عالية ممدوح
1
تهدي الناقدة الكبيرة يمنى العيد سيرتها في جزئها الثاني إلى بيروت وعشاقها، وهم كثر. كلنا لنا حصة في تلك المدينة الجنية التي جزت شعر أرواحنا وتركتنا نتعلق للتو والساعة وإلى ما يشاء الله في اذيال ثيابها، وهي ترفسنا وترمينا خارجا، أو تطرحنا أرضا، أو تزور علينا الشغف وباقي المطلقات. المؤلفة لم يهدَي مزاجها إلا تلك الانغام الطالعة من روح بيروت وما يجاورها: “وها أنا، وبعد أنْ أطلقتها أفتقدها، وكأنها كانت ذخيرة لي تبعد عني التفكير بنهاية عمري، بالموت”. زمن المتاهة الصادر في بداية هذا العام 2015 عن دار الآداب، هو الجزء الثاني من السيرة الروائية، وبعد الجزء الأول: أرق الروح. في هذا الجزء هدأت الروح من أرقها، سكنت بعدما اثمرت اليفاعة والصبا والشباب والنضج، وأدت جميع الواجبات التي يتفاخر بها المرء انه اجتازها. هي المرأة يمنى ذات العزيمة الحقيقية، علينا وعليها التفاخر بما تستحق، وما استحقت، فالكتاب هذا وفي أزمان المتاهة كان يحضَر وجبات لن يصيبها التلف إذا ما تداخلت الروائح مع بعضها؛ الحروب والقتل، الشهادة والدم الذي ما زال يتفجر، والكثير، الكثير الذي ناضلت من اجله يمنى وجيلها في تلك المراحل الوعرة الذي دخله الهرج والمرج، ونزل سقفه إلى الحدود الدنيا. يمنى العيد ليست شاهدة أمينة وشجاعة على فترات من زهو واحتراق الأفكار الكبرى فحسب، يخيل لي انها مؤرخة نقدية باسلة وعبر جميع كتبها ومحاضراتها والندوات التي ساهمت وشاركت في شهادات وبذائقة ساخنة لما تكتبه المرأة العربية، فقد كانت العيد الناقدة، ترى في تلك الكتابات انبثاقات وإعادة للنهضة العربية.
2
جميع كتاب العالم تشكل الطفولة لديهم جميع إبداعات الذاكرة، فهي تحمل وظائف لها طابع دلالي لأنها غير محمولة بقوة القوانين أو محتويات الأرشيف. الطفولة هي دنيوية اللاوعي وذاك الكم الهائل الذي لا يرتكز على قواعد إلا حين نفكر بالذهاب إليه ونمد يدنا فتبدأ الدوافع بالاشتغال، بعضها يتشبث بنا، والبعض نحن نمحيه، أو نجد له مصفاة في الرأس لكي لا نصادق عليه: “أتأمَل في وجهي.. صحيح لم أعد أنا أنتِ. كل يوم وهجك يقل كي تغيبي خلف الستائر التي غلفتك بها تاركة إياك لظلمة النسيان”. تتحدث عن بيروت، عن مرض أول عاصمة تٌحتل من قبل الدولة العبرية حتى نصل إلى الفتك وسحق أول عاصمة عربية بالدبابات الأمريكية، بغداد. هذا كتاب مهم في تأريخية ما ورد فيه، وأساسي جداً فيما يطوقنا نحن جميعا من مصاعب وما ينتظرنا من حروب، للمثقفين والفنانين والمؤرخين، فهي تتحدث عن بيروت المقسمة وما كان يسمى: “خط التماس الذي قسم المدينة، وشكل فاصلا جعل منها بيروتْين، غربية وشرقية “. العراق مقسم بصورة صاعقة وبسرعة جنونية بدون إعلان، سوريا، ليبيا، هذا الاتساع في الشرقية أو الغربية، هو الذي يوسع حقل هكذا كتب، فلا تنتسب إلا لزمنها وإبداعها في قول الحقيقة، هذا القول حين يحضر من أنثى، أشتغلت بالتعليم وكانت مديرة ثانوية صيدا، ودرَس هناك كوكبة من شعراء وكتاب صاروا نجوم عصرهم وللساعة. تلك السيدة كانت: “كأنثى لم تتزود تربويا بثقافة القدرة على الاختيار، وكمواطنة منقوصة الحقوق ومصنفة في الخانة الأدنى”.
