عالية ممدوح
بلغة متقشفة، عارية الا مما يوصل ويخبر، يقطع ويلم صدرت (عودة إلى الأيام الأولى) للطبيب النفسي السعودي، إبراهيم الخضير في العام 2004 عن مؤسسة الانتشار العربي. بالرغم من افتتاني باللغة كاحتفاء واغواء ومتع لا تنفد، فإن ما يسعد في هذه الرواية انها وضعت الأحداث، الشخصيات، البؤر السياسية والإنسانية والعاطفية الخ في محاولة التوصل إلى تبوّء مراتب عليا في بدن الرواية، ومن وظيفة السرد والقص.
في كل صفحة كان الكاتب يفتح محضرا رسميا وبشهود كثر فيضع القارئ أمام الأحداث الكبرى الجديرة ليست بالذكر، وانما بالتدوين وهي على سبيل المثال، بدء وصول الأمريكان إلى المملكة بطريقة تشيء أكثر وأعمق من مجرد الفضول الشخصي أو الاجرائي، انها وقائع يحاول السرد الكشف عن جزء من تلك الحقيقة.
الخضير يتحدث بضمير المتكلم من المركز الطبي والصناعي في العاصمة الرياض وكيف تم ذلك الاتصال الأولي والذي استمر مايقارب من ثلث الرواية ما بين الرائد كوك فيشر وهي تقول: «دكتور غافري، نحن الأمريكان لا نريد ان نضيع وقتا. لقد سمعت انك تقوم بإجراء أبحاث في جنوب مدينة الرياض عن العوامل الاجتماعية ودورها المسبب في الأمراض النفسية وكذلك دورها في الانتكاسات للمرضى النفسيين» هذه الرواية كما اخبرني المؤلف كتبت بعد العام 1990، أي بعد وصول الدفعة الأولى من الأمريكان وعموم احداثها من الحماوة، ما يتصور، انه دونها في اثناء التهيؤ لحرب العراق. ان مفتاح الرواية، هو الحوار السابق بين الرائد فيشر، المرأة العسكرية الصارمة والمغرورة والقاسية في اثناء انجاز المهمات، وبين الدكتور الغافري الذي يدون يومياته منذ باشرت الرائد بأسئلتها اليه، حول المنطقة الجنوبية من الرياض.. اختيار الجغرافيا قد يعزز تفكيك عناوين عدة في تاريخ كتابة الرواية او بعدها ايضا. أحدها مرض الأكتئاب أو المرض النفسي لكن أقواها وأقلها ظهورا أو استفزازا؛ فيما اذا كانت المنطقة الجنوبية من الرياض قد تشكل بؤرة لتفريخ المتشددين، وبالتالي لتأسيس ما يرافقه مما يسمى بالعنف النهائي والذي يعني ايضا القدرة على الأذى والترويع، ولو أن أهل المملكة يشعرون بالحرج والبغض معا لما صار يعرف وبعد احداث 11 سبتمبر بالارهاب، فقد طالها وآذاها هي كثيرا.
على قدر صفحات الرواية الضخمة 520 صفحة ومن القطع الكبير نوعا، تلهث وراء المزاج الهادئ الصبور والبارد احيانا للراوي. تفتكر انه روائي متمرس وهذه ليست روايته الأولى قط، فهي لا تحمل عيوب أو عثرات العمل الأول الكثيرة. تقتحم وقتك فتجد لنفسك كرسيا بجوار المؤلف وهو يجلسك بجواره لكي تستدل منه على الطريق. طريق الأمريكان المسكون بالاثارة والالتباس، بالغموض والغطرسة. طريق ذلك الرجل الآسر المدهش والخطير باكثر المعاني تعرضا للارتباك والقلق كشخصية روائية كتبت بطريقة ثرية وساحرة. فطوال وقت السرد وربما قبل هذا، طوال وقت الكتابة، قرر الخضير ان يدع السيد / فاضل بن جعفر اللعنة الضرورية لتفوق الرواية في هذا الجانب وهي تبذر بذرة استيهاماتها كنوع درامي ما بين الحبكة البوليسية وبين منح العمل طزاجة التفتح على أكثر ما كان يهجس به العامة والخاصة عن هذا السيد، عما يدور وراء أو داخل القصور الباذخة الأقرب إلى اكتمال المشاهد البلورية كأحلام فنتازية لا تصدق من وجودها الحقيقي.
استطاع الروائي اضفاء صفات عدة لهذه الشخصية كرجل يعاني ويكابد من ضجر خرافي وما يصطدم من مناخات حلمية تفضلها بعض الشخصيات الأمريكية والأجنبية والعربية على الخصوص. فإن سيرة هذا الجعفر تكتمل بمشاهد البلبلة والموت المؤجل الذي لا نحزر كم يستغرق من الوقت لكي نعتقد انه ينتسب بمعنى من المعاني إلى ما يسمى بمروحة السلطة أو السلطة وراء السلطة أو السلطة ما بعد السلطة، أو قبلها.
