الأجنبية».. وكتابة السيرة لاستنقاذ الوطن« 1-2

صبري حافظ

تمنح الكاتبة العراقية المرموقة عالية ممدوح نصها الجديد «الأجنبية»، وهو كتابها الثانى عشر، عنوانا فرعيا جديدا
هو الآخر على الكتابة العربية، وهو «بيوت روائية». وهو عنوان يطرح على القارئ قضايا التلقى. وهل هو
بإزاء رواية أم نوع آخر من النصوص السردية التى امتاحت حدود الأجناس الأدبية؟ كما يطرح على الناقد مسألة
تجنيس النص الواعى بنصيته. فهو نص ينشد التفرد، حيث لا يريد بأى حال من الأحوال أن يعامله القارئ، ناهيك
بالناقد، على أنه رواية، ولا يريد بوعى نصى معلن أن يكون سيرة. إذ تقول كاتبته: «لا أميل إلى أى عنوان تدخل
فيه كلمة السيرة. فهذه كلمة ما إن أسمعها تنطق من فلان أو غيره، حتى أصغى إلى نوع من الصفير يتجمع فى
قاعات مغلقة، ومن هناك يبدأ التغامز». (ص 20)، وهو التغامز الذى تولده عادة الرغبة فى تبرير الذات ناهيك
بتمجيدها أو تصفية حساباتها مع الآخرين. فقد طال كتب السيرة فى أدبنا الحديث شىء من تأثير السير والملاحم
العربية باعتبارها سجلا لبطولات حقيقية أو مختلقة. ومع ذلك فإن فى كتاب عالية ممدوح من ملامح السيرة،
بمفهومها الغربى لا العربى، هذا الجانب التوثيقى الذى يسمى الأشياء بأسمائها الحقيقية دون مواربة أو أقنعة، سواء
أكانوا أشخاصا أو أماكن أو أحداثا. وفيه أيضا منها الرغبة فى فحص أدق تفاصيل الذات وتمحيصها. وتلك الأريحية
مع الآخرين، التى لا تعادلها إلا الصرامة مع النفس.
وهو كتاب لا أعرف له سلفا فى الكتابة العربية غير كتاب عبد الحكيم قاسم البديع «قدر الغرف المقبضة»، وهو
الآخر كتاب يستعصى على التصنيف. كتاب يعى تجريبيته ككتاب عالية ممدوح، وإن أخفى عبد الحكيم قاسم فى
نصه كل الأسماء الحيقية، فى نوع من إزاحة النص المبكرة بعيدا عن التماهى مع الأماكن التى كتب عنها أو
الأشخاص الذين شهدوا بعض أحداثه. على العكس تماما مما تفعله عالية فى نصها الجديد المثقل بالوقائع والتوثيق،
إلى الحد الذى استحال معه غلاف الرواية، فى نوع من التناغم مع عالمها، إلى أمشاج من الوثائق والأختام
والبصمات، التى يتعلق معظمها بموضوع النص الأساسى، وهو الترحال. الترحال فى المكان وفى الزمان وفى
أغوار الشخصية الأساسية على السواء، كما هو الحال فى نص عبد الحكيم قاسم.
لكن نص عالية يوشك أن يكون نقيض نص عبد الحكيم قاسم، الذى يحكمه قدر الزنزانة المبهظ، الذى يطارد كل
الغرف المقبضة فيه. ليس فقط لأنه يطرح الذات باختلافها وتمايزها وأجنبيتها عنوانا له، لكن أيضا لأن التملص من
«قدر الغرف المقبضة» هو موضوعه الحقيقى، والتحرر من أمراس كل ما يبهظ النفس، ويحدد أفقها هو سر
استبداله البيوت الروائية بها، وانفتاحه على عالم أوسع. عالم يوشك أن يشمل العراق كله، وأن يطرح بطلته فى
الوقت نفسه كاستعارة لكل ما جرى للعراق، وكنموذج للمواطن الإنسانى الجديد فى القرن الحادى والعشرين. قرن
ملايين المهاجرين، الذين اغتربوا فى أوطانهم فى كل مكان، وقد استحالوا إلى جزء أساسى فى فسيفساء العالم الذى
يموج دوما باضطرابات لا تنتهى.
لكن دعنا ندخل تلك البيوت الروائية من أبوابها، فنحن هنا بإزاء بيوت كما يقول العنوان الفرعى، لكنها بيوت
روائية، يلعب فيها الخيال الروائى على الرغم من واقعيتها الشديدة، ونسبة الكثير منها إلى أصحابه، دورا أساسيا فى
فتح النص على آفاق استعارية وتأويلية خصبة. فالنص مكون من فصول قصيرة متتابعة، خمسة وسبعين فصلا فيما
يزيد قليلا على مئتى صفحة. ثلث هذه الفصول، أى خمسة وعشرين فصلا، تحمل عنوانا يستخدم كلمة البيت أو أحد
مترادفاته، ومع ذلك فإن أكثر هذه البيوت بيوت استعارية: بيت الطاعة، بيت الجحيم، بيت الثمالة، بيت اللسان، بيت
الخوف المعتق، بيت اللغة، إقامات ما بعد الحداثة، بيوت إلكترونية.. إلخ. لذلك كان طبيعيا أن يبدأ النص بأحد تلك
البيوت الاستعارية حينما يبدأ بفصل معنون لبراعة الاستهلال بـ«بيتطاعة». وهو البيت الذى يتضافر فيه
الواقعى مع الاستعارى، إنه البيت الذى رفضت الراوية أن تسكنه منذ الصبا. أهو هذا الرفض المبكر ما جعلها
بالفعل «أجنبية»؟ حتى وهى لا تزال صبية فى بيت العائلة بالأعظمية، ففى هذا الحى العتيق فى بغداد الذى
تعنونه لمرارة المفارقة «بيت الجحيم» تؤسس الراوية لأجنبيتها قبل أن تطأ أقدامها الأرض الفرنسية بعشرات
السنين. فهى «وديعة فى البيت، ضارية فى الشارع»، حيث كما تقول لنا «كنت أقول نعم لكل طلب يُطلب منى،
لكنى لا أنفذه».
هى الطاعة المقلوبة إذن منذ بواكير الصبا، المرفوضة فى أوج العمر، وقد تذرعت بسطوة القانون. هكذا يواجهنا
النص من البداية بتلك الدعوى المرفوعة ضدها من الزوج/ السلطة/ الماضى/ الوطن لإدخالها فى «بيت الطاعة»
الشرعى بعدما احتجز أوراقها الثبوتية، فى عالم عربى فقد فيه كل شىء شرعيته ومصداقيته. فما يبدو ظاهريا على
أنه توتر العلاقة مع الزوج ينطوى باطنيا عن توتر العلاقة مع العراق. وتوشك لعبة الأوراق الثبوتية تلك أن تكون
لعبة النص الأساسية، لعبة إثبات الذات إزاء محو الوطن لها، بل إثباتها إنقاذا للوطن الممحو بالغزو والدمار من
التبدد والضياع. فى هذه اللعبة يأتى دور الكتابة التى تعى نصيتها وأهميتها. فالكتابة فعل إثبات للممحو والمنسى
والمتروك، هى التى يستعيد بها العراق نفسه ألقه ووجوده بها وفيها من جديد عبر هذا النص الجميل.

http://tahrirnews.com/%D8%A3%D8%AE
%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D8%B1/
%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%8A%D8%A9-
%D9%88%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-
%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-
%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B0-
%D8%A7%D9%84/