عالية ممدوح
ـ 1 ـ
ما بين السكنى والإقامة .
حسنا ، اخترت هذا العنوان ، الكتابة والمنفى ، لكنني إجرائيا ضده . صحيح أنني اقيم بباريس لكنني أسكن هناك ، في تلك البلاد . الإقامة تخص دائرة الهجرة ومكاتب البوليس والسكنى تتوافق مع السكينة والتساكن . ربما ، احدنا يقول : إن هذا وهم ، ان تسكني هناك على سبيل الحصر ، هكذا الأمور تبدو . ليس بمقدوري أن أدع باريس حقيقة وحيدة لي ولذلك أنا أفضل ان أكون كالعشيقة التي تخلص لما بين يديها ، وقد تعاود لذات العشيق ولكن بأقنعة جديدة . عمليا ونفسيا هما ليستا مدينتين ، هما واحدة حقا .
إنني أحب حالتي كغريبة في كل مكان أقمت فيه . تستهويني حالة الغفلية واللاأدرية . كالرحل الذين يفضلون المغادرة باستمرار ، فما أن أضع قدمي في مكان حتى أستعد للرحيل ، هكذا كنت قبل سنين . نعم ، انه أمر قاس الانتقال والترحل الطوعي فأنا لست منفية وهو لقب لا يلائمني وأصلا أنا لا أستحقه ، فالمنفي يحتاج إلى شيء من الوجاهة الاجتماعية والكثير من البطولة ذات العضلات القوية وثيابا تكون على مقاس النضال وما عليك إلا أن تملأها صخبا وحماسة لكي تستحق اللقب وأنا لا أمتلك أية واحدة من جميع هذه الخصال والألقاب النبيلة . لقد أشتغلت ولوحدي ولم ألتحق بأي فريق بالرغم من جميع الشائعات اللطيفة التي ما زالت تلاحقني . أكتشفت ومبكرا جدا وبسبب زواجي من < مناضل > ، ان جميع الاحزاب وبجميع اطيافها القومية والماركسية كانت تخّرج حشودا من الموظفين البيروقراطيين لا الاشخاص الخلاقين . فبدا لي أن عموم قصص الزواج تصلح كروايات عادية جدا لكن الغرام دائما أثمن من جميع ما ندون من روايات .
كنت شغوفة مثلا ان تكون روايتي الولع مخصصة للحب فقط فما زلت أؤمن أن كتابة رواية جيدة عنه ستكون ذروة الجمال والنضال الإنساني . الطريف ، أن النقد العربي لم يسجل غياب رواية الحب النادر خشية أن يوصم بالنقد اللاوطني وأنا أرى العكس في هذا الشأن .
ـ 2 ـ
الذات والجماعة
إن ما كان يشغلني فعلا : هو كيف أكون كاتبة صحيحة ، لا أعرف كيف وهذا ما حاولت ولحد اليوم العثور عليه في كل مكان أبحث عن عزلتي ووحدتي في ساعات الليل والنهار ، العزلة التي تقول لك ودائما ؛ انها ذخيرتك وبهجتك كما بها مناعتك . من هنا اشعر انني قادرة على البدء من حيث ما أشاء وأين ما أشاء . لست ملزمة أن أكمل طريق أحداهن أو احدهم فلا أحد يكمل الآخر . إنني لا أفضل أن أكون إلا ذاتي فلست صوتا لهذا أو تلك فلم أسمح ان يتم استيعابي أو تذويبي من أي كان فلقد حاولت وبشق النفس ألاّ استعين بأي دور من تلك الأدوار التي تقع ما بين : الضحية والشهيدة والبطلة . أشعر باقترابي من الضوء الآتي مما تقدمه الهجنة وليس الدم النقي الذي يطرح منظومة من الافكار المسبقة والتعصب المقيت . هذا التعدد والاختلاف هو الذي يشدني بعلاقات سرية وعلانية إلى كاتبات وكتاب العالم فأتحاشى الحديث عن صيغة الاجيال فأشعر بالانتماء إلى جميع الأجيال ، بل أفكر أنني أميل إلى جيل لا وجود له ؛ بمعنى ، جيل لا علاقة له بالسن ، اللون ، اللغة ، الجنس والعرق يتشكل بوجودنا وخصوصيتنا كبشر متعددين وخلاقين أكثر منه جيل عربي فحسب . من هنا تبدو الذات التي تحاول التحقق والتوهج لا تحتمل . إن فعل تحقيق الذات ولوحده يشكل تهديدا ناجزا للجماعة ولذلك تحاول هذه الأخيرة سحق الذات وتهشيمها بفجاجة ووحشية ، وحشية الخوف من قدرتها على أختراق مؤسسات الدولة والاحزاب والعائلة الخ وهو أمر لا تحتمله الجماعة التي تستميت ان يظل التسبيح بها وبقانونها الذي تصوره وكأنه التسبيح للخالق عز جلاله وأي ابتعاد عن احدهما هو كفر وخيانة أو الاثنان سويا وهذا هو الذي يحدث في عموم مجتمعاتنا العربية .
