حاورته- عالية ممدوح
لن أبالغ إذا اعترفت، أنني ومنذ العام 1982 حين وصلت المملكة المغربية وأنا أتوق بشغف لإجراء مقابلة طويلة مع الناقد والروائي البارز «سي برادة»، هكذا نناديه حتى اليوم، لكن ذلك لم يتم إلا هنا، في باريس . كان يغادر ويعود وأنا أيضا . يترك المغرب ويحاول الاستقرار في باريس، فأفعل ذلك لأسباب مختلفة . عمليا، لا أجيد كتابة مقدمات المقابلات، أو أنني قد أنسى إحدى محطات أو بعض المواقع التي شغلها في حياته الضاجة والعامرة بالأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية، تابعته في المشهد الثقافي المغربي
عندما عشت هناك فقد كان ولا يزال رائدا جذريا مجددا ومقتحما، خرّج اجيالا من الطلبة والمريدين ومن النقاد المجددين أصحاب نظرة نقدية جريئة حين كان يشغل مركز أستاذ في كلية الآداب في الرباط . أشرف على تحرير العديد من المجلات والصفحات الثقافية في المغرب .
ساهم مساهمات جذرية في تطوير وتجديد البنية الأساسية لاتحاد كتاب المغرب حين شغل رئاسته ولعدة دورات .
أصدر حشدا من التراجم المهمة والكتب النقدية والروايات ذات «الأصوات الذاتية التي تعيد لنا الجوانب المخفية والمغيبة» ففي روايته – الضوء الهارب – حاول «أن نسترجع الزمن ونحن نجري وراءه كضوء هارب، هنا، لا أدري، هذه ليست رؤية فرح بهذا المعنى، ولكن هي من داخل ظروف صعبة تريد أن تسمع الصوت، أن تستمر في الحياة وفي البقاء رواية «لعبة النسيان» ترصد حالات الاستنفاد، حالات الزوال وحالات التبّدل، أي العلاقة مع الزمن التي يبدو فيها الإنسان مهزوما مسبقا .
محمد برادة، كاتب متحرك، متغير، متنقل ما بين النقد والرواية والترجمة والقاء المحاضرات .
عمل في الإذاعة ويعترف، لم يكن لديه خبرة بالتدريس لذلك كان يمارسه كنوع من الهواية . كان يدفع طلبته إلى القراءة والحوار والمناقشة، وهو من الأساتذة الذين أسهموا في تطوير وترقية طرائق تدريس الأدب العربي الحديث .
له إشراقات في مفهوم وتأصيل كتابة الذات، ليس من زاوية نرجسية، لكن الذات في تماسها، في ملامستها للمجتمع والآخر ولكل أنواع العلاقات السائدة في المجتمع .
من هنا فإن الذهاب إلى مناطق وأصقاع ظلت مجهولة أو مغيبة من قبل، يسمح بالعودة إلى ما هو هامشي ومراجعة أحداث سياسية واجتماعية مع وضع مسافة والنظر إليها من خلال علاقتها بالزمان والمكان وعلاقتها بالتغير والتغيير.
اصداراته المنشورة : محمد مندور وتنظير النقد العربي بيروت 1979 سلخ الجلد قصص بيروت ذات العام . لعبة النسيان رواية الرباط 1987 . الضوء الهارب رواية الرباط 1994، عمله القصصي الأخير / ودادية الهمس واللمس الصادرة عن دار الفنك الرباط، مثل صيف لن يتكرر 2001. امرأة النسيان 2001 الربيع وفصول أخرى ترجمة لوكليزيو 1997 اسئلة الرواية، اسئلة النقد، دار البيضاء 1996.
فضاءات روائية، وزارة الثقافة الرباط 2003 ترجم عدة كتب عن الفرنسية آخرها / الجرح السري مرسم جياكوميتي، لجان جنينيه دار الأمان الرباط 2003 :بادرته قائلة :
٭ هل لاحظت أن الناقد الصارم داخلك قد يعيق جنون وشطح الروائي في اعماقك . أنا لاحظت ذلك في بعض نصوصك الروائية على الخصوص في لعبة النسيان .
