ست كاتبات عربيات في جزيرة ترى، ماذا تتناولون لكي تضحكوا هكذا؟

عالية ممدوح

لا هاتف ولا تلفزيون. واذا شئت فجهازان من الكومبيوتر موجودان في غرفة مليئة بصهاريج الماء وآلات ومولدات كهربائية ذات اصوات لا تطاق مما دفعني ان لا ادخل هذه الغرفة الا قليلا جدا،، بالاضافة إلى ذلك فهذه الاجهزة بطيئة بصورة مقصودة في رأيي لكي لا تذهب الكاتبة إلى الآلات وانما تعود إلى الطبيعة فقط. الكوخ المخصص لكل واحدة منّا يتكون من صالة فسيحة، بها كنبة مريحة جدا تسع بدنا سمينا جدا ليس كبدني، ومقعد ضيق مثبت بجوار الحائط الأمامي ومن يجلس هناك يطل على الغابة فالنوافذ نظيفة ذات ستائر كتانية جميلة. طباخ صغير، فرن أصغر وجميع ما تحتاجه في حياتك اليومية هنا موجود باناقة. ملاعق وصحون بديعة واكواب جميلة لكنها كبيرة، كل شيء في اميركا كبير. تواليت، ثم سلم خشبي يأخذك إلى غرفة النوم ذات السرير العريض الذي يتسع لأكثر من شخصين. دولاب صغير بجوارير بجواره فسحة من المكان لكي تعلق ثيابك. كرسي هزاز بجوار النافذة. عموم النوافذ تمتلك نسيجا من شبكة معدنية خشية دخول الحشرات إلى الداخل. الاضاءة تقريبا خافتة، بجوار السرير فوق منضدة من الخشب الصقيل هناك ضوء ضعيف بالنسبة لضعف بصري المستديم. كل شيء من الخشب، ها، لقد نسيت ذكر وجود مدفأة كهربائية لم تتوقف عن العمل الا في الاسبوع الأخير من الإقامة. وفي وسط الصالون الارضي موقد حقيقي، مدفأة معدنية من الطراز القديم بجواره دلو يحتشد بأنواع واحجام من خشب الغابة الاصلي لكي توقده إلى ما شاء لك الوقت. الشاعرة الفلسطينية سهير حماّد أضاءت كوخها بحرائق الخشب ومعظمنا اكتفى بالتدفئة الاصطناعية. الذي لاحظته ان مجمل هندسة الاضاءة في الغابة والاكواخ شحيحة ومغبشة، تركوا لنا في الكوخ نوعين من الانارة اليدوية التي بمقدورنا حملها ونحن نتزاور بعضنا مع بعض فالظلام هنا غابوي ولا امتلك وصفا له. كما لدينا اداة تشبه الفانوس شرحتها لي رجاء عالم قائلة: هذا يستعمل اذا وصل الخطرإلى حده الأقصى؛ فصوته اذا ما ضغطت عليه به انذار يصل إلى بوليس خفر السواحل فنحن نعيش في جزيرة تدعى «ويند بي» وهي قاعدة عسكرية في الأصل. في الكوخ يترك الظل على الموجودات أكثر من النور القادم إلينا من المصابيح الموجودة حولنا. واحد في وسط الصالون إنارته قوية بصورة مزعجة، الآخر فوق الطاولة لكي نبدأ معه يومنا وبه ينتهي. غريب، الاميركان والغرب عموما يفضلون الاضاءات الشاهقة ذات الفولتية المرتفعة، هذا جزء من مناخ وفكر وهندسة وثقافة غربية ،على العكس من تأملات وافكار وظلال اضواء سكان الشرق الاقصى على الخصوص اليابان والصين الذين يتفننون بالظلال كاقصى الحالات الشعرية ويدفعون بالضوء إلى ما وراء حتى لا تبدو الوجوه والقسمات الا بعتمتها السرية. إذهب إلى افلام تلك الدول واقرأ كتب أعظم كتابهم وستأخذك الرعدة كما أخذتني وأنا اقرأ كتاب – مديح الظل – للكاتب الياباني (جونيشيرو تانيزاكي) وترجمة الروائي التونسي الحبيب السالمي وسوف نعود يوما لهذا الكتاب الفاتن. في إحدى الليالي وأنا أنزل على ذلك السلم الