الكاتبة العراقية عالية ممدوح في روايتها “الغلامة”: الفتاة المهزومة تنكفئ على ذكرياتها الأليمة – سلمان زين الدين

> يشكل القمع الذي تمارسه البنى السياسية والاجتماعية على الأفراد في بعض المجتمعات موضوعاً روائياً خصباً، ما برحت الرواية تمتاح منه وترصد تمظهراته، وتعيد تشكيلها في سياق روائي غالباً ما ينطوي على إدانة للقمع، فتأتي الكتابة لتصحيح انحراف الواقع وردم فسوخه، ولو بعد فوات الأوان.
وإذا كانت أداة القمع يستخدمها القامع لترويض الآخر المقموع وإلغائه، فإنه كثيراً ما ينقلب السحر على الساحر ويتحول الجلاد الى ضحية، ويغدو الجميع ضحايا البنى المقفلة ويدورون في حلقة مفرغة. وهنا، تستهلك الأداة مستخدمها، فيتحول بدوره الى أداة.
في هذا الفضاء تدور أحداث رواية “الغلامة” للروائية العراقية عالية ممدوح، التي ترصد ما يقع من مظاهر القمع على المرأة من خلال بطلة الرواية، وتعرِّي البنى السياسية والاجتماعية والحزبية والايديولوجية القائمة في غير مجتمع عربي. ولعل اطلاق تسمية “الغلامة” على الرواية يُعبِّر خير تعبير عن مسمّاها الروائي وطبيعة العلاقات بين الشخصيات المختلفة، فالغلامة لغةً هي الأَمة، وهي أنثى الغلام أي العبد والأجير، وهذا المدلول اللغوي للكلمة نقع على تداعياته في نمط العلاقات السائد في المتن الروائي.
وفي ما يتعدّى التسمية، نشير الى أن الرواية تسرد حكاية فتاة جامعية، هي البطلة والراوية في آن، تقيم عند خالتها في الأعظمية أحد أحياء بغداد، وتعيش حياة طبيعية تزاول فيها الدراسة والكتابة والترجمة، وتحلم بالحب، الى أن يُلقى القبض عليها ذات ليلة من شباط فبراير 1963، وتُقتاد الى نادٍ رياضي للتحقيق معها وسؤالها عن بدر أحد المعارضين للبنية السياسية الذي تربطها به علاقة حب، وهناك تُمارس عليها أبشع أساليب التعذيب، ويتناوب الحراس على اغتصابها، فتشكل هذه الحادثة نقطة تحوّل حاد في حياة البطلة، وتقضي على آمالها وأحلامها، تهجر العالم الخارجي وتنكفئ على ذاتها، لتتحوَّل حياتها الى سلسلة من الخيبات والمرارات” تبدأ بزواجها من شاكر ابن خالتها المعتوه درءاً لفضيحة حملها من جرّاء الاغتصاب، وتنتهي جثة هامدة مرمية عند الجرف.
واذا كان صبيحة بطلة الرواية ضحية البنى الحزبية، الايديولوجية، والذكورية المغلقة، ومثلها أنيسة الطبيبة النسائية، وعفراء الشاعرة، وهجران صديقتها، وغيرهن من النساء، فإن الجلادين في هذه البنى تحولوا بدورهم، في شكل أو في آخر، الى ضحايا لهذه البنى نفسها.
والكاتبة، من خلال الرواية والعلاقات المنسوجة بين الشخصيات، تقوم بتعرية هذه البنى، حيث كل من فيها يتربص بالآخر، والناس فيها مسكونون بهواجس التعذيب والتحقيق على جبهة الضحايا، وهواجس الاقصاء والإبعاد وفقدان الموقع على جبهة الجلادين. ولعلّ في اندراج النساء في الرواية في الجبهة الأولى، واندراج الرجال في الثانية إحالة واضحة الى البنى يصنعها الرجال ليطحنوا بها النساء، ثم تعركهم هم بدورهم، فهذه البنى تمتهن الانسان، وتضطره الى التقنّع بما ينافي الطبيعة الانسانية، فيتحول الى أداة مسيرة. ولا ينأى عن قمعها المكان، فالنادي الأولمبي الذي “كان مبعث بهجة في الأيام الخوالي لجميع أهالي الأعظمية” ص22 غدا مقرّاً للتحقيق والتعذيب، والأعظمية نفسها تحـوّلت الى مكان قفرٍ، مريضٍ، في عيني الراوية، والمدن لا تضحك، والعاصمة نفسها لا تستطيع البطلة أن تهضمها أو تفككها.
