عادية الشر


عالية ممدوح
1
يختار فيلم – حنه أرنت – الذي يعرض على شاشات العالم حادثة إشكالية واحدة من حياتها، ثم يأخذنا إلى فروع شديدة الوعورة من حالة القساوة والأذية التي تصيب المرء في اللا إنصاف ومن أقرب البشر إليه؛ العائلة، المرجعيات الفكرية، وبالتالي التملص من الوقوف ضد الظلم الفادح الذي الحق بها. مفكرة جسورة ذات اصول ألمانية يهودية، وباحثة مثقفة شغوفة بالدنيا وبالفكاهة وبالغرام الفتاك بأستاذها الفيلسوف مارتين هايدغر. هذا شريط يقول أمراً خارقاً واحداً لا غير: عندما لا توافق على الوقوف أو السير مع القطيع ولا تستأذن أي أحد، إلا ذلك الذي لا يعرًف؛ الوجدان والطاعة له. هذا الموقف سبب الرعب للمثقف الخانع الهش المزور، للطائفة الهلعة على مصالحها، للفكر بكل أطره حين يصعب التمييز ما بين النفاق التاريخي وعكسه. بهدوء الحكيم ونبالة الفارس تواصل حنه جلستها في ختام الفيلم الأخاذ هذا وهي تتناول فطورها في مطعم الجامعة، تأكل على مهل، تدخن بلذة وكأنها السيجارة الأخيرة، وتشرب القهوة ولا ترى أحدا من حولها. الأساتذة، والكثير من الأصدقاء يفرون من أمام حضرتها. يرفضون ملاقاتها والبقاء في مكان واحد معها. وكانت هي في جلستها تلك تؤكد على أمر واحد لا غير؛ الحشمة الروحية وفرادة التفكير الحر والنزاهة الأخلاقية بالدرجة الأولى.


2
كانت وحيدة أمامي رافعة خصائص عصر لا يتوفر دائما، وربما لا يتوفر للرجال ان يقولوا الحرية بالفعل الوحيد لها: ان تعطي حياتك لها، فكيف للنساء ؟ قدمت أرنت قراءة راديكالية عندما اختارت ان تقلب تلك الالواح السرية رأسا على عقب فانطلق كل شيء ضدها: روجوا وأشاعوا انها ضد السامية في مرحلة أوج تصنيفات الحساب مع النازية ومحاكماتهم الشهيرة وبعد نشوء الدولة العبرية. الشريط يبدأ بعملية خطف الضابط النازي ايخمان إلى القدس، ويدور الفيلم حوله وحول تداعياته التي تكشف سفاهات ومخاتلة الأفكار، ونشوء الدول وتداول السلطة، تشكيل النفوذ وإلى اين يأخذ بنا وبها، وماذا سيتخطى من محرمات ومقدسات؟ حنه أرنت أقترحت على مجلة نيويوركر السفر إلى القدس والقيام بالكتابة عن ما كان يطلق عليها محاكمة العصر. فكيف قالت المفكرة الأسئلة، وعلى من طرحتها؟ لماذا لم تترك سؤالاً واحداً غامضاً؟ ولماذا لم تلتزم الصمت كغيرها على الأقل ازاء يهوديتها ودولت../ ها/ الفتية، وبالدرجة الأولى، وأمام الفكر الإنساني بأسره. يلزم الأمر دائما وعلى مر الحقب ان يغادر أحدهم أو احداهن الطريق المطروق من قبل – القطيع – أو النخبة، ويمشي أو تمشي بخطا واسعة ولوحدها. تتمتع هذه المفكرة بالالمعية الاستثنائية على تفكيك وتسفيه الجماعي المشترك باتخاذها للقرارات شبه المستحيلة لما كانت تسميه «بالعمى الصهيوني» الذي جاء كزلزال وهي تدون وتنشر كتابها القنبلة – ايخمان في القدس – وفي عنوان فرعي: تقرير عن عادية الشر.