– هذا سؤال طالما طرح عليّ، هل الناقد لدي يحد من انطلاقة المبدع؟ وأنا في الحقيقة لا أرى تعارضا بينهما، لأن الكاتب قبل أن ينطلق في مغامرته تكون كل الأبواب مفتوحة أمامه واختياره لجنس تعبيري لا يتأتى حسب موهبة مسبقة وكأنما كتب على جبينه أو روائيا أو ناقدا، الكتابة هي ممارسة وتجربة واستكشاف ومن خلال هذه الممارسة يختار الكاتب جنسا أو أكثر يعتقد انه الوسيلة الأقرب إلى التعبير عما يخالجه، فاذا رجعنا إلى رواية لعبة النسيان 1987 فسنجد ان بناءها المركب تقصد أن ينزع القناع عن تقنيات تظل كامنة عند بعض الروائيين وأنا في الحقيقة تقصدت ان اكشف لعبة السرد، بما ينطوي عليه من تعقيدات لكي اجعلها هي نفسها جزءا من السرد لها وظيفة داخل النص كله وهذا هو ما يعرف في الرواية الحديثة بميتا سرد، وهو يعني ان الكاتب يتحدث أيضا عن عملية السرد وكيف تتم وكأنما يشرح العلاقة بين النص المسرود وما يريد التعبير عنه خارج السرد . من ثم جعلت الساردين في لعبة النسيان متعددين وافترضت وجود رئيس جوقة لهؤلاء الساردين اسميته راوي الرواة، تشبيها بقاضي القضاة لينسق هذه العملية ويكشف من جهة عن صعوبتها ومن جهة ثانية يلقي الضوء على ما يحمله كل سرد مختلف وهذا في النهاية يؤول إلى تعديد منظورات السرد وتعديد مستويات اللغة وتعديد الأصوات ومن ذلك كله ما يضفي على النص الروائي حيوية تتجلى من خلال مفهوم الحوارية الشامل الذي لا تجعل حقيقة ما ثابتة .
٭ لقد تحدثت عن مفهوم التخييل الذاتي في بعض رواياتك وفي روايات عربية كتبت عنها، فهل هذا العنصر الفني ضرورة لازمة في كل الروايات ؟
– في الواقع ان مفهوم التخييل الذاتيauto- fiction الذي نعت به سيرج بردوفسكي رواياته، يقصد إلى أن الكاتب يعيد تخييل سيرته الذاتية مفسحا المجال لوضع الذات في مواقف لا تتطابق تماما مع ما عاشه ولكنها تجعل منه ذاتا فاعلة تحلل التجربة الماضية، وتربطها بتجربة الحاضر ومن ثم لا يتقيد الروائي بحرفية سيرته، بل يجعل منها مقفزا لكتابة تعطي للغة والأخيلة والاستيهامات حيزا كبيرا، ومن هنا فأن التخييل الذاتي عنده يرتبط بنوع من التحليل النفساني، لكنني من خلال قراءتي لنصوص تستوحي هذا المفهوم أو تلتقي معه وجدت ان التخييل الذاتي يتسع أكثر فاكثر، يستوعب نصوصا تجعل من تجربة الذات ومخزونات الذاكرة أساسا لكتابتها الروائية، فمثلا وجدت كثيراً من روايات توفيق الحكيم تندرج في هذا المجال، على الرغم انها لا تتطابق تماما مع ما حدده سيرج بردوفسكي . وأعتقد ان ما أنجزته في محكيات في / مثل صيف لن يتكرر 1999 دار الفنك، يستوحي هذا المفهوم للتخييل الذاتي، لأنني لم أتقيد بكل ما عشته في مصر سواء عندما كنت طالبا 1960 – 1955 أو عندما أخذت أتردد عليها بانتظام وإلى اليوم، ومن ثم فإن استحضاري لفضاءات مصر ولعلائقي الحميمة ربما تأتي لمقتضيات الكتابة المنطلقة التي تريد ان تحقق ايقاعا يشمل النص في مجموعه . لكن مفهوم التخييل الذاتي لا ينطبق على جميع الروايات، بل هو اتجاه في الكتابة ويمكن ان نجد بالمقابل له نصوصا روائية تتوخى أن تكون «موضوعية»، مفسحة المجال أمام الوصف وسرد الحقائق التاريخية والاهتمام بتفاصيل الواقع، لكنني في جميع الحالات أعتبر ان كل الروايات تنطوي بشكل أو بآخر، على نوع من التخييل الذاتي حتى يتمكن الكاتب من أن يدس مشاعره وآراءه بين ثنايا الحوار ومن خلال المشاهد، ولا أظن أن التخييل الذاتي يعتبر بمثابة نظرية ملزمة للمبدع وانما المقصود في كل الجهود التي تبذل على مستوى النظرية والتنظير انما هو تعميق وعي المبدع وجعله مدركا لما يتحقق عبر تلقائية الكتابة والابداع واعتقد شخصيا انه لم يعد من حق أي كاتب اليوم ان يزعم أو يدعي البراءة، أي انه يكتب بدون ان يصدر عن تصور نظري أو استيعاب مفهومي للعمل الفني، ذلك ان الروائيين الذين لا يكتبون نقدا هم نقاد من خلال حواراتهم الصحفية وتعليقاتهم على الأعمال الروائية التي يقرأونها، بل أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إنني استشعر من خلال لغة الروائي وبنائه المعماري لنصه، مفهومه النقدي والنظري للرواية .
٭ أنت اسم بارز في النقد العربي والمغربي، عملت في شؤون عدة، رئيسا لاتحاد كتاب المغرب ولدورات عدة، استاذا جامعيا، روائيا وكاتب نثر جميل جدا، وأشعر انك تنتقل بيسر ورشاقة ما بين النقد والرواية والترجمة والقاء المحاضرات الخ . يبدو لي أنك في الفترة الأخيرة ذهبت إلى الابداع لأن اسئلته أكثر راديكالية من النقد . ترى من هو الأكثر سطوة عليك اليوم المبدع أم الناقد وهل ترى في ذلك شيئا من ورطة ما ؟
– لا أعتقد ان هناك ورطة بهذا المعنى، لأن المبدع كما قلت لك مشروع مفتوح وهو لا يستقر عند جنس تعبيري الا بعد الممارسة والتجريب، كذلك فإن أشكال التعبير كما هو معلوم تنفتح على بعضها وتتفاعل فيما بينها وتتبادل التأثر والتأثير، ولما كان الابداع لا يخضع لقرار من الكاتب، بل تحدده شروط معقدة في تكوينه الفردي ومحيطه الاجتماعي، فإن الباب يظل مفتوحا لكي يجرب المبدع أشكالا وقد يستقر على واحد منها وقد يظل متعدد الانتاج مجربا لأكثر من نوع أدبي . بالنسبة لي مارست القصة القصيرة أول الأمر، ثم النقد الأدبي نتيجة لتكويني الجامعي وتدريسي لمادة الأدب في جامعة محمد الخامس بالرباط، ولكنني منذ الثمانينيات من القرن الماضي جئت إلى عالم الرواية مدفوعا برغبة قوية في أن أفهم وأستوعب ما عشته متلاحقا متشابكا متداخلا وما يعيشه المغرب خاصة بعد الاستقلال السياسي 1956 لكنني وأنا أكتب لعبة النسيان على امتداد ثمان سنوات وقعت في لعبة السرد والفن وأدركت ان كتابة الرواية هي ذات حدين، الحد الأساسي يتجلى من الانجذاب إلى إعادة صوغ العالم وادماج الواقع بالمتخيل، والحد الثاني هو بلورة رؤية نظن أنها متحدرة من فهمنا الخاص للآخر والعالم وللذات، لكن في جميع الحالات أصبحت مدركا ان القصة والرواية تتيحان لي التعبير عما لا استطيع الوصول إليه متوسلا بالمقالة والتحليل النقدي أو التعبير عن مواقف سياسية … وحتى أكون صريحا أقول أنا جد مرتاح داخل تعدديتي، فانا لا اجزىء المبدع فيّ . الابداع ينمو ويتبلور من خلال الحس النقدي والكتابة النقدية تغتني وتتعدد من خلال الابداعات الجديدة ومن خلال التجريب المعانق لأسئلة يفرزها الواقع والعالم باستمرار، لذلك أقول لا مجال للمفاضلة عندي بين الابداع والنقد، ذلك ان المجتمع يعيش من الخطابات العديدة المتناسلة التي ينتجها المفكرون والروائيون والشعراء والمؤرخون ولا أحد منهم ينوب عن الآخر، وقيمة كل خطاب هي أن يأتي كل واحد بعناصر غير موجودة في الخطابات الأخرى وأظن ان ميزة الخطاب الأدبي الابداعي هي انه يستطيع ان يسائل ويضع موضع الشك الخطابات الأخرى المتعايشة والمتصارعة داخل المجتمع .
٭ بالطبع المغرب يستفزك بالكتابة، المدن المغربية ذات النفاسة والثراء كما هي تجربتك القاهرية التي أفردت لها كتابا . الغرب، باريس أين هي من ابداعك وزمنك؟ لا أعني التعايش فقط مع المكان، وانما ما يثيره ذلك المكان من اسئلة وجودية حارقة تنشأ من خلال المصاحبة والتعايش ؟
– باريس موجودة بقوة في روايتي الضوء الهارب الصادرة 1993 الا ان حضورها في النص الروائي يأخذ دلالة معينة فتغدو باريس كاسحة بمعمارها وعبور تاريخها لكنها تظل بالنسبة لإحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية (فاطمة قرطاس) نموذجا متمنعا لا يسعف من يأتي من عالم ثالث على مجاوزة شروطه القاهرة . بعبارة ثانية تبدو باريس في الضوء الهارب فضاء بدون هالة أو مسوح، فضاء، عاديا بالنسبة لمن لا يستطيعون النفاذ إلى أسراره .
