لو أخذنا في الاعتبار الأسباب التي سمحت للكاتبة الكندية أليس مونرو الفوز بجائزة نوبل للآداب لهذا العام، لتحتّم علينا ربما الإقرار بأنّ الإنصاف كان يقتضي أن تتقاسم
الجائزة مع كاتبة أخرى هي الفرنسية آني أرنو. فهي شأن أليس مونرو، كاتبة قصة قصيرة (نصوص تتأرجح بين القصة والرواية). وهي، مثل مونرو أيضاً، تحفر في تربة
الطفولة والمنبت
والأهل وتتأرجح بين العائلة والمحيط الخارجي.
كل كتاباتها، كلها على الإطلاق، هي شذرات من سيرة ذاتية غير مكتملة. كلّ نص هو فصل من كتاب السيرة، سيرتها الذاتية وسيرة أهلها. نصوص تسرد طفولتها، مراهقتها،
علاقاتها الغرامية، زواجها، إجهاضها، ثم حياة والديها، مرضهما، موتهما.
تنشغل آرنو كثيراً بهذه الهواجس، أي بالعلاقة بين الأبناء والأهل، العلاقة الصعبة المتوترة بين البنت وأبيها أو بين الولد وأبيه. بين البنت وأمها أو بين الولد وأمه. وهي طالما
تستعيد المشاهد الصغيرة، الحميمة، في القرية الصغيرة التي ولدت فيها، لأبوين يملكان حانوتاً، بعيداً من صخب المدن الكبيرة وتعقيدات العيش فيها.
وفي هذا الإطار، أصدرت آرنو كتابها الجديد بعنوان «رجوع إلى إيفتوت»، وهو نص سردي يتحدث عن عودة الكاتبة إلى مسقط رأسها بعد أربعين عاماً من الغياب.
تحكي أرنو في النص عن علاقتها بالمكان، بالطفولة، بالذكريات، بالأهل والأصدقاء… هذه الأشياء التي صاغت شخصيتها، مرة واحدة وإلى الأبد. تحكي بإسهاب لم نعتده في
نصوصها القصصية والروائية، عن العائلة، المدرسة، المدينة، عن العلاقات المكبوتة والمغدورة. تكتب بنظرة فاحصة، حاذقة، وبتمعن كأنها طبيبة نفسية. ورغم أنّ النص عمل
توثيقي يحيط بجوانب من الحياة الفعلية التي عاشتها الكاتبة، إلا أنها لا تكاد تفترق عن نصوصها الإبداعية الأخرى التي كانت أوكلت أمر تشييدها إلى المخيلة والتأليف، أو ما
سماه النقاد، التخييل الذاتي.
لهذا قد يصعب على القارئ تلمّس الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية التي تجتمع في نصوصها. ففيها تمتزج السيرة بالخاطرة، والمقالة بالاعترافات، واليوميات بالرحلات،
في صفحات قليلة مكثفة. ويلوح نصها الأخير كما لو أنه فصل الختام في هذه المسيرة البنلوبية التي استغرقتها رحلتها الكتابية منذ أول سطر خطته.
وهي إذا كانت عمدت، في كل نصوصها، إلى إلباس السيرة ثوباً قصصياً، حكائياً، روائياً، فإنها، في النص الأخير، تكشف عن وجهها عارياً وتقدم هواجسها من دون مواربة.
ولكن من قال إنّها لم تكن صريحة في ما كانت كتبته من قبل؟ ألم تكن قصصها ورواياتها محاضر ضبط سردية عن كينونتها الخاصة موضوعة على خلفية محيطها الأسري
والاجتماعي؟ فكل قصة كانت تتكفل بكشف النقاب عن جانب من جوانب عيشها وعيش الدائرين في فلكها. ولكنها كانت تدوّن هذه الملحمة الحياتية بأقصى قدر من التقشف
والتلخيص. فنصوصها سرديات حيادية عن مواقف حياتية معيشة بالفعل وعلى أرض الواقع. وهي نادراً ما تسمح للفانتازيا أن تتسرب إلى النص. بل إنها تصف الواقع كما لو
كانت ترسم لوحة بالأبيض والأسود، بقلم من الفحم على ورقة بيضاء. لوحة هادئة، من دون أي ميل إلى الإبهار أو الزخرفة. ليست هناك خربشات طائشة ولا دفقات حارة.
