فيلم اللحم الحي

عالية ممدوح

1
لم أعثر على فيلم الجزائري رشيد دجايداني إلا في حي الشاتليه، وفي مجمع دور السينما الذي يصل إلى أكثر من ثلاثين دارا للعرض، ومسارح ومحلات مضاءة بانوار زاعقة، وتنزيلات بدأت منذ الآن وقبل أعياد الميلاد ورأس السنة، فالأزمة الاقتصادية بزغت مبكرا وهي حقيقية فعلا، وفي العام 2013 سوف تتطاير مدخراتنا إلى الثلث. وسواس الفرنسي المرضي هو الصرف، الشياكة، السهر واللهو، اقتناء الجديد، الكتاب الجديد، والحلية الجديدة الخ.. ما علينا. لا أود الذهاب إلى هذا الحي كثيرا فهو شديد الصخب والضجيج والدوي والازدحام من قبل الشبان ومن الجنسين فأشعر ان حوصلتي قد انكمشت وضاقت جدا فما عدت احتمل قط. لكن صديقتي أشارت علي ضرورة مشاهدة هذا الفيلم. عال، في الحلقة الأولى وضعت حياة مخرجه أمام القارىء، كما أخبرت صديقتي بإنني اتوق التعرف عليه لإجراء مقابلة صحافية للصفحة الثقافية. الموظف الذي شاهد تذكرتي وقرأ اسم الفيلم، مد يده وهو يشير الى الطريق ورقم السينما، لكنه توقف قليلا وقال بتردد:
إذا لم تعثري على مكان وهذا هو الارجح هل بمقدورك الجلوس على الأرض، أو، تحضرين الدور الذي يليه.
ولماذا ؟
لأن السينما صغيرة وممتلئة إلى الأخير.
سنرى.
كان هناك مقعد واحد في الصف الأمامي وهذا أمر لا يلائم عيني. وما ان صعدت إلى أعلى وأعلى فلم أعثر على أي مقعد فجلست على الدكة المغطاة بالموكيت واسندت ظهري على الحائط. عال، يستحق الشريط، قلت لحالي. ينبغي ان يراه الجميع فالآراء حوله من بعض اعدائه من العرب والمسلمين انه رجل فضًاح لما بين يديه وما يعرفه وما يعاشره، وما راقبه وما وصله من الأهل والمعارف والأصدقاء والجيران عنا نحن العرب والمسلمين، الأجانب والمقيمين هنا في فرنسا.

2
راد الفنان كاتب ومخرج ومؤلف هذا الفيلم ان يروي حكاية جد اليفة، ربما الجميع يعرفها واختبرها في حياته. الأخت التي تريد الزواج من غير اللون والعرق والدين والجنسية والقومية والهوية. والإخوة الذين يزيد عددهم على الاربعين من الاخوة. ننعتهم في عبنا بالأربعين حرامي. في اللاوعي يتقابل بعضهم مع البعض ونتعرف عليهم تباعا ما بين؛ المنحرف جنسيا، او بائع المخدرات، او لص المخازن، أو مهرب السلع من الميناء، أو واضع الكذب والاحتيال والتدليس كقيمة اخلاقية الخ. كلهم يتفقون وينشطون ويتحابون ويتراصون ضدا للأخت سابرينا، وهي زوجة المخرج الحقيقية، والشاب الأسود، حبيب الأخت، أنا والجمهور تعلقنا به فكنا نطلق الضحكات المرتفعة الصوت على الحركات والايماءات، ونقنط فيما يصيبه من تعذيب. فالصور آخاذة والمخرج الجزائري الملاكم السابق حاول ان يصنع من الوجوه التي أمامه عدسات نراها مكبرة وإلى الأخير، حتى العرق كانت حباته مدببة وتكاد تقع خارج الشاشة. الحب المعوق ما بين الاخوة هو ذاته معوق بسبب الأفكار المسبقة عن الآخر، الشاب الأسود الذي مثل دوره أحد أصدقاء المخرج وكان قد التقى به في احدى جولات الانتقال من هذا الحي إلى حي آخر فعمله كان شيالا. كل وجه من وجوه الممثلين هو وجه حي، نيئ، خام يظهر أول مرة وأمام نفسه بالدرجة الأولى وأمام الكاميرا فيقف ويتربص به المخرج والمصور لكي يستخرج أجمل وأرق وأقوى ما لديه. كل لقطة في الديكور، في البيت أو الحانات أو المقاهي هي لقطات اشتغل عليها المؤلف والمصور طويلا وصلت إلى 9 سنوات حتى ظهر الشريط هذا وعرض في مهرجان كان الماضي ونال ما نال من حفاوة. كل هذه الجموع من الشخصيات وبدون استثناء هي شخصيات لا تعرف السينما من قبل. كيف تحركت واستطاعت ان تجعلنا نقهقه ونحزن، نواسي الخطيب والحبيب فنقف جميعا في صفه.

