رقم 2، “كيف لإنسان ان يحيا دون كرسي، على الخصوص حين يتخرج من الكلية الحربية” هنا نرى صاحب المعارك الخاسرة في عموم حروبنا العربية، في حالة عجز مرضي في عموده الفقري. إذاً، دعه يستبدل وهمْ كرسي النصر بحقيقة الكرسي الطبي المتحرك فيبقى يردد وطوال هذه القصة الآسرة : “” متى انعقدت صداقتكما أنت والكرسي ؟ تمسكت بذراعي الكرسي أكثر وأكثر وأكثر. حضر طبيبك العالمي المختص. دخل يتوكأ على عصاه بالكاد، ينقل خطواته. تكرمش جلد وجهه، وعرى الصلع فروة رأسه، وبعث كلماته المهتزة : “” سنصنع سريرا طبيا لكم “”.
3
تتحول صيغ وتأويلات الكراسي في هذه المجموعة حتى يغدو الكرسي شبه لعنة إذا لم يكن أمرْ. فالطبيب يبقى داخل بذلته البيضاء، والعكسري يحال إلى العجز، والكرسي الطبي استبدل بالكرسي الشاهق جدا. هو كرسي المرض بالسلطة والتحكم بالآخرين. “” ربما أموت قبله ودون أن أصل إلى رئاسة الشركة “”
هذا صراع الأجيال، نفوذ وسطوة الوالد على العائلة الصغيرة. المناصب لا تعترف بالمرض والصفقات لا تكترث بالعجز ولا تحتمل التأجيل. كنت أقرأ واردد، ان الرفاعي مراقب يمتلك عينا ثاقبة ويرصد واقعا مخاتلا ليس عندنا، وأنما على سعة هذه الحضارات والملل والشعوب. الكرسي يستطيع استخراج نذالة ونبالة بعض البشر. هناك من هو تابع أصيل لخشبه وسعته أو ضيقه، وهناك من هو أوسع وأعمق من أي كرسي جلس أو مر أو عبر عليه. ترى هل الحلم بالجلوس عليه أجمل من الجلوس أو الحصول عليه ؟ لماذا تتغير السحنات والأرواح حالما يضاء الكرسي بالنور الجهنمي.؟ لعل الكرسي رقم 4 هو من القصص الجميلة جدا وكرسيها هو الرمز القاتل الذي اقتضى الحال لصاحب المقام وضع نفسه فوق الناس، الأصدقاء على وجه الخصوص. في هذه القصة تتجلى قدرة القاص على هذا الاستحقاق للتفاني في هوى القصة القصيرة مع غيره من قصاصين عرب جعلوا منها المراد حتى لو ذهبوا إلى أقاصي العمل الروائي أو الاشتغال بالتنظير كما مع العراقي الجميل محمد خضير في كتبه الأخيرة. في قصة رقم 4، يحاول صاحب الكرسي وبالتقادم اليومي زيادة ارتفاع الكرسي والطلب من النجار عمل ذلك. وفي سخرية لاذعة وهزء نافذ يجيده الرفاعي لمن يعرفه : “أريده عاليا كأقصى ما يمكنك. احضره ملفوفا، لا أريد لأحد ان يراه. ليس كافيا أن يكون أعلى. أنا الرئيس. يجب ان أكون فوق الجميع”.
“” يظل السؤال يخدش فكرك… غيرت أرجله، جعلتها أطول فبدأ غريبا وشاذا بارتفاعه مقارنة بكراسي طاولة الاجتماعات… أترك مسافة صغيرة بين رأسك والسقف. تخيل هيئته بجلسته : ستتدلى قدماه فوق رؤوس الجالسين معه وسيلمع كعب حذائه في مواجهتهم “”.
هنا بمقدور المؤلف الفطن اللعب والتجوال كما يشاء لاعنا أصحاب الكراسي الدوارة والثابتة، والمتحركة، ساهيا بعض الشيء عن كراسي ذات قيمة استثنائية، مثل كرسي أو اريكة التحليل النفسي، وكشف جروح النفس البشرية. كراسي الإعدام، وكرسي الدرس الأول في الصف الأول ونحن نحاول فك أول خط في المعرفة، الكراسي في سينمات الصيفي والشتوي ونحن نتلمس الطريق بين العتمة وصوت آفا جاردنر القاتل…. فضاح الرفاعي لنفاق طبقات المجتمع الكويتي بالذات والعربي في اوقاته العصيبة التي تخض وبلا رحمة. قدم له الناقد البارز د. فيصل دراج خاتمة مهمة ؛ “المستكرسون” مستخرجا هذه من خلال الكراسي مفندا وضعيات السلطات ومنافذها: “هذا كتاب عن الكراسي المتسلطة، المختلفة الحجوم والأشكال العالية والأكثر علوا، والدامية والأشد دموية، الهائلة، الرهيبة، المزركشة، المذهبة…”
الرياض الخميس 11 شعبان 1434 هـ – 20 يونيو 2013م – العدد 16432