٭ للأمانة النقدية، إنك كاتب وناقد حاولت مع غيرك من النقاد العرب وهم أقلية جدا، منح الضوء للكشف عن العوالم الخفية للكثير من الأسماء العربية والمغاربية في الرواية والقصة العربية . اجرائيا منحت الكثير بالقراءة الشغوفة والاحتضان، وعلى الخصوص للكتابات الأنثوية، كما الدكتور الغذامي والدكتور صبري حافظ وغيرهم، ترى من تراه من النقاد العرب الجدد يمتلك مثل هذه الرحابة والعمق النظري وبمقدوره حمل البذرة السخية في هذا المجال؟
– هناك نقاد كثر لهم مستوى جيد في التحليل والرؤية وصوغ التقييمات لكن المعضلة تتمثل حاليا في انحسار قراءة النقد، فالدراسات الجادة لا تجد بسهولة ناشرا والناشر بدوره يتعلل بقلة الاقبال على كتب النقد ولذلك فمعظم ما ينتج من نقد له ارتباط بالمجال التدريسي والاكاديمي وهو ما يجعله غالبا مغرقا في استخدام المصطلحات والحرص على منهجية متكاملة … بينما لم تعد الصحف والمجلات تفسح صفحاتها للنقد الجاد غير الاكاديمي والذي يمكن ان يبلور وعيا جديدا لدى القارئ وان يمد جسورا بينه وبين مغامرة الكتابة الحداثية . أضيف إلى ذلك انه لا يوجد في تقاليد اجناسنا الأدبية مكان بارز لجنس المحاولة ESSAI الذي لعب وما يزال دوراً أساسياً في مجال النقد الحيوي المؤثر والذي يصل إلى جمهور واسع من خلال اطروحة أو تصور تحليلي يبرز عطاءات أعمال أدبية متميزة أو أعمال فلسفية أو تاريخية بدون أثقال التحليل بالمراجع والاحالات . لذلك، أظن ان إعادة الاعتبار للأدب والابداع في مجتمعنا هو ما سيمهد لتكاثر النقاد الذين يواكبون هذا الابداع وينتجون من خلاله وبمحاورته، خطابا نقديا يشي بمفاهيم وتصورات تعم مسيرة الابداع .
٭ كيف تم تلقي روايتك الأخيرة – امرأة النسيان – 2001 ومجموعتك القصصية – ودادية الهمس واللمس – 2004 من منشورات الفنك ؟
– في روايتي امرأة النسيان عمدت إلى استخراج شخصية ف.ب من روايتي الأولى لعبة النسيان لأجعلها شخصية أساسية في هذا النص بعد أن كانت ثانوية في النص الأول وهي هنا تعود من باريس بعد سنوات طويلة من التمرد والمغامرة والتأثر بهبة 1968 تعود محطمة منكسرة راغبة في العزلة فتعتبرها عائلتها البروجوازية مختلة العقل وتضعها في محبس خاص، وقتذاك تسعى ف ب إلى الاتصال بالكاتب المفترض لتصحح له بعض ما سرده في روايته لعبة النسيان فينشأ بينهما حوار الحياة والموت، أو الحب والجنس وحول الثورة والتقاليد، ولكن الأساسي في بناء الرواية هو الاختلاف العميق بين الموقعين : فبينما ف ب تنظر إلى العالم والمجتمع من مسافة بعيدة وبدون اندفاع، نجد الكاتب المفترض يلاحق ما يتم من أحداث وتحولات داخل المغرب محاولا أن يعطيه أفقا آخر غير ما يبدو عليه في لغة السياسة المتفائلة … بطبيعة الحال في هذه الرواية هناك أصداء لما كان يحدث في المغرب خلال فترة التناوب التي أتت بالمعارضة إلى الحكم، والانتقادات التي تضمنتها الرواية لم تعجب الكثيرين لأننا لم نعتد على أن نجعل النقد ساريا على كل الفئات بمن فيهم المنتمون إلى اليسار . قصص مجموعة ودادية الهمس واللمس، نصوص متباينة امتدت كتابتها على فترة عشرين سنة ولذلك هي متنوعة في تقنياتها وموضوعاتها لكنها بصفة عامة، تحكي عن لحظات ومشاهد ترسبت في الذاكرة والبصر خلسة كأنما لتوهمنا بأن الأشياء والعلائق والكلمات كان من الممكن أن تكون في نهاية الأمر بمثابة ترميم جزئي لذاك الصدع الذي يتنامى بأعماقنا مؤشرا على تحول العالم وتحولنا معه، لكن ليس دائما في الاتجاه الذي نتمناه . من ثم، فإن قصص هذه المجموعة تعانق الحلم والاستيهام والتخييل والتذكر بحثا عن أفق لمتعة متمنعة سريعة الزوال والتي تبدأ بالهمس واللمس وأروقة الليل المغوية قبل أن تدركنا ضوضاء الصباح وخشونة اليومي المكروه .