3
ذا شريط يقدم قراءة جوانية لباريس وللمهاجرين والمقتلعين والمنفيين في النفاق والكذب، في المبالغات والأذية، في الترويج للشرف والأخوة والفضيلة والامانة المفبركة، وليس للايمان الحقيقي. قراءة في وضعيات المرأة التي لا يراها الشقيق إلا موضوعا اتهاميا في جذره الاجتماعي وليست كيانا إنسانيا قادرا على تقرير المصير واختيار الشريك وصيانة الجسد. ضربات الفيلم هجومية كما كان المخرج وهو يقف أمام خصمه في حلبة الملاكمة يتلقى الضربات لكنه يصدها ثم يضرب هو وبطريقة صاعقة فلم يترك خيارا أمام الجمهور وفي أغلب اللقطات إلا ان يردد:
ه، هذا صحيح، بالضبط هو الأمر هكذا تماما.
أبهر هذا الفيلم الجميع ببساطته الشعرية، بلونه المعذب الراقي فأدار الرؤوس. كنا نقهقه ونعاني نحن أيضا مما كانت تعاني هذه اليافعة اللطيفة ومحبوبها الأسود الجميل؛ رشح لجائزة سيزار الفرنسية التي تعادل الاوسكار. نعم، هناك من يقول ان الانحرافات الاخلاقية والقيمية ليست مسؤولية تحضر من طرف واحد فقط. السكنى في الضواحي البائسة، الفقر، انعدام الأمن التام، النسل الكثير، العداوات والخصومات ما بين الجاليات العربية والاسلامية ما ان تنتهي حتى تبدأ، ترجرج الهويات. انفجارها على الخصوص في الفترات الأخيرة وصعود التيارات المتطرفة والتكفيرية الخ. الجنح التي قام ويقوم بها البعض من المغرب أو المشرق في الجمهورية الفرنسية، اجيال صعدت جديدة وفتية، نشيطة وحيوية، تعلمت ووصلت إلى مراكز ممتازة في الادارات الفرنسية، واجيال طحنت وهرست بين الجهل والقساوة والجنون.

4
لدى هذا المخرج وغيره من المهمشين العرب هنا بالذات ما يودون اخباره لنا. لديهم سرد القصص وصنع الأفلام. وتأليف الكتب وعمل المسرحيات. وحين شاهدت المخرج قبل أيام في مقابلة سريعة مع احدى القنوات التلفزيونية قال: انه لا يعبأ بمن يهاجمه لأننا نقوم بفعل النفاق. هو لم يقل ان روايته لهذه الحكاية هي الأصدق، لكنه قالها بأدواته ورؤيته. هكذا شاهد أهله وجيرانه واخوته هذا الفيلم وما مزق قلبه فصبر عليه طوال تلك السنين حتى استحق ما ناله من تكريم وشهرة. لم يأخذ قرشا واحدا من أية جهة رسمية فرنسية أو أوربية وهي جهات عديدة ومتنوعة تقع ما بين وزارة الثقافة والبلدية وقنوات التلفزيون، وقناة آرتي وشركات الانتاج الخاصة. فهذا خيط ما ان تمسك اوله فلا تعرف إلى أين سينتهي بك المطاف، فما كان عليه الا ان وطد نفسه بالاتكال على ما يطلق عليه المواد الخام المطلقة، من البشر وكل ما جرى وحدث وصور هو بالضبط ما في الواقع. في كتابة السيناريو وتصوير اللقطات اللاهثة التي تقطع الأنفاس وتدوخ الروح فتخرج من السينما وأنت تكاد تكون في الرمق الأخير. أظن ان رشيد بالذات كان يكتب ويلتقط الاشخاص وهو يقوم بكشط جلودهم الميتة لكي يظهر اللحم الحي. كان يعمل كل ذلك وكأنه هو الذي وصل إلى الموت وعاد منه. ازعم ان الأمور تجري على هذه الوتيرة في الأعمال البديعة الجميلة التي لا تشبه ما مر، والتي كان رشيد لديه ما يرويه لجيله ولبلده، وللحفاظ على منظومة قيمه ولنا جميعا وهو يحول قصة تلك الفتاة إلى حكاية كل فتاة في الاغتراب والمنفى، وإلى قصة ذلك الأسود صاحب الوجه المعذب الفاتن الذي يستحق ما سوف ينال من جوائز. هي قصص تحدث بهذا الشكل أو ذاك، وانها حصلت ليست في شريط آخاذ، ولكنها ستظل تحصل بعد هذا وذاك لنا ولمن حولنا.

الخميس 7 صفر 1434 هـ – 20 ديسمبر 2012م – العدد 16250
https://www.alriyadh.com/794526