لا تندرج رواية “الغلامة” لعالية ممدوح في عداد ما سميّ برواية السجن السياسي، ولكنها تفتح جزءاً من سرديتها على هذا العالم. أما أهمية ذلك فتكمن في ما يمكن ان ندعوه هرطقة وخلخلة للمخيلة التي توافقت عليها معظم بل كل الروايات العربية التي كان السجن والاعتقال والتعذيب مواد أولية ونهائية
لكتابتها وطموحاتها.
لقد جرى انشاء صورة لهذه المخيلة وتظهيرها في أعمال عدّة منها: “العين ذات الجفن المعدنية” لشريف حتاتة، و”العسكري الأسود” ليوسف ادريس، و”السجن” لنبيل سليمان، و”الساحات” لسالم النحاس وفي تضاعيف بعض أعمال صنع الله ابراهيم وغالب هلسا وغيرهم. وربما تمثل “شرق المتوسط” لعبدالرحمن منيف حجر الزاوية في تقصّي وبناء مناخات هذه الروايات التي صنعت اطاراً لعالمين متضادين ولا بد ان يكونا كذلك خصوصاً انهما يتحققان في الواقع العربي ومعتقلاته التي تثبت هذا التضاد وتعززه: عالم السجين السياسي وعالم السلطة مختزلاً بأجهزة استخباراتها ووحشية رجالها ومخيلاتهم العنيفة. الضحايا في مواجهة الجلادين، هذا ما قام عليه السرد وهذا ما برعت في توصيفه تلك الروايات التي قدمت لحظات الاعتقال والتحقيق سعياً لانتزاع الاعترافات بالتعذيب الهمجي الذي يصل احياناً الى الاغتصاب كما حدث لبطل رواية “السجن”. واذا كانت “شرق المتوسط” نجحت الى حد ما في تقديم حالة معقولة ومتزنة للعالم الداخلي لبطلها رجب اسماعيل وامكانية تصدع هذا العالم وعطبه – جسدياً على الاقل – واستسلامه او سقوطه، فإن مسألة صمود البطل شكلت نواة اي رواية من هذا النوع حتى بعض هذه الروايات قدمت داخل السرد الروائي نصائح نضالية للقارئ!
أما عالية ممدوح، فتُطيح هذا الاجماع في الرواية العربية، حين تكتب عن اللحظة التي يقود فيها رجال الأمن الثلاثة بطلتها صبيحةفي السيارة: “لأقل من ثانية، أقل من ربع المليون من الثانية التي تدفقت علي وأنا في وسطهم. فكرت بأنني محبوبتهم وأن ما سأخلّفه بين ضلوعهم، هو رضّ الأنين الغرامي…”. الأرجح ان هذا لا يعني اي خيانة ماذا لو عنى ذلك مثلاً؟، انه متخيّل سردي يجرّب ان يكشف الاعماق السفلى للذات. الذات بوصفها حالة فردية غير نموذجية بالضرورة. ولكنها تعني ايضاً ان التعميمات النضالية والسياسية التي أشاعتها روايات السجن العربية – بجودة تارة وبسذاجة طوراً – يجب الا تنتج صورة واحدة وتمجيدية وجاهزة لبطلها.