قبل حرب العام المنقضي بثلاثة أسابيع، ارسلت خطاباً مستعجلاً الى الصديقة الكاتبة نازك الأعرجي على صـــندوق بريدها في باب المعظم في بغداد.
لا اذكر الآن جمله ولا عدد صفحاته ولمَ كتبته اصلا؟ كنت استشعر انني قد لا اراها ثانية، وان الهول والقصاص الاميركي سوف يجعلان مفاصل
نجوم السماء تطقطق.
لم اكن قابلت نازك في حياتي، لكننا بدأنا نتراسل في الأعوام الاخيرة، والفضل في ذلك يعود الى الصديقة الكاتبة نهلة الشهال. كنا نستخدم تقنيات في
غاية الطرافة والسخرية من احوالنا بالدرجة الاولى. فقد قبلنا الهزائم والبراهين عليها. لم تأخذنا الشفقة، لا بأنفسنا ولا بما يحيط بنا. كتبتْ وأجبتها
وتوالت الرسائل. كنا نكتب كأننا نريد ان لا يفوتنا ميقات الموعد الأول الذي كان يتأجل دائما وبدقة عجيبة. كتبت، هي الناقدة البليغة ذات الصوت
الخفيض، عن المعارك الخاسرة مع الذات قبل الآخر، لا كما يفكر عموم النقاد. لذلك قالت كل واحدة منا وبطريقتها: عال، دعي المكاتيب تحضر ما دمنا
لا نقدر ان نكون بصحبة بعضنا ولو مرة واحدة على الأقل.
كتبت عن الشجن وبشجن قاتل يحرقها فكانت تضيف انه احدى القيم الفاعلة للحياة البشرية. اذكر انني كتبت لها: لست اجرامية الى هذا الحد لكي
تكتبي اليّ كل هذا الغم الكامل، الصحيح والبلوري. غمّ نازك غير قابل للنفاذ لكنه قابل للايصال. ورغم هذا تشبثت ببشاشتها الروحية وأريحيتها
العراقية. كانت مكاتيبها هدايا نفيسة بالمعنى الحرفي والمعرفي والانساني. لذلك أول ما عادت نهلة من بيروت، وقبل سنوات، طلبت منها ان تصفها
لي. طلبي هذا كان مضحكاً فلاً أحد بقادر على وصف أي مخلوق قط. لكني أصدّق نهلة بجميع ما تقول وبسبب هذا تصورت نازك. فعلت ذلك وحدي.
استخدمت مخيلتي المفككة غير المترابطة وانا أنتقي الأوصاف وبلا اتقان. ولا ادري حتى اللحظة لم تصورت نازك كائنة طالعة من إحدى الروايات
الروسية… بالغريزة والحدس. كلما قرأت في الأدب الروسي العظيم لاح على شاكلتنا نحن العراقيين، على خصائصنا، على طبقة الكبرياء والوقاحة،
وعلى مستوى الجنون الذي يضعنا على حواف الموت لكنه يفسد صفاقة الموت نفسه. الروس كتبوا العراقيين وحملنا ذلك على أكتافنا حتى لو لم نتقن
السحر والبهجة وفنون الرعب كما في نصوصهم التي تقدموا بها عنا على مر السنين والتواريخ فأصابهم التوفيق. نازك، هكذا لا تؤمن بالفراق لأنها لا
تؤمن باللقاء، ولا هي متيقّنة، مثلي، من وجود تلك الفروقات بين الشعبين الروسي والعراقي. لذلك حين كانت تقودني في الخطابات الى صوتها
ورائحتها، كانت تتجه بطريقة مواربة الى مرضها.
هكذا هي الدقة الروسية وهي تلتقط الكلمات بملقط الضنى العراقي الفادح. شعرت ان امراضنا هي وأنا، لا تتعلق بكوننا إناثاً، لكنها كانت تحمل جميع
تشعبات وامارات التصدع البشري لا غير. حتى أننا لم نقدر ان نحدد سرعة مرور المرض بين عضوين مختلفين، كالدماغ والساق مثلاً.
أطلقنا على أمراضنا الجانب الصافي من نشاطنا وحياتنا. اما صحتنا فكانت هي العجب. حسنا، لماذا اليوم أتحرش بحياة نازك؟ لماذا تحضر وبعد
مرور عام على كذا وكيت؟ لماذا بعض البشر يفصح عن يأسك اكثر مما تدرك ذلك في نفسك؟ لماذا لا تقدر ان تحقق لنفسك لغة، مفردات خاصة، لا
ذكية ولا فريدة، عن بلدك ومدينتك، فتشعر انك مسروق وحرامي معاً. لكن ليس بمقدروك استخدام لغة المسروقين فيما الحرامية باتوا مخلصين في
حرفتهم. لماذا بغداد التي تفكر بها دائما، وتزعم انك تحبها حتى حين لا تفكر بها، لا تلبي النداء، ولماذا تبدو كلمة “أحب” لا معنى لها؟
نازك حجة أنيقة ولطيفة للكتابة عن تلك البلاد. ذريعة تتصف بالكآبة حين نعرج على الفقد، فقد المدن والأصدقاء. فمنذ غياب محيي الدين صبحي
وعبدالرحمن منيف وأمل جراح وفكتوريا نعمان، لم يعد بمقدروك دفع ألم الفقد الى قاع الروح والسكوت تماماً، والبعض يشترط نشره على الملأ، حتى
ليبدو الألم أقل كياسة ولا يسمح الا لوقع العيون عليه ليزداد فصاحة وعلانية، وهذا ضده دائماً. أهجس ان بغداد قتلت محيي الدين صبحي كما قتلت عبد
الرحمن منيف، وان كل العراق قتل فكتوريا نعمان والباقي… الخ. مدينتي عاصية على الكتابة، ونازك ستأخذ الطريق الجبلي وتقسم الايمان انها لم تمت
بعد، وانا أريد ان اصدق ذلك. هي لا تفضل الحديث عن الموتى، مثلي، وهذه الطريقة، من يدري، قد تكون، ذريعة لكي تظهر نازك ثانية، تلك المرأة
الثابتة الجنان ذات القلب الذهبي.
http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat
%20INT/2004/4/11/%D9%85%D9%86-%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%8A
%D9%94%D9%84%D9%87%D8%A7-%D8%B3%D8%A7%D9%82%D8%AA%D9%86%D9%8A-
%D8%A7%D9%95%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B1%D8%B6-
%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9.html