في معنى القسوة والقساة

عالية ممدوح

1-
على مدى ساعتين ونصف من الألم والأذى والإثارة يروي الفيلم الألماني – حياة الآخرين – الذي أشاهده للمرة الثانية، بعدما قطف جائزة الاوسكار للعام المنقضي عن أفضل إنتاج أجنبي، عن عملية تلصص من قبل أحد ضباط الأمن الشهير الشتازي وهو برتبة متقدمة فنراه يلاحق أنفاس حياة كاتب مسرحي ألماني شهير، جورج دريمان وحبيبته الممثلة كريستا ماريا. المراقبة تتم لحماية منظومة القيم الأيديولوجية وإرضاء لشهوات النفوذ والسلطة، السادية والمال. الرصد عملية لذة وتدريب لمن تراقبه، تفصح بالتالي ومهما كان الوعي سلبيا أو قاصرا فالرقيب لا مخرج أمامه إلا رقابة ذاته أيضا. رجل الأمن أمامنا يضبط حياته على إيقاع حياة المسرحي. حياتان تتقاطعان ما بين البؤس والتعاسة والخواء لرجل الأمن. والحيوية والحب، الثراء والعدالة في تقرير المصير واتخاذ القرارات لرجل المسرح. حياتان تعيشان مجالهما الحيوي ما بين الاستبطان والتأمل، التحليل والتهديد. ترى من يغير من؟ من يتحمل البشاعة والسفاهة وكالة عن فكر وأجهزة دولة ذات نظام فولاذي. شخصان كاملان بالمعنى المهني يعيشان على الشاشة كل واحد يتوحد وينتهي مع حقيقته الخاصة، وكل واحد منهما يستحق حياته وأعماله وقراراته، فليس المهم كيف بدأت، قد تبدأ قديسا وتنتهي قاتلا، كيف انتهيت هو الذي يعلق بك ويختم عليك نهائيا.

2-
ضابط الأمن – فايزاليرا – تنحسر تقاريره عن رجل آخر لا يبلغه المرء إلا إذا تم العثور على الذات وهي التي نراها تتغير في أثناء مراقبة بيت وحياة المسرحي فبدا للضابط وكأن ما يراه هو غرف تعذيب بالمعنى الايجابي والوجودي. المراقبة تلك، هي لوجوده هو بالذات وليس للفنان وهي التي ستؤدي إلى تحولات بدأت بطيئة حتى انفجرت بصورة جذرية حين بدأ بعملية اقصاءات فظيعة من داخل العقل والقلب، ولأنه مطالب بكتابة تقارير شبه يومية فقد انتظم بفعل الانفصال النفسي والعصبي وبدأت التقارير تأخذ منحى ايجابيا أو عاديا بالأحرى. بدأ يلاحظ طبقات الكآبة والأسى والفوات، غياب السرور والثأرية الجماعية بمعناها السريري المرضي لنظامه وجهازه. الضابط بدا يلحظ نفسه شخصا آخر فكل شيء في حياة المسرحي يعدي ؛ الحب، الحرية، والفنون كلها وهو يراقب ويتمشى في شقة المسرحي في إحدى الجولات وكأنه أراد التأكد، هل ما يراه موجود فعلا في ألمانيا الشرقية أم أن ما يحدث أمامه وأمامنا مجرد حدث مسرحي؟

