الأجنبية : تطارد التمييز الذكوري في مخدع الزوجية

حين تتحول اليوميات غالى نص !
رجب الطيب
في أحدث إصداراتها , تجرب الروائية العراقية , المقيمة في أوروبا , عالية ممدوح , كتابة فصول من السيرة الذاتية
, عبر مقاطع , أشبه باليوميات , لم تحددها وفق مرحلة زمنية محددة , ولكن أرتباطا بفكرة ” الوطن ” واللجوء ,
ورغم ان أجراءات الحصول على الأقامة في فرنسا , بعد تعذر الحصول على الجنسية , والتي جعلت منها ” أجنبية
” مقيمة , كانت محور النص , او تلك الأوراق / اليوميات , إلا أن انفتاح الذاكرة , على مصراعيها , جعل كل
فكرة ” الوطن ” والأنتماء اليه , محل مراجعة , بل واُكثر من ذلك , ان السرد المتتابع , رغم تعرجه , يثير في
النهاية السؤال : هل من الضروري أن تكون المرأة أجنبية في بلد آخر , أم أنه يمكنها ان تكون كذلك وهي في
وطنها , ثم ما هو الوطن حقيقة ؟
يبدأ النص , أو اليوميات , التي على كل حال , ترتبت وفق تسلسل , كان بعضه منطقيا , أي ان مجموعة المقاطع
التي تحدثت عن الأجراءات الأدارية والقانونية من أجل الحصول على اللجوء الأنساني , ومن ثم على الأقامة ,
كانت متتابعة في سردية تصاعدية , وصولا لنجاح الكاتبة في الحصول على الأقامة بعد مشقة وعناء , وقد بدأ
النص , منذ لحظة أستدعائها من قبل القنصلية العراقية في فرنسا , لتبليغها , برفع زوجها عليها دعوى بالنشوز ,
الى ان حصلت على تلك الأقامة , لكن الجزء الأكبر من أوراقها كان يعود بها الى ” الأعظمية ” مسقط رأسها , الى
سنواتها التي عاشتها في بغداد , ثم في بيروت , وبعد ذلك في المغرب , وكأنه كان مقدرا لجيلها ” اللجوء ” والرحيل
من بلد لآخر , في رحلة نفي لمعنى الوطن , الذي يعني الأستقرار والهدوء .
لقد أستعاضت الكاتبة في الواقع بمجموعة من الأصدقاء , الذين كانوا يحيطونها بالود والحب , ويفعلون من أجلها ,
كل ما يمكنهم القيام به , من أجل ان يكون بمقدورها ان تواجه المعاناة اليومية , المحفوفة بالخوف الدائم , والناجمة
عن مركب القهر , المتمثل بأحوال الوطن , بما فيه من تمييز ذكوري , ومن ثم ببيروقراطية الغرب , وأصراره
على الحصول على كل الأوراق الأصلية العديدة , حتى يتم التعريف على الشخص , ومن ثم منحه , صك الأقامة
.
وفي السياق , تنجح الكاتبة كثيرا , بيومياتها , التي تبدو للوهلة الأولى , أنها يوميات عادية , يمر بها كل مواطن أو
مواطنة من مواطني الشرق الأوسط , في رصد الخوف الكامن في قعر ذاتها , والذي معه , ترتعد فرائصها , من كل
عارضة , يمكن ان تفرض عليها الرجوع ” للوطن ” , حيث توحي الكلمات والفواصل والحروف , بقدرة غير
محدودة للزوج على أجبارها على العودة , والطاعة , تنفيذا للقرار القضائي بأعتبارها ” ناشزا ” يتوجب أعادتها
لبيت الطاعة الذكوري .
وإذا كانت المعاناة في الوطن , تدفع من يعانون من الأغتراب فيه الى هجرته , والتوجه , في الأغلب الى الغرب
حيث الحرية والحقوق الأنسانية , إلا أن اللجوء , الذي يجعل منك ” أجنبيا ” ليس الا خيار من يلجأ من الرمضاء
بالنار , وما من ملاذ لعالية ممدوح بالذات , إلا اللغة , حيث وجدت ذاتها , او وجدت فيها وطنها , الذي تحقق عبره
ذاتها ووجودها وكرامتها الأنسانية , ليس فقط لأنها ” تحققت ” من خلال اللغة العربية , وبعد ان كتبت عدة
نصوص روائية , أستثنائية , ولكن لأنها أيضا أكتشفت حين كانت تخضع لدروس تعلم اللغة الفرنسية , انها ل
تحبها , وانها فاشلة جدا في تلك الدروس , ” تعلم اللغة الفرنسية يستفزني تماما _ أغلاط الضمائر والأفعال , تبدو
لي كل أستاذة جنرالا حربيا _ بيوت المعلمات , أخبر صديقاتي عن كل هذا الأرهاب اللغوي الذي وقعت تحت
أسره _ الأليانس ” .
الرفض على طريقة غاندي !
