عالية ممدوح
-1 –
أدري أن الكتابة عن الأصدقاء الموتى عبث . لم اشأ الكتابة عن أصدقاء وصديقات قضوا . لا أجد ما يبررها . بعد وفاة الصديق الشاعر الكبير حسين مردان، رفضت ذلك .، دعيت للتحدث عن الدكتورة والصديقة لطيفة الزيات في معهد العالم العربي ورفضت بدافع الورع وبأنها تخلصت من عبء الوجود قبلي . الكتابة عن هؤلاء وغيرهم كانت عديمة الجدوى . أعرف ذلك تماما، أعرفه بصورة مطلقة، أعرف أن الدنيا فخ وما علينا كل بطريقته الا التملص منه، بالتدين والحشمة، بالفنون، بالنضال والمقاومة، بالمخدرات، بالجنس، بالسياسة الخ . واذن ما علينا الا ايجاد المخارج لكي تتوازن حيواتنا . لا ينتهي العصيان البشري الا بالموت ودائما كنت أدري أن الموت هو المشكلة الكونية والوجودية الكبرى في سائر الفلسفات والأديان وهو أيضا الحل . في أقل من عام مات، هكذا، ثلاثة أصدقاء جميعهم يحملون شيئاً من بروميثيوس. النار يتأججون بها وقد يحرقون أنفسهم بالدرجة الأولى ثم غيرهم . ودائما ما من موت هجست به الا وحصل، فخلصت دموعي وتحول القلب إلى مقبرة . ذاك الرجل، الحبيب الذي لم يبطل دوره، عجبا، ولا أوجز لي حياتي منذ الصبا إلى الشباب وصولا إلى الكهولة . حبيب فقدت فيه ما اناكد وأشاكس وأعاند واستفز واغرم وأعترف . قلت حين وصلني خبره ؛ حسنا، اليوم عاد اليّ، عاد إلى ملكيتي، صار ملكي، واليوم نذر نفسه لي وحدي . لم اشأ ومنذ ربع قرن أن أطلق عليه اسم الزوج فهذا لقب مؤقت وطارىء وأحيانا وهمي، لكن الحبيب المغرومة به هو الذي بمقدوري أن أواجه به ما بقي لي من ثوان وساعات، وأعتاش على نفقته من شقاء .
-2 –
«هذا الفتى العربي .. ومتسع للعراق
وتصلح روحه للحب والشعر ..
واشترطوا
فمددت يديك
وأعطيت أسرارك العشرين في البذل والجوع والكبرياء
فماذا تبقى إذن ؟
بالرثاء، نوفي الدين ام البكاء ؟
رويدا
نحن اصابعك العشر :
ان اصابعه فوق كفي دافئة
والامانة، أنك تعقد فوق ضميرك
كفيك ثم تنام »
هذا مقطع من قصيدة الشاعر العراقي الفذ يوسف الصايغ وهو ينعي صديق مدينته ام الربيعين، الموصل، يرثي صديقه الشاعر العراقي شاذل طاقة ولقد أرسلها إلي في العام 1975 من هذا الشهر بالذات فبراير لكي أنشرها في مجلة الفكر المعاصر التي كنت أديرها ونصدرها في بيروت . لم أجد أشف وأحن من هذه الابيات أدونها وأنا اعرضها على نفسي لكي اتحرش بميتته ولا أدري ان كان سوف يسامحني على هذا أم لا؟ طوال شهر نوفمبر من العام المنقضي بدأ الاتصال بينه وبيني عبر الهاتف . منذ عشرين عاما لم أسمع صوته، منذ التي واللتيا لم نتبادل الا الكلمات غير المترادفة عن طريق حوار أو مقال أو كتاب . طوال الشهر ذاك ولأول مرة أسمع صوته يقول : اسمعي، أنا يوسف الصايغ، أتصلي بي أنت، إنني هنا في دمشق، الاتصال بي يجعلني أفرح وأنا لم أفرح منذ زمن طويل . قال خذي اكتبي رقم صديقي الشاعر العراقي الشاب بسام صالح مهدي الذي استضافني في داره . سألته، كيف أنت؟ أجاب بطريقته الاجرامية في السخرية . يسخر من الذات والآخر فرد علي : كنت سيئا جدا اما الآن فأنا سيىء فقط . ضحكنا وأغلقنا الهاتف، وعاودت الاتصال به ولعدة مرات . التذكر ليس التزاما ثابتا نجرؤ فيه لتذكر ما نشاء وحذف ما نريد . الذاكرة غدارة وخائنة ويعقل أن لا تتذكر الا المعاصي والآثام أو لاتتذكر الا المسرات . التذكر لا امتلكه ولا أقدر على تجييره لأحد أيضا . كان في ضيافة الشاعر بسام فلم يشأ تكليف الصديق فوق الطاقة فسلمت رقمه إلى صديقتنا المشتركة المهندسة المعمارية وجدان ماهر في لندن . وحين سألته من أين حصلت على رقمي فأنا غيرته مرات عدة، أجاب من ضياء العزاوي . يوسف الصايغ كان جاري في حي المنصور ببغداد، بيننا أربعة أحواش . كنا نتزاور ليلا ونهارا عصرا وظهرا أعزمه على التشريب العائلي المحشو بالنومي بصرة ويعزمني على قراءة قصيدة أو مشاهدة احدى لوحاته الجديدة أو الاقبال على إحدى مسرحياته . يوسف كان منهكا ومنتهكا . أن ابطال شعره ورواياته ومسرحياته ومقالاته هو بشكل من الاشكال . كان يحب نفسه بطريقة شبه عدوانية وساخرة في الوقت نفسه، لكن نصرانيته هي التي كانت تحميه