3-
قبل فترة قلت لأحد الأصحاب العراقيين وهو كاتب يعيش ويعمل في المنفى منذ عقود طويلة : إنني ما زلت أؤمن أن الحياة مشروع إعجازي وعلينا الإيمان بها في هذا الزمان الأغبر أكثر من أي وقت مضى. اعترضني ساخرا، وكانت فكرتي جد بسيطة : من قبل كنا نحتاج لثلاثين سنة أو ربما أكثر لفك الأسر عن أرشيف ووثائق وجداول وتقارير وحكايات أجهزة المخابرات والأمن الدولية والمحلية ومراكز التوثيق والدراسات الاستراتيجية، برامج المصارف الدولية وخطط الشركات العملاقة أو تلك الصغيرة جدا لكن الخطيرة في تسريب المعلومات بصورة لا مثيل لها في الحرفية والمهنية، لكي يبدو الأمر عشوائيا مختلطا بأمور كثيرة فيتم مراد الفضح عبر القنوات الإعلامية والالكترونية بالإعلان من حين لآخر عن أسماء ورواتب ومهام ومراكز وادوار ما كان سارتر يطلق عليهم بالمتعاونين والمخبرين وكتبة التقارير العملاء والقتلة واللصوص ومن الجنسين، من الباحثين والمفكرين والمهندسين والعلماء والشعراء والروائيين والصحافيين أصحاب الأعمدة اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية الخ فخلال سنوات من الاحتلال والتخريب التام للنسيج العراقي والذي ليس بمقدور أحد وصفه تسرب تلك الوكالات والأجهزة عن أجندتها والمسؤوليات الملقاة على عاتق فلانة أو علان وكأنها بهذه التسريبات المتناثرة تقوم بفعل يشبه الانقاذ حين تضع النقاط القوية لها والنقاط الضعيفة الفضاحة للمتعاونين . فما تطلب عقودا للكشف عنه كما في هذا الشريط المقتبس عن رواية حقيقية لم يستغرق إلا بضعة أعوام بدأت قبل نيسان 2003حتى، حين نشرت بعض القوائم الآتية من الولايات المتحدة بعضهم فسرها مناورات مكشوفة لكي لا يتراجع أحد عن التعاون والبعض قال هي نوع من العقوبات اذا ما تم أي تململ أو مضايقة من الفضيحة. إجرائيا، مثل هذه الأمور كانت تقع تحت خانة الأنشطة السرية في أثناء الحرب الباردة، لكنها اليوم تمثل الحالة الصافية من الألفة والانسجام وبدون مشقة تذكر، فهم يتعاونون بطواعية ويظهرون درجة لا سابق لها في الانضباط والسهر على راحة المحتل. ربما، هذه التفاصيل وغيرها هي التي تبطىء من تدهورنا الروحي حين نتخيل مصائر هؤلاء وأولئك في نهاية المطاف.

4-
هذا فيلم أخاذ موجع تحريضي غير مبالغ به ولا يصلح لتجميل وجه أية أيديولوجية. ذهبت لمشاهدته وأحد شخصيات روايتي ضابط مخابرات عراقي كان قد تدرب ما بين ألمانيا الديمقراطية والاتحاد السوفيتي. في الصالة المعتمة كنت أنساق لتاريخ بلدي الدموي، في يوميات المجازر للاحتلال الأمريكي والحكومات المتعاقبة والمؤقتة. هذا شريط ينبغي أن يشاهده الديوك الهراتية من الشيوعيين والبعثيين السابقين واللاحقين، المرتدين والتائبين توبة غير نصوحة، من التكفيريين المتزمتين الراجمين بالغيب، الذين نهبوا وفتكوا بحياة الاخريات والآخرين وكانوا وما زالوا يمتلكون مراتب في الأجهزة الأمنية والمخابرات ومن جميع الأحزاب والمليشيات وقد أدت تقاريرهم “أغلب الأحيان لا يجيدون القراءة والكتابة” إلى كوارث وخطف وقتل وإفساد ذمم وتلويث سمعة وتخوين بشر وهو يعتقدون أن ذلك سينظر له في احد الأيام كتراث وطني.

@@
يتغير ضابط الأمن ويكشف عن رجل آخر لا يبلغه المرء إلا بعد درجات عميقة من اليأس والرعب وربما العار. لدينا في العراق مقولة صاعقة تشي عن معنى القسوة والدموية للعراقيين القساة تقول: إن أقل الأحكام عندنا؛ الإعدام.

الخميس 29 جمادى الآخر 1429هـ -3 يوليو2008م – العدد 14619
https://www.alriyadh.com/355889