كتاب النحاتة والباحثة والأكاديمية اللبنانية نادين أبو زكي «نزيه خاطر جمهورية الأعداء» الصادر عن دار النهار باللغة الفرنسية، وترجمة نهلة بيضون شديد النفاسة. كتاب عملتُ في صفحاته وسطوره خطوطًا وهوامش وتعليقات شتى. كتاب شغف بلذة الكتابة ذاتها وكتاب تتلمس فيه أملاح الصداقة، كما نقول: بيننا الخبز والملح والحبر، بين صديقين وشخصين وجيلين ومثقفين، لمدينة تدعى بيروت، كلنا، نحن اليتامى وبنات السبيل عشنا أو مررنا بها وتبجحنا بما لدينا من سرديات عنها، عن سرها المنيع، فتُمجَّد بما تستحق ويغادر من يغادر، ويبقى من يبقى وهو في حالة من الاحتضار والاستسلام لها، لا هي تبوح بما تملك، ولا نحن نعرف ماذا سنعمل بكل تلك الأسرار؟ بدأت بقراءة الكتاب في بيت الصديقة الناقدة الكبيرة يمنى العيد وأنا في ضيافتها، وبما أنني أدون على أي كتاب فكان لا بد من الذهاب إلى مكتبة أنطوان في شارع الحمراء واقتناء نسختي. «نزيه ذاكرة من ذاكرة بيروت الثقافية، وعين ثاقبة، وشاهد على سنواتها الذهبية. إنه البطريرك الذي تربع على مدى نصف قرن إلى جانب أسماء بارزة أخرى، على إمبراطورية النهار: الصحيفة اللبنانية الأولى. وفيٌّ، مستقيم، سخي، لا يساوم على أفكاره، ثابت على مبادئه، متصالح مع نفسه، فخور، عنيد حتى الصفاقة، خفيف الروح، كتوم، حلو المعشر، رقيق الجانب، غامض، خفي، متحفظ، قريب، بعيد يحدوه إيمان شديد بالحياة».
نزيه-خاطر-بناء الكتاب أخاذ بين التوثـيـق عن ألسنة الأعداء-الأصحاب وبعض الأصدقاء، واللاتي مررن في دربه التياعًا وولعًا وهن كثيرات، وبين الراوي لسرد الحكايات على قدر التواد الشديد الذي كان يشع من سطور ومفردات الصفحات: «تعاهدنا على أن نواصل حضورك الموجود في كل واحدة منا. كان لا بد من أن نجمع أجزاءك. هبة الوفاء في جميع الظروف، السخاء بلا حدود». قامت الكاتبة بمسح شعاعي وروحي وأرشيفي على جميع ما كتب من أفكار ودراسات ومقالات في النقد التشكيلي والمسرحي والفني، عن رحلاته إلى عموم البلاد العربية. الكاتبة بدت لي كالبستاني الذي يحفر عميقًا ويدفع بالغرس فيلامس في لحظة حنان بعض الزنابق الهاربة من وجدان نزيه خاطر. في رأيي، هناك بعض البشر يستحق أعداءه، وهذا الأمر يثير الدهشة وأنا أقرأ عن تلك الحقبة التي كنت أعيش فيها ببيروت وألتقي بعضًا ممن ذكرتهم، وهو نزيه، التقيته في النهار خطفًا وأنا أزور الشاعر أنسي الحاج لإجراء حواري الأول معه: «عندما تكتبين، تشعرين أنك أكثر تعقيدًا مما كتبت. حياتي، لا أريد أن أقبض عليها، هكذا أنا، متقلب، لست حقيقيًّا، أخترع نفسي أحيانًا ولا أخشى أن أكون ذلك الشخص الساكن في ذهني. كل ما أفعله، أفعله لنفسي، وكل ما أكتبه، أكتبه لنفسي. لم أكتب في حياتي لأجل أحد».
٭٭٭
كان الرسام أو المسرحي والسينمائي الفلاني ينتظر مقالة خاطر: «استمتعت بكوني ناقدًا فنيًّا. فالأمر يتطلب كثيرًا من الوقاحة. لشدة ما أعشق ذلك الجانب الاستفزازي في شخصيتي لا أقوى على إخفائه، هذا جزء من طبعي، أن أكون محرضًا. لست شخصًا محايدًا. الكتابة تفضح المرء؛ لذلك لم أكذب قط في كتاباتي من دون الادّعاء بأنني دائما على حق». بعض الخصومات بينه وبين بعض الفنانين التشكيليين والشعراء تستغرق عقودًا، لكن احتضاره وهو في المستشفى أزال جميع الضغائن. دائمًا الموت يحمل الحل والمشكلة. بعضهم كان يسعد إذا مر الناقد على المعرض ولم يكتب عنه، فهذا أفضل من الهجوم الذي يهشمه. كان العالم العربي ضاجًّا بالمعارض والمسرحيات والمؤتمرات والندوات والسينما الجديدة، ما بين بغداد ودمشق وتونس والكويت والقاهرة، فكان يحمل توكيلًا ثقافيًّا لكي يغذي الذائقة والمزاج العربيين من القراء والفنانين والنخبة على حد سواء، فقد كانت ثقافته الفرنسية العميقة وبعد دراسته في باريس ولسنوات هي مراجعه العالمية التي كانت تحت تصرفه، يعرضها ويجمع عبرها الأدلة ويدع مقالاته كالحجة والمقترح، فيبدع في الاعتراض أو الثناء. كانت والدته تردد عليه دائما: تنتظرك العداوات. ففي مقالاتك كنت ترفع موهبة فنية أو تحط من قدر فنان. جميعهم يخشاك، يراعيك، أخلاقك تمنعك من شن هجوم على الأشخاص الذين لا تحبهم فتتجاهلهم لئلا تؤذيهم، وكان ذلك كالعقاب أحيانًا، فليشتمنا لو شاء، ولكن فليكتب عنّا. إذا ذكرني نزيه خاطر في صحيفة النهار فسيعرف اسمي الجميع».
٭٭٭
يلسع ويلدغ ويقرص هذا الناقد، شاغل الرسامين وملعون من عموم الفنانين. بيروت كانت حاضنة ثمينة لتلاطم واحتدام جميع الأفكار: الماركسية والقومية، وبجميع أحزابها وأيديولوجياتها. كلهم يترافق وينفصل بالمناهج والأدوات والتفسيرات والتأويلات الاجتماعية والثقافية والسياسية لمرحلة من تاريخ المنطقة الذي كان يشهد ولو خارجيًّا على نوع من التماسك النسبي باتجاه المستقبل، بالرغم من أن بذور الحرب الأهلية كانت قد بدأت تتراص كما هي طبقات الجيولوجيا الرسوبية الرخوة، فتربة بيروت ترسّب المرئي الجميل واللامرئي الخطير الذي أحرق اليابس والأخضر. بعض الصداقات لا يتكرر في هذا الوقت، كما هناك كتابات، ربما تبدو كتابة صحيحة وجيدة لكنها محشوة بالعدوانية. سطور هذا الكتاب تقطر إخلاصًا وأريحية قلّ نظيرهما. تصورت حالي في أحد مسارح المدينة الأجمل وأنا أصغي لحوار نزيه، فبعد صداقة عمرها 45 سنة، وفي حركة واحدة من يد رئيس التحرير غسان تويني يتوقف كل شيء.. ينهار جهاز مناعته بعد أن استغني عنه من الجريدة. اليوم، علينا نحن، بعض الأصدقاء في بيروت، ضبط قائمة بأسماء من تم الاستغناء عنهم من الكتاب، فهم يستحقون كتابًا كهذا.