ويتعدى تأثير البنى المغلقة الانسان والمكان الى الزمان أيضاً، حتى ذاك الذي لم يأت بعد، تقول بطلة الرواية: “… حتى السنين التي لم نعشها بعد، نحن وغيرنا، أشعر أنها فسدت مسبقاً. أُخذت ونهبت هي أيضاً ولم يترك لنا أي شيء”.
من هنا، كان لا بد من تعرية هذه البنى وأدواتها، وعملية التعرية هذه تقوم بها الكاتبة على لسان الراوية / بطلة الرواية من خلال تشريح أدوات البنى المغلقة، بالوصف أو بالسخرية أو الرسم الكاريكاتوري أو النقد الجارح، وكأن الراوية تريد بذلك أن تنتقم مما لحق بها على أيدي هذه الأدوات. ولعل موتها منتحرة أو مقتولة يشكل إدانة صارخة للأنظمة القمعية.
ومن تلك الأدوات الموظفون الكبار و”المناضلون” والمسؤولون الحزبيون والمحققون… فمسلم التقي مدير عام الجريدة انتهازي، فاسد اداريّاً، ذو شكل كاريكاتوري، وهو اسم على غير مسمى، وكأن الروائية تعمدت ان تسميه بنقيضه إمعاناً في تعريته، فهو في تصرفاته لا يمت الى الدين والتقوى بصلة، وهي في تصوير الشخصيات وتصرفاتها قد تعتمد اللغة المباشرة فتسمي الأشياء بأسمائها، وقد تستخدم اللغة المداورة فتجعلنا نستنتج ان هذا الموظف فاسد إدارياً من خلال ذكر محتويات مكتبه، وقد تختار السخرية فتبرر عدم ضحكه بقولها: “كأن ابتسامات المناضلين والمفكرين لا تحضر إلا بقرارات حزبية، وثمة بوليس سرّي يقتفي آثارهم فيما لو انفرجت الشفاه…” أو كأن الضحك “تبديد للاقتصاد الوطني وخرق للدستور”. وربما لجأت الى التصوير الكاريكاتوري “رأسك ثقيل، ناءٍ وغير مرئي”. وهكذا، يتم تحويل الجلاد الى ضحية من خلال السرد الروائي بواسطة اللغة.
واذا كانت هذه الشخصية نتاج الايديولوجيا المغلقة، فإنها ضحيتها أيضاً، فمسلم هذا مسكون بهاجس الاقصاء والإبعاد والخوف من رقيب ما، وحتى التضحية بحياته.
وتحت هذا النوع من الشخصيات المأزومة المتعددة، يندرج رامي حيدر المحقق، المسؤول الحزبي المتسلط الذي يقوم بالتحقيق مع صبيحة بطلة الرواية بدافع الغيرة من بدر الذي أحبته. وهنا، تدخل القضايا الشخصية في تلفيق التهم للناس وإلحاق الأذى بهم، وتستخدم السلطة والبنى التي أفرزتها لتصفية الحسابات الخاصة. ورامي هذا تصفه الراوية/ البطلة بأنه “مناضل صالونات”، له ضحايا كثيرات منهن الراوية نفسها وصديقتها هجران التي تحوّلت من امرأة جميلة الى كتلة لحم تعافه الأنفس. على أن هذا الجلاد نفسه هو ضحية، يغار من بدر، ويحس إزاء صبيحة بالذل والانكسار واللذة والكذب، وتنضح اعترافاته وذكرياته بالمرارة واللوم والعتاب والشعور بالذنب، ويعاني الخيانة والقهر والتشرد والغدر والتمزق، حتى وهو يمتطي الطائرة ليشغل منصب سفير لبلاده في احدى الدول، ما يشي بتناقض كبير بين الداخل والخارج. فخلف هذا الجبروت المظهري ثمة هشاشة داخلية.