من بعض نرجيسته الفائرة . تقريبا، كان يعشق أية امرأة يتعرف عليها، هكذا، لوجه الشعر والقصيدة والرسم والاصباغ والغرام المميت وأيضا الاعتراف، فتزوج ثلاث مرات على ما أتذكر، وفي إحداها غير دينه من أجل تلك المرأة التي طلقها فيما بعد . يحب النساء ويحب الاختلاط بهن ويحب الهفوات والزلات التي تحضر من النساء والرجال وبالعكس . يكتب كما التنفس، والتنفس ليس هو الزفير والشهيق، وانما هو البلغم والبصاق والدم والصفراء والربو وضيق التنفس والنفس . بعض قصائده وانت تقرأها وكأنه لم ولن يكتب بعدها، كأنها المرة الأخيرة يكتب . يرسم اجساد النساء وكأنه آخر مرة يلامس جسد امرأة . يهيج ويتأجج في المقالة وكأنها النوع الاخير القادر على الاتيان به . صخّاب غضوب مهتاج ساخر بطريقة قد تسبب الأذى لغيره، مرح وصاحب فكاهة وبه طيبة وحنّية غريبة جدا، وأيضا كان يضحك وكأنها المرة الأخيرة التي بمقدوره الضحك . تستفزه كلمة وتجرحه مفردة ويدمي بسطر واحد ويداوي بمقال ويهدم بقصيدة . شاعر فذ بالمعنى الحرفي للكلمة لكنه لم يكتف بالشعر، لم يجعل القصيدة وظيفته الرسمية لكنها كانت في بعض الاحيان مقتله . الأسماء الشعرية المعروفة في الشعر العراقي كانت تغار من شاعريته الصافية، من هفوات قصيدته، ان شعره لا يكتمل الا بنقصانه، الا برشى السياسة، وهذه الأخيرة ذبحته وهرسته وضاعفت من وحشته ووحشيته وسخريته . كان شيوعيا وكأنه سوف يقص شريط الجنة في الموصل المدينة المحافظة والورعة، مرورا بعموم السجون العراقية وانتهاء بالعاصمة . وكان نصرانيا يريد الاعتراف وبشراهة أمام الكاهن، والكراسات المحتشدة بالكلام والشعر والرسومات . الاعتراف في شعره هو القصيدة الرواقية المبكرة التي افزعته كثيرا لكنه واصل طريقته واختل ميزانه في بعض الدواوين . عشق امرأته وزوجته الأولى جولي، أحبها بطريقة مهلكة بعدما شاهدها تقتل أمامه في حادث سيارة على طريق تركيا فنجا هو باعجوبة . قال لي بعد الحادثة ونحن نواسيه ؛ اصلا هذه الأيام زائدة علي، وانا لا أستحقها بعد جولي . فكتب لها سيدة التفاحات الأربع أرق وأجمل وأشد شجنا من جميع دواوينه . حين شاهد جثتها مبعثرة كما التفاحات التي تبعثرت من بين يديها . كان أحيانا يبدو كالقرصان والرائي والبراغماتي، وكانت هذه الصفات تتبدل ما بين الشيوعي الصارم لكن السابق والبعثي غير المنجز لاحقا وابدا . لقد اقتربت منه كثيرا قبل أن أغادر بلدي في العام1982 «أسجل ذلك قريبا في كتاب» أن حزب البعث كان بالنسبة إليه مثل مشاهد من ميلودراما رثة وتافهة، هذا الحزب الذي قتل حبيبته في السجن وظل يلاحقه من مدينة إلى مدينة فكتب مسرحية السرداب عن ذلك السجين الخرافي، واعترافات مالك بن الريب . يوسف الصايغ في شهر نوفمبر تحادثنا كثيرا بالهاتف وكأنه كان يطلب مني توديعه بطريقته الساخرة إياها . سألته ماذا تريد من القاهرة؟ أريد إعادة طبع كتبي وأريد زيارتها أيضا، قال . أجبته سأفعل ذلك وأتحدث مع الدكتور والصديق جابر عصفور . حين كنت في القاهرة في العاشر من ديسمبر الماضي، اتصلت بالدكتور عصفور في يوم الاثنين المصادف الثاني عشر من ديسمبر، وقال أنتظرك يوم الاربعاء المصادف الرابع عشر الساعة الواحدة ظهرا . حضرت إلى المجلس الأعلى للثقافة والدكتور محمد برادة وقالت السكرتيرة معتذرة لغياب عصفور في أمر طارىء، أضافت، ان مدير مكتبه ينتظرك . قابلته وحدثته وتركت رقم هاتفه الجوال في دمشق لكي تتم دعوته إلى مهرجان الشعر القادم الخ . مساء في (أتيلييه) القاهرة، مركز ومقر للكتاب والكاتبات والاصدقاء والاصحاب العابرين والمارين والدائمين، سمعت من إحدى الكاتبات وهي تردد بغفلة متناهية : ترى هل تعرفين الشاعر العراقي يوسف الصايغ؟ حركت رأسي وأنا اتوجس من السؤال، قالت البقية بحياتك . يوسف توفي يوم الاثنين المصادف الثاني عشر من ديسمبر، في الساعة التاسعة مساء، ودفن في دمشق . ولا زال في الرمق بقية للكتابة عن يوسف ثانية وبلا عدد، وعن الصديق الثالث، الشاعر عصام محفوظ، صديق المرارات البيروتية و(للحديث صلة) .
الخميس 17 المحرم 1427هـ – 16 فبراير 2006م – العدد 13751