شخصية غريبة الأطوار يتحرك بين صالات وقصور وسرادقات، عالم لا نستطيع ان نغادره بسرعة، حيث السيارات بلا سنين الإنتاج او سنين الموديلات فهي خصوصية جدا فالعربات لا تتحرك الا لماما حيث لا مارة ولا مشاة وحيث القصر وصاحبه افخم واعرض من نصف العاصمة فلا نعرف رياضيات المسافة والشوارع المحيطة به حتى نتصور اننا نلمس الآفاق في اثناء السرد والقراءة: «أخذت اتأمل الرجل لعلّي اتعرف عليه، يبدو انيقا بشكل واضح، ابيض البشرة، شارب كثيف منسق للغاية، وبشكل مجمل هو رجل وسيم جدا» ولأن طريق الأمريكان الذين لم يلزموا منازلهم قط وانما كانوا على الدوام مدعوين لدى هذا الوسيم جدا فما علينا الا أخذ الطريق الثالث الذي كان يفج الرأس ألما والحلق مرارة. طريق تلك الصداقة التي حصلت ما بين الطبيب النفسي والمريض المدعو رديني السالم الردينلي، لاسمه رنين ومعنى، والصداقة نفسها غير مستحبة في لغة علماء النفس في العالم اجمع.
هذا المريض، معارض سياسي، يساري، قومي سابق ومدمن كحول حاليا. إلى ابي جمال، هذا اسم ابنه والمؤلف يقول لنا الى اليسار در، للخارطة العربية التي كان يقرأها هذا المدمن وبعد غزو الكويت، وبدون وجود رموز كثيرة لا يصطدم هذا المريض بحواجز كثيرة فليس على المريض من حرج، عليه كان يقول ما لم يجرؤ الراوي او غيره على التفوه به: «الأمريكان اذا حطوا اقدامهم بالأرض، عندنا هنا، شوف عاد من هو ولد ابوه اللي يقدر يطلعهم» أبا جمال هذا لديه ابنة تدعى عروبة، ياللحظ العاثر، جمال شقيقها هاجر بعيدا عن والديه وعروبة «تعدّيت الثلاثين، تزوجت وتطلقت ثلاث مرات، وأعرف اللي يصير بالرياض اكثر من أي شخص آخر» هذه العروبة شحنتها نخبوية بيروت الثقافية وطليعية مثقفيها في ستينيات القرن الماضي حين لازمت والديها ودرست في الجامعة الأمريكية فكانت عروبة تنظم تبادلات شعرية ما بين قصائد امل دنقل في كلمات سبارتكوس الأخيرة وبين الفودكا كشراب يساري يجعلك حيا ترزق وتشعر بالشفقة على القيادة المركزية للاتحاد السوفيتي وعلى الاحزاب الشيوعية في العالم العربي.
الوالد المدمن (عروبة) الابنة التي أدمنت الخسارات والاحلام المغدورة نراها في اثناء صفحات وصفحات تئن وتتوجع بهدوء الذين سوف يموتون ولن يجدوا من يرفع جنازاتهم حتى. فالعروبة هنا اكثر من لافتة ومرحلة، انها الحياة المصطنعة التي عاشها اغلبنا، معظمنا، ربما كلنا، كما لو كنا ندخل سباق خيل على هذه العروبة وما عليها الا ان تظهر الفائزة الأولى حتى لو تهشم رأس وجسد الفرس، اما الفارس فهو يحتضر، مسموحا له والى اليوم ان يحتضر، فالاحتضار اكثر حيوية من شهادة الوفاة.
في الرواية طرق فرعية عدة، مجمعات الأطباء، وجود العرب بجانب الأمريكان في اكثر من مؤسسة طبية على الخصوص. تعاليم طبية نفسية عن بعض الأمراض والازمات الروحية والنفسية مما يسمى، ورطة ان لم تتحول الى ثري، كيف: «ترى اللي ما يصير غني هالأيام ما يصير غني طوال حياته. الحرب معروفة يادكتور تنشط التجارة وتخمد اشياء كثيرة» هذه الأشياء الأخرى، ربما هي الأمور الحميمة، الصحيحة العذبة، لإزواج العشاق أو مصائر المحبين أو هدر الشباب ودعه يفنى فهو لا يستحدث من العدم.
الأمريكان بالطائرات التي تحلق وتمر فوق الرؤوس. أبا جمال المدمن لا يزال يطلق صفارات الإنذار مما سيحدث وسيحصل كأنه يقرأ ما حصل بعد اربعة عشر عاما في العراق وايضا بسبب العراق لكن لا احد يريد الاصغاء اليه. عروبة الابنة لسعتها الإهانة والشعور بالمذلة حتى لو لم يسمع صوت ارتطامها بالتهتك المدوي، وعروبة الرمز تردد: «من المستعذب ان يبكي الإنسان قليلا على نفسه».. لكن هذه الرواية الجميلة توزع اللائمة على الجميع وبدون باق وبصوت خفيض، شديد التهذيب، فما علينا الا الاصغاء والاحتفاء بمهارتها ومكرها.
الخميس 28 صفر 1426هـ – 7 إبريل 2005م – العدد 13436
https://www.alriyadh.com/54371