وهكذا، فالبنى المغلقة التي هيمنت على المرأة في الرواية على تعدد أسمائها لا تلبث أن تستهلك أدواتها من الرجال، فيتحول الجلاد الى ضحية والقامع الى مقموع. ولعل الأسماء المتعددة التي اتخذتها الراوية بتعدد المواقع والمراحل التي انتقلت بـيـنـهـا تـشير الى أن المرأة واحـدة في اجـراء الــقـمـع عـلـيـهـا مهما اختلفت الأسماء والمواقع.
هذه الرسالة تنهض بها الرواية من خلال مجموعة من التقنيات، منها السرد، التذكر، الوصف، التناص، الحوار، تعدد الرواة… وقد استخدمت عالية ممدوح كلاً منها في سياق معين، وأدخلتها في نسيج من العلاقات الروائية يحيل الى العالم المرجعي الذي تمتاح منه الرواية أحداثها. غير أن التقنية الأكثر حضوراً فيها هي تقنية التذكر، و”الغلامة” برمّتها هي حصيلة هذه العلاقة الجدلية بين الوقائع والذكريات، مع العلم أن هذه الأخيرة تشغل المساحة الأكبر حتى يمكن القول أن السرد الخارجي المتعلق بالوقائع وظيفته الربط بين المساحات الكبيرة للسرد الداخلي المرتبط بالذكريات. فالراوية /البطلة/ الضحية لا تجد ما تلوذ به بعد ما أنزله الواقع وبناه القامعة بها سوى ذاكرتها تعكف عليها، وتسترجع ذكريات مُرّة في الغالب، وهي تعيش في الماضي – الذكريات أكثر مما تعيش الحاضر – الوقائع الثقيلة الوطأة عليها. وهنا يغدو التذكر أو الاسترجاع نوعاً من الهروب من الواقع المر الى آخر أقل مرارة. غير أن بعض الاسترجاع جاء استطراداً من قبيل الزائد الذي لا يؤثر في مجرى الأحداث بقدر تأثيره في تماسك البنية الروائية.
ولئن اعتمدت الكاتبة السرد في تغطية الوقائع والذكريات والأحداث مما نرصد من خلاله حركة الزمن، فإنها استخدمت الوصف في مقاربة الأماكن والمشاهد. وهنا يغدو الايقاع بطيئاً، وتلم اللغة بالتفاصيل والجزئيات والحركات والسكنات. أما تقنية التناص التي مارستها ممدوح بإيرادها كلمات وأقوالاً وفقرات مقتبسة من هنا وهناك، ووضعتها بين مزدوجين، فإنها لم تنسجم دائماً مع السياقات التي وردت فيها، وكثيراً ما بدت نابية أو مفتعلة، بينما يبدو التناص طبيعياً وذا دلالة في مواقع أخرى، حين تحكي البطلة / المترجمة القصص والحكايات لمدير الجريدة كي تدفعه الى “اقتراف” فعل الضحك، ما يحيل الى ألف ليلة وليلة والعلاقة بين شهرزاد وشهريار، وحين تورد في النص المواويل الشعبية في سياقات معينة على سبيل المثال. وتستخدم عالية ممدوح في كتابها تقنية تعدد الرواة مما يعني النظر الى البؤرة الروائية من زوايا مختلفة، وينجم عن هذا التقاطع والاختلاف تظهير الحكاية واضاءتها من جوانب عدة. إلا أن الراوية الأكثر حضوراً هي بطلة الرواية / المرأة المضطهدة، وكأن الكاتبة أرادت أن ترفع عنها بالروائي ما أحاق بها من ظلم في الحياة.
يبقى أن نشير الى أن تحديد أماكن بعينها وتواريخ محددة للأحداث واستخدام اللغة المحكية في الحوار أضفيا على الرواية صدقاً فنياً، هو شرط أساسي لتُحدث التأثير اللازم وإبلاغ الرسالة التي تحمل.
“الغلامة” صرخة جريئة ضد البنى المغلقة وأدواتها، واحتجاج على أنماط العلاقات في مجتمع ذكوري يضطهد المرأة، ولا يزال ينتج أشباهه ونظائره.
* الغلامة – رواية عالية ممدوح، صدرت عن دار الساقي لندن، بيروت 2000.

http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/1998%20to%202002/Alhayat_2000/General/161/16175.xml.html