تبدو نصوصها كأنها منزوعة الدسم الدرامي. فالسرد يحول الواقعة، مهما كانت حافلة ببعد فجائعي، إلى حدث عادي. تنهض اللغة بدور حاسم في كبح الدراما وإبطال مفعولها
الانفجاري. في قصة (رواية؟) «العار»، تذكر أنّ والدها كان على وشك أن يذبح أمها. هذه المعلومة القاسية، الصادمة، تمر بهدوء كجملة عابرة ويحافظ النص على توازنه
بعيداً من أية شحنات انفعالية.
وفي «الحادثة» تتحدّث عن عملية إجهاض تعرضت لها بعد علاقة غرامية عابرة مع صديق جامعي، لكنّ العملية تبدو كما لو كانت خبراً بارداً على شاشة باردة لجهاز
كومبيوتر بارد في مكتبة عامة باردة.
والأم، في دار العجزة، تنتظر ابنتها تماماً مثلما تنتظر فتاة صغيرة أمها. تشعر الأم بالوحدة واليأس غير أن الكاتبة لا تقارب ذلك بميزان المشاعر والعواطف الجياشة، بل تنظر
إلى الأمر بوصفه مشهداً إنسانياً مألوفاً يتكرر كل يوم. فتستعمل كل ما في جعبتها من أدوات القص والتشذيب كي تعيد الحادثة إلى سويتها الخام، حتى تغدو الواقعة مجرد حدث
اجتماعي يمكن رصده وتفحص مجرياته بحيادية وبرود ومن دون انفعال.
ترى آرنو أنّ ثمة ما يدعو إلى الغوص في الحدث من منظار الفرادة والاستثناء، لكنها تكتفي بالرصد والتدوين وتعفي نفسها من التحليل والتعليق. عينها لاقطة مثل كاميرا
متجولة، بل هي أشبه بجهاز رصد الزلازل الذي يسجل قوة الزلزال ولكنه لا يدون العويل الذي يصدر عن ضحاياه. المشاعر التي تحفر سواقيها بصمت في أعماقنا تنسكب
على جمل مؤلفة من المبتدأ والخبر ونادراً ما يكون الفاعل شاهداً على الفعل. هي إذ تكتب عن كآبة أمها أو عزلة أبيها أو علاقتها الغرامية فإنها تكتفي بسرد الأشياء كما تجري
دون أن ترفقها بالانفعالات التي تتولد عنها.
التدوين الكتابي عندها هو غالباً على مقدار كبير من الحيطة والحذر كي لا يقع في فخ العواطف. النص تسجيل وليس مرثية. والكاتبة مجتهدة في النأي بالنفس عن الانخراط
في حروب الانفعالات. مهمتها أن تروي وحسب. أن تفعل ذلك بكل ما لديها من موهبة في تنحيف الجمل وتخليصها من دهون العبرات المشحونة بالشهقات. مهمتها هي التقاط
التفاصيل الصغيرة وزجها في مختبر لغوي متقشف. بل إن بعض نصوصها يخلو من الشخصيات الحية، التي تمارس طقوس العيش في الهواء الطلق وتكتفي من ذلك بعلامات
أو إشارات تومئ إلى كيانات بشرية غائبة. تغدو الحالة النفسية أو العاطفية أو الاجتماعية هي بطلة القصة. إنها تقتصد في عناوين النصوص أيضاً، فقصصها تحمل عناوين
عادية، بسيطة، تشير فوراً إلى المحتوى من دون فذلكة أو تنميق: «العار»، «أم»، «المكان»، «الحادثة»، «عاطفة بسيطة».
لا تخفي آرنو هروبها أيضاً من سجن القوالب الثابتة، لأنّ الكتابة، بالنسبة إليها، آلة تصوير تلتقط المشاهد وتضعها في إطار بانورامي، لا انفعالات فيه ولا مبالغات. نصوصها
مقاطع سردية مبتسرة، متدفقة برفق، من دون عناوين فرعية، أو فصول، أو أرقام، في ما يشبه قصاصات متباعدة عن صورة متشظية مزقها مقص الزمن.
تتسلق الكاتبة سفح الرواية بصور متجاورة من الكلمات فيختلط النثري والشعري في بوتقة واحدة، ثم تهبط مسرعة قبل أن تصل إلى القمة.
الجمعة، ١٤ مارس/ آذار ٢٠١٤
http://www.alhayat.com/Articles/1086092/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-
%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A2%D9%86%D9%8A-
%D8%A3%D8%B1%D9%86%D9%88–%D8%AA%D9%84%D8%AA%D9%87%D8%A8–%D8%A8%D9%84%D8%BA
%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D8%A9