3
الشريط الالماني هذا اخرجته الالمانية البارعة مارغريت فون تروتا المعجبة بمواطنتها أرنت. لقد شٌغل العالم وعلى مر الازمان موضوعة الشر. وقامت بدور أرنت الممثلة والمغنية الألمانية باربارا سوكوفا المولودة في مدينة بريمن شمال المانيا في العام 1950. حصلت على جائزة أفضل ممثلة لفيلم روزا لوكسمبورغ في مهرجان برلين للسينما. اشتغلت مع الشهير راينر فاسبيندر في سلسلة أفلام تلفزيونية شهيرة تحت عنوان «برلين الكسندربلاتس» في مطلع الثمانينات. في كتابها هذا الذي حضر عبر الفيلم تشرح المؤلفة ببساطة راقية وهي تشاهد ايخمان داخل القفص وكيف شاهده وصوره الادعاء الاسرائيلي كمخلوق وحشي شاذ وسادي. لكن ايخمان بدا لحنه أرنت «» مجرد شخص عادي. موظف برجوزاي تافه. هو مرعب في عاديته، وان الشر ينبع من الذئبية التي تتملكها انانية الإنسان فهو متأصل فيه فالاشرار بلا عقل ويمكن للأنظمة الشمولية في العالم على تحويل البشر إلى محض منفذين وتروس في الآلة الادارية، أي تجردهم من انسانيتهم «كانت هذه المحاكمة وفي الدولة العبرية بعد ان تم اختطافه هو الدرجة العليا من الخزي فهذه الحكومة تحاول الابتزاز للحصول على المزيد من التعويضات من المانيا الغربية. كما انها كشفت بصورة لا لبس فيها عن» دور المجالس اليهودية في التعاون والعمالة مع النظام النازي بما آثار الشك والريبة في الادعاءات الصهيونية بكون اليهود ضحايا دائميين «هذا وغيره ذكرته ودونته ما أدى إلى نعتها بمعاداة الصهيونية بعدما توصلت إلى تهديدات بالتصفية، فطردت من الجامعة وسفهت أفكارها ومواقفها. كانت قوة التخلي عنها من قبل اصدقائها المفكرين والمثقفين والصديقات القريبات جدا ان جعل منها وقتذاك انموذجا فهي لم تتحدث إلا بلسان لم يتلعثم قط أمام الظلم، هو الحرية الذي شغلت الحيز كله في أعمالها وصيرورتها وحياتها بالكامل. كانت مؤلفاتها تقوم على تحليل آليات أصول الأنظمة الشمولية وأصول العنف والشر. كتبت عن « الأرض التاريخية، ان انجازات اليهود في فلسطين هي الشرعية ونقطة البقاء محتمل مع العرب، فاذا كان هناك بُعد تاريخي لاختيار فلسطين دون أية بقعة اخرى في العالم، فهذا لا يضفي وحدة شرعية على الوجود اليهودي فيها فالشرعية لا يمكن ان تتأتي الا من مبدأ يمكن الآخرين الاعتراف به، بالنسبة إلى العرب والحق المعترف به لليهود هو في جعل الآرض التاريخية بلدا لهم، لا بالقوة ولكن بعملهم وبثمرة رؤوسهم وأيدهم «».
+++
كنت أحضر حالي لمشاهدة ولو أجزاء من حكاية الغرام بينها والفيلسوف هايدغر لكني لم أر الا بضعة مشاهد محايدة وشديدة البرودة، بل هي اضعف لقطات الفيلم. فقبل أعوام تمت ترجمة رسائلها الغرامية التي تبادلتها مع المحبوب المتزوج القريب للحزب النازي، عميد الجامعة، الكاثوليكي وأستاذها الذي قام بتدريسها. انتقلت من الجامعة بعدما انخطفت شغفا به، كما هو أيضا. تصورت انني سوف أصغي إلى أغنية التدله بين التلميذة والعبقري فكلمات أية أغنية غرامية لا ترتبط بالمقامات. كانت بعض الرسائل قد تمت ترجمتها للعربية وكانت تشي بطريقة فذة في الانتشاء والانفلات من أسر الايديولوجيا والنظام والفلسفات اجمع. كانا يكتبان في ختام كل خطاب ما يلي: حنه التي لك. وهايدغر الذي لك. كنت اريد وبالحاح لو تقصى الشريط عن درجات ذلك الحب بين اثنين بصما القرن العشرين بالكبرياء والبهاء والفكر العبقري. كانت أرنت تعشق مارتين بالقوة المطلقة التي امتلكتها وهي تحلل وتفكك آليات الانظمة والدول والايديولوجيات. سمعت ضحكتها المجلجلة والروح القتالية والفكاهة الساحرة والمرح الحقيقي الذي كانت تبثه لمن حولها فحنه أمراة دنيوية حقيقية تؤمن وتبحث عن الحقيقة، وبالدرجة الأولى وعبر المحاكمة حاكمت اجيالا خائبة مطيعة هشة لادوار الكتاب والمفكرين. كانت صلبة سجالية بصورة لا رجعة فيها، حرة بقدر ما تثير الحرية من رعب لدى غيرها من العبيد. التفت طويلا على من حولي، وكنت أبحث في اكوام – النخب – العربية ومن داخل سجون الادلجة وبجميع أنواعها على المخلوقات النادرة الجسورة التي ادارت ظهرها لهم كلهم للقطيع والنخبة على حد سواء لكي يبقى هو، أو هي ذاتها ولوحدها، اذا تعثرت أو هلكت وهذا الأمر ينسحب على كل من حولنا، في علاقات الدول مع بعضها، او علاقة الدول مع نفسها، أو علاقات الافراد مع ذواتهم والغير، في العلاقات الغرامية، في مؤسسة الزواج وفي الصداقات الجميلة، في رفض التماثل والمحاكاة، وفي الدرجة الأولى في جميع ما ندونه ونكتبه من كتب وروايات واعمال مما يسمى البعض إبداع..

الرياض السبت 11 رمضان 1434 هـ – 20 يوليو 2013م – العدد 16462