ما لم يُقرأ في الأجندة

عالية ممدوح

1-
لم أُلاحظ وأنا صبية أعيش في بيتنا الكائن وما زال في الأعظمية المحاصرة والمطوقة اليوم، أننا علقنا أجندة ملونة بها زهور قرمزية أو جبال شاهقة أو حتى رسوما سياحية لأسد بابل الخ ؟ إننا نطلق على تلك الأوراق المشغولة بصورة رديئة وألوان باهتة ب – الروزنامة -. يصادف أن نشاهد الوالد يحمل شيئا ما على صورة من الصور لكنه لم يكن يدعنا نراه، يأخذه للبيت الثاني ونحن نحب ذاك البيت جدا وبدون تبعات ولليوم فأبي رجل سخي ولا يعرف الضغينة لكن ذاك الحدث لا يمر بسهولة ففي نهاية المطاف كان الزمن موجودا داخلنا وليس في تلك الأوراق فحسب ولو اننا كنا نمضي ما بين الفشل والنجاح، لكنني، على الأقل من جانبي كنت أريد أن أرى تلك الأيام والشهور التي – كانت – مجهولة بالنسبة إليّ كيف ستكون ؟ وهل كان عليّ أن أحسب ما سوف يحضر أو ما سوف يمضي، أم كان الأجدى الانتظار ولو لبعض الوقت. لم نكن نعرف إلى أين يذهب الزمن، وهل هو ضدنا أم معنا. ولم نردد، آه، انه الغد أو المستقبل، كانت تلك المفردات مروعة وتحمل غموضها لكننا كنا نحب هتك الأسرار.

2-
في بيتنا ببغداد لا أحد يرتب مواعيده حسب تصاوير وأرقام الأجندة التي كنا نشاهدها قد علقت على أحد جدران بيت الجد الكبير. كلما أمر بجوارها أرى شيئا آخر غير عدة الزمن. كنت أورق الصفحات باستعجال لكي أصل اليوم الأخير من العام الذي نحن فيه وأي يوم سوف يصادف آخر العام الأربعاء أو الجمعة أو.. في سطوة ذلك الوقت كنت أظن أن الأجندة تصلح ان تكون أول مخطوطة يمكن أن يكتبها المرء وهو ما بين السابعة والتاسعة من العمر. الأرقام لا تدخلك اليأس كما هي اليوم، فتحس انك قادرعلى الذهاب إلى جميع الجهات مثل أم أربعة وأربعين، تعرف أين يكمن الصواب لكنك لا تدري أن الخطأ الفج أكثر قوة من الصواب فهو الذي يجعلك تشتبك معه لأنه يحمل في سره معنى التهديد، ذاك التهديد كانت الأجندة تمنحه لي وأنا أورق صفحة وراء صفحة لكي أواجه الصمت غير المحتمل الذي يوفره الزمن وهو يتابعنا بحياد صخري.عمتي أجندتها الهاتف تخاطب عبره الصديقات وأطباء العيون والأسنان الخ، فنسمعها تردد: أي، الساعة كذا واليوم كيت.
بغتة تلتفت إلى أي واحد منا كان مارا بجوارها وبصوت ملول تقول:
ذكروني ها اروح أنسى.
صديقتي الكاتبة العراقية إقبال القزويني لديها عدة أجندات وضعتها في اصطفاء لطيف ما بين غرفة المكتب والمطبخ فشاهدت اسمي وأنا أدخل شقتها الجميلة وما ينتظرني من مسرات نفيسة ببرلين التي كنت أزورها أول مرة بتلك الاستضافة الكريمة. الزمن، أظن لدى عموم البشر مأزق وعدو ولدى بعض الندرة، إقبال منهم يجلسون بالقرب منه بيقظة وانتباهة ويتدبرون أمرهم معه على أحسن ما يرام ولو بتكاليف مرتفعة.

3-
لا أعرف اليوم كيف كان زغب الزمن ينمو على أطراف لحية وشارب أخي وكيف كانت جذوة العمر قد بدأت تزمجر ومن منا سيفتح ذراعيه قائلا: هيا اندلع وانفجر واقذفني كالشظايا إلى السماوات الشاهقة. كنا نعرف أعمارنا من غيابنا فيها ومن نسياننا التام أننا نكبر وسوف يخبروننا ذات يوم ان فلانا قضى وأن تلك ما زالت على قيد الحياة. منذ منتصف سبتمبرمن كل عام تغرق الأسواق والمكتبات والسوبر ماركات والمحلات الصغيرة بعرض أنواع بديعة ومتنوعة وبكل المقاييس والحجوم والأثمان من الأجندات. لدي ثلاثة ومن النوع الجيد والتي تصاحبني إحداها في هذه الرحلة أو تلك. أستطيع تغيير أوراق شهورها فقط والاحتفاظ بباقي الاقسام الخاصة بالعناوين ومخطط المشتريات، أعياد البلدان وأعلامه وخرائطه وأوراق بألوان مختلفة تشتهي الكتابة عليها ولو مجرد سفاسف.

3-
لا أحد يتحرك دونها فتحملها أينما تذهب وينبغي أن تكون ماهرا ودقيقا لكي لا تدع مواعيدك للصدفة قط. الأجندة ليست ظاهرة غربية بالطبع، هي إحدى فضائل ثقافة التدوين بدلا من الاقتصار على موارد الذاكرة الخائنة. في العام الأول لوصولي هنا كنت أسجل مواعيدي على أوراق متناثرة ثم تطورت لتسجيلها على دفتر صغير ولم أكلف نفسي عناء الحصول على واحدة، هكذا كتسفيه لحالة الزمن الطاغية أو رد سلطة الوقت إلى القفز عليه واستبداله بمفهوم ذرائعي يثير الشفقة وهذا أوقعني بأخطاء عديدة ومضحكة. الأغلبية من الأصدقاء والصديقات هنا يتذوق مسرة ما يجري بتسجيله في مواعيد إلا – هي -. كنت أهديها في مطلع كل عام أجندة وبيدي أضعها وأمامها بحقيبة يدها مرددة أمامها: أرجوك سجلي على الأقل مواعيد الأطباء الكثيرة. تنود برأسها موافقة لكنها لا تفعل. كانت تقول لي: أنت الأجندة الخاصة بي. فأقوم بطلاء السنين من حولنا. أصطحبها للدكتورة هذه وتلك وذاك الخ ونتحاشى معا الحديث عن ميدان المعركة – الأجندة – التي تبقى نظيفة حتى العام الذي يليه ويليه. كانت تلك الصديقة تمشي على – البركة – لا علاقة لها بامتدادات الزمان فهي كما أراها كانت واقعة في قبضة الوقت فتنسى غالبا، تنسى في معظم الأحيان، وتنسى دائما. يذهلني نسيانها فتترك نفسها له لكي ينقذها من الذاكرة اللجوجة. هي شخصية لطيفة وصديقة حنونة لكن المستقبل، مستقبلها كان يتدهور أمامها وأمامنا فتلوذ بالفرار منه ومنّا. ربما، لهذا السبب وغيره، بالطبع الكثير كانت لا تقوم بتدوين المواعيد على الأقل، أو بكتابة أي شيء في تلك ألأجندات الجميلة فتضيع حين يزداد ضغط الزمن عليها. كان الزمن يزيد على حاجتها فلا توفره قط.

4-
ولماذا أذهب لتلك الصديقة فقط، معظم الأصحاب الرجال لا ينظرون بعين الرضا أو فلنقل الموضوعية للأجندة. أحدهم يردد:
هذه وهم. ربما هو صائب في رأيه. الزمن وهم وليس الجميع راض عنه ونحن، كأننا مرغمين أن ننجز قدرا ضئيلا منه لكي لا نتحول إلى مجرد ذرة من غباره. لكن، كانت مواعيد بعضنا تتضارب مع البعض الآخر، أحدنا ينتظر الآخر وذاك لا يحضر، نحرد ولا نعود نتحادث كالسابق. بالطبع، أنني لا أعطي للأجندة هذا الشكل الخالص من الاصطفاء، هي ذريعة ولا يجوز القول أنها وراء هذا الغضب أو ذاك الألم فالأمر مرتبط بالانفراد بالوقت وبالذات البشرية نفسها. بشيء له علاقة بالغموض والمجهول، بالتباس المستحيل الذي يسيل من بين أيدينا. شيء يتقدم صوب بعضنا فيصير قدر بعضنا الآخر فينفصل عنه وعنا. بعضنا لا يحتمله فيفسد على نفسه ومن حوله. بعضنا بسبب اليأس الوجودي يدون جميع الاخفاقات قبل الاحتمالات الأخرى كنوع من حركية الوجود ذاته. وبعضنا يعتقد أن الكذب على الآخر يدعى قصيدة أو ديوان شعر أو نوتة موسيقية تؤلف من فتات الثرثرة، وعلى المدى البعيد يبدو الكذب على النفس هو المغامرة العظيمة الباقية له/ ولهم.

@@@
أينما نتلفت نصغي إلى أجندة فلان أو علان. كل شيء قابل للفناء إلا قدرة هذه الأجندة ان تكون اغراء نهائيا فتصبح الانموذج وعلى أفضل الوجوه. الوزيرة الرشيقة كوندي بالكاد نقرأ أجندتها ذات النجوم الساطعة في ليل بلدي المستديم. رئيس وزراء تلك البلاد أجندته كما تردد تلك الولايات العظمى “إنها مجازفة بالكل أو لا شيء” حتى الحوارات ما بين الاصحاب تندمج ببعدها الخيالي مقولات:
ها، أي زين أرجوك سجل هذه التفاصيل في الأجندة الخ.
ما اهمية عدد الأجندات المتوافرة اليوم على الساحة العربية والدولية والإسلامية والشرق أوسطية كما كانت الأعداد المهولة لتماثيل ذاك الزعيم المستبد لكن الأصل واحد. كان جياكومتي النحات السويسري الخارق يقول: “لو أني أعرف فقط كيف أصنع تمثالا واحدا ولسوف أستطيع أن اصنع ألفا” هذا في الفن أما في السياسة فالكوارث والمجازر تتوالى لكن الجميع لا يسجلها في الأجندة.. و..

الخميس 12 ذي القعدة 1428 هـ – 22 نوفمبر 2007م – العدد 14395
https://www.alriyadh.com/295840