3
جميل استخدام ضمير المخاطب، فيمنى تخاطب يمنى من موقعين مختلفين، الأول -كان- والآخر -يكون- في حالة من الصيرورة المعرفية والنقدية، الإنسانية والوطنية، وهي تشي بالهواجس وبحياء أخلاقي تدون النجاحات أيضا فهذا حقها. بلغة سلسة، شفافة كالمياه الرقراقة التي نرى في قعرها بعض الشوائب والاحجار الكريمة. أرى يمنى في تلك الفترة وهي في حالة صراع حقيقي ما بين الطموح الذي وضعته سقفا لا نعرف علوه إلا عبر انجازاتها كلها، وبين معوقات أجتماعية وعائلية وسياسية، فهي الوالدة لثلاث من أجمل وأذكى الأبناء في الهندسة والطب والأدب، وهي الزوجة المحبة والمربية الصارمة، وهي قبل هذا وذاك تريد وبإصرار مميت أن تستحق لقب الناقدة في تفكيك القول والنص، في الشعر والقصة والرواية الخ. وهي ذات طليقة حرة، أو هكذا ترى هذه الذات، لكن المرجعيات في جميع متونها تفضل الجماعة، فالذات ولوحدها تستفز وتسبب بعض الجزع وما عليها الا الذوبان وسط المجموع، وهذا الأمر لا يخص المرأة فقط وانما الرجل أيضا، لكن وضعية المرأة وتشكيل ذاتها بعيداً عن.. وعن.. دائما تكون مشاهده محرضة على الجور والقمع، وما نشهده منذ أربع سنين وما سنراه فيما بعد سيغدو مشروعا تاما يتعلق بالمستقبل، وبالذات على جميع سياقات ما وصلته المرأة والتعامل معه بفظاظة يتجاوز أن يكون عائقا فحسب، وإنما محرما: “وكنت فيما أنا أسعى لأولَدِ ذاتي الأنثوية أسعى لولادة هذه الذات اجتماعيا وثقافيا. لقد علمني فرويد أنْ أقرأ في مناماتي ما أضمره لاوعيي فيه، مما نخاف منه ونرفضه دون ان نعيه”.
4
في رحلة، رحلات ما بين إكمال دراسة الماجستير، وبالتالي للحصول على الدكتوراه، كانت الرحلة من صيدا إلى بيروت وهي ذات الرحلة من جحيم الدرجة الأولى في سفر: “مشروع ضد الموت، ويتضمن الموت “. فقد كنا جميعا نرى تلك البذار التي وضعتها يمنى في مشروع كان يتبلور تدريجيا بين النشر الهادي الرصين، والتحصيل الدؤوب، فكأن العلم والتعلم هما ذاتهما اللذان تهدد فيهما الفناء وتسجل امتيازاً داخل عدوانية بيروت في تلك الأعوام من الحرب الأهلية. فالحرب هي أيضا بين ذواتنا واهوائنا وانانيتنا والأنا المتضخمة لدينا جميعا، وما لا نريد ان نكون كما يشاء الغير. تحصل الرحلة إلى باريس، هنا، أنا كقارئة لا أعرف يمنى على سبيل المثال، يصاب القارىء ببعض التشويش، فالرحلة بدت بلا تمهيد، وكأن هناك عطش بحت للكتابة عن باريس وزمنها. عال، هو أمر بديع، لكن هناك فواصل مقطوعة في الكتاب كانت في حاجة إلى نوع من الترميم والتوضيح. ثم هناك اتهامها بالشيوعية، ولعل هذا الفصل من الفصول الاساسية والمحورية في رحلة هذه الناقدة المميزة: “قيل لي أنك شيوعية. تتهمني العميدة، ربما بالكفر، فالشيوعية، كما يعتقد كثيرون، كفر. أنا أكتب في مجلة الطريق فقط. قلت دون أن انظر في وجهها، دون أن أدعها ترى إلى عينيَ. اكتبي في مجلة < الآداب > قالت تأمرني وهي ما زالت تقلب أوراقا فوق مكتبها”. كانت مجلة الطريق تشيع مناخا شاسعا من الحرية والانفتاح، وحين طُلب مني أنا أيضا الكتابة في الطريق في الربع الأول من السبعينات، اخترت قصة قصيرة جد استفزازية من مجموعة: هوامش إلى السيدة ب، هي حضور الرجل الغائب، نشرت وترجمت فيما بعد وضمت إلى الانطولوجيا الخاصة بأدب القصة العربية القصيرة. وحين نشرت القصة اثارت لغطا لكن الادارة دافعت عنها وعن اختيارها!: “كانت مجلة الطريق واحتي الثقافية والفكرية، ففي إطارها كنت احاور مفاهيم المدرسة الواقعية وأسعى إلى توسيع دائرة قراءاتي وخاصة ما يتعلق منها بالوعي المعرفي، باختين”.
+++
لقد شيدت يمنى العيد المربية أجيالا وقلبها يخفق من عبارة جيل ذاتها، فذاك الجيل بدا اليوم وبعد جميع الكوارث والخسارات وكأنه ما زال ينظم سير قوافل الموتى ما بين هنا وهناك، والعيد الناقدة المرموقة التي كانت تسأل الأسئلة المزعجة الراديكالية قبل الإجابة، وتلك كانت مغامرة سفرها المعرفي، فالسؤال يعذبها فلم تتغيب يوما عن طرحه، والحال، أن الكثيرين، بل معظم البشر لا يريد سماع ما يزعجه، ويمنى العيد الصديقة الجذرية، وبهذا المعنى مأزق الصداقة هو ذاته يتخطى الحدود، حدود التناقض والغياب والموت.
السبت 22 جمادى الآخرة 1436 هـ – 11 أبريل 2015م – العدد 17092
https://www.alriyadh.com/1038088