لعل عالية ممدوح بشخصيتها الوادعة , والتي عاشت شبابها مناضلة يسارية كما معظم أبناء وبنات جيلها , قد
وجدت في هذة الأوراق , التي ليست بالضرورة ان تكون قد كتبت كيوميات , أي انها كانت تكتب وفق الرزنامة
اليومية , في أجندة الوقت , بل هي أرادت ان تفتح للذاكرة , حتى تصد ” حالة الأغتراب ” التي وصفتها , بكونها
أجنبية , ليس هنا فقط , بل ومنذ او ولدت , وتيتمت من جهة الأم وهي في الثالثة , ولأنه الأب الشرقي لا يعوض
أبناءه حنان الأم , خاصة أذا كن بنات و فقد وجدت في جدتها ” وفيقة ” تعويضا عن الأثنين , لعل عالية وجدت في
هذة التقنية في الكتابة وسيلة لتتحرر من درامية النص الروائي , ومن محدداته , التي تحيط بالبناء الروائي وتطور
الشخصيات , لتترك للذاكرة ان تسجل ما تتذكره و والذي عادة ما يكون أهم ما تحتفظ به , وفقط أن تتبع خيط ”
الأغتراب ” الموازي للشعور بكونها اجنبية , هو ما ربط بين هذة المقاطع السردية .
ومنذ ان كانت في صبية صغيرة , كانت هذة طبيعتها , ينتباها الغضب , وتمارس الرفض ولكن على طريقة غاندي
, أي الرفض السلبي ,” كنت أقول نعم لكل طلب , لكن لا أنفذه , يافعات طائشات كنا , محاطات بنساء جد
واقعيات , جدتي لغتها قرآنية , عمتي توقفت عند المتوسطة , ( يبدو ان جدتها توفيت عام 66 ) أبي البوليسي
الأول الذي واجهته , توفي وانا على اعتاب السادسة عشرة _ بيت الجحيم ” , هكذا تسمي البيت الذي نشات فيه ,
وشهد طفولتها .
اللجوء الى اللغة
وكما تستند الى أسلوب الرفض السلبي و هي تقاوم غيرتها وأغترابها , وجدت عالية ممدوح ضالتها في اللغة
والكتابة , منذ ان كانت تعيش حياتها مع زوجها , حيث كانا متوافقين في كل شيء , وعملا معا في مجلة الفكر
المعاصر , الى ان نجحت رواياتها التي كتبتها تباعا , ولخصت فيها حياتها , بعد ان فشلت نماذج العائلة وكذلك
نماذج الأوطان التي عاشت فيها , بدءا من بيت الأهل , بيت ابيها في المعظمية , مرورا ببيت زوجها , وحتى ان
أبنها وحفيدها , لا يعشان معها , ولم تكن بغداد , بيروت , الرباط , وحتى باريس , الا بيوتا عابرة , فقط وحدها
اللغة التي شيدت لها رواياتها ” المحبوبات ” هي من حفظت لها وجودها وكينونتها , ” حياة المرء بالضبط هي
رزمة من الأوراق , تعلمت الحسنة الثانية من وجودي هنا كأجنبية , وهو الأستنساخ ص 55 ” . وهي على قدر ما
سدرت عن بيوت : من بيت الطاعة الى بيت العمر , مرورا ببيوت عديدة , مثل بيت نهلة , بيت الجحيم , بيت
بلقيس ( حيث تروي واقعة جمعتها مع محمود درويش ونزار قباني , حين دعتها صديقتها وجاراتها في بيروت ,
بلقيس الراعي , زوجة نزار للغداء , وكان دوريش مدعوا ايضا ) , بيت القانون الفرنسي , بيوت المعلمات , بيت
القرد العاري , بيت الغبار الناعم , بيوت الأصدقاء , بيت الخوف العتيق , بيت هيلين , بيت الجارة , بيت النوم ,
بيت اللسان , البيوت الألكترونية , بيوت الألات , بيت البوعزيزي , بيت الثمالة , بيت أبي , بيت المرضى , الى
بيت النمل , مرت عالية ممدوح في فصول التاريخ , هائمة , تبحث عن ذاتها , فلم تجدها إلا في بيت اللغة !
معارضة دائمة :
لم تعترض فقط عالية ممدوح على الأجراءات المعقدة التي ” تذبح ” طالبي اللجوء الأنساني , فقط , ولكنها أيضا
اعترضت على ما يسمى بقانون الأندماج , والذي ” يفرض ” على طالبها تعلم اللغة , وبعد ذلك العادات والتقاليد ,
ولا يأخذ بعين الأعتبار حق الأنسان في الأحتفاظ بلغته , وثقافته , وأشيائه الخاصة , ” بدا لي ما يسمى بقانون
الأندماج نوعا من الأذى الجسدي والروحي لي شخصيا _ يتيمة اللغات ” , وهكذا بقيت ” أجنبية ” هنا في بلاد
النور , كما كانت هناك في بغداد , التي كانت تعتبر مدينة الدنيا قبل ألف عام , تماما كما هي نيويورك عام 2000
” لنغير أوطاننا , أدونها دون لعثمة ,الأجنبية كنت هناك وما زلت هنا في فرنسا ص 93 _ في الدرجة الصفر
من الوطن ” . هكذا تقدم عالية ممدوح أضافة للمكتبة , نصا مفتوحا ومنفتحا , ربما بتأثير الربيع العربي , وثورة
الأتصالات , وجملة من الأفكار , التي تجعل من أنتماء الأنسان , دون حواجز او محددات , مفتوحا على الأفق
الأنساني , ليدرك بانه ليس المكان هو السبب الوحيد لأغترابه , ولكن جملة من المحددات السياسية والأجتماعية ,
التي لم تكتمل , بأبعادها الأنسانية الكاملة , ولا في اي مكان , بعد .

http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/09/18/
342270.html