ــ 3 ــ
تلك المدن وهي الوحيدة ، بغداد .
إستهواني عبوري ومروري وترحلي ما بين الدول والمدن وهي كثيرة ختامها باريس ، لكن بقيت بغداد والعراق وعبر جميع ما دونت ، كمكان حصري غير متخيل ولا مخترع مستعدا للبقاء وغير جدير بالتبخر والفناء في أثناء الكتابة وبعدها . بالرغم من أن بغداد هي المدينة الوحيدة التي أصابتني بإصابات قاتلة . تنبذك وتطردك فترى ، أن الخيار الانسب لك قبل أن تتفاقم حالتك أن تكوني مسؤولة عنها ، ليس بأوراق هوية الاحوال المدينة أو السجل العدلي أو الجنسية العراقية التي ما زلت احملها . لا أود ان يفهم مني ، أنني أطبع مدينتي بولع أمومي به افتتان ما بحكم الاهوال والجثث والفقد ، وإذا ما دامت العلاقة بيني وبينها فلأنني لا أعرفها . نعم ، هو الأمر كذلك . لم أكن يوما ذخرا لبغداد ، على العكس ، ولم تسمح لي يوما إلاّ بالابتلاء بها . أجل إنني على الدوام أستطيع العودة إلى هناك لأنني أجهلها . وحين أكتب عن بغداد ، بالضبط عن أحد أحيائها ، الأعظمية أو الوزيرية فأنا أحاول اجتياز الأدب ، الديانات والحضارات ، أعيد مساءلة الإشكاليات الملحة من موقعي الوجودي كمخلوق بشري وتلمس التخوم العليا للتجربة الإنسانية . فأية كتابة صحيحة عن الذي نعرفه ونحاول تقديمه للغير بأمانة سوف يقترب ويضيء أمكنة وموضوعات وحيوات أخرى من حولنا وبجوارنا ، أو تلك البعيدة عنا الآف الاميال لذلك كان علي أن أشيد مدينتي ولوحدها وإلى ما لا نهاية . تنوعت في اختراعها ولم أستح من سوء معاملتها لي ، لنا جميعا . حاولت بصورة جذرية ألاّ أحول فردوسي العظيم وجنتي المستباحة إلى مجرد صرخة لا طائل من ورائها ، فأجتمع يوميا بالذين غادروا وقضوا فأولئك كما يبدو لي أكثر حياة مما يجاورني من القوم ومن ألتقي بهم ما بين المدن . أجل مع أولئك أحتفي فأدعهم يؤثثون المخطوطات جميعا . أقوم بلم شملهم عبر كل رواية دونتها طالما لا أقدر على لم شمل أهلي وأخوتي واصدقائي الذين تفرقوا ما بين المدن والقارات . فأنا أعرف ان الإبداع كالإيمان الديني لا نستطيع شرحه ولا تعليمه لأحد . فالكاتب لا يتذكر فقط لكنه يحاول أمتلاك جميع السلالات الكتابية التي كان بمقدوره الاقتراب والغرف منها فيصير الكون العالم وجميع الثقافات مرجعيته . ما زلت أجمع نشيج تلك الصبية الوقحة واعجنه بغبار وندى ما بقي من الحجرات والجدران والارواح فأردد : ها ، تقريبا هذه هي المدينة التي كانت ، أراها منيعة ، صارت أكثر مناعة بسبب جرائم الولايات المتحدة فتكتفي بالانفراد بوحدتها فلا نعود نحن إلا بعض الهوامش في مكتوبها وقصاصها الطويلين ، فهل من أجل هذا نحاول إعادة كتابة وصناعة المدينة والمدن ؟ ندونها لكي نرفض احتضارها ونحاول ترميمها فالكتابة واقعيا أو مجازيا هي الاستجابة الوجودية لإعادة الاعتبار فعلا وبالفن لذاك الذي نفزع أن نقول انه أزيل وإلى الأبد . فالكتابة واحدة من أجمل واصعب سبل الاحتجاج والمقاومة .
الخميس 27جمادى الآخرة 1428هـ – 12يوليو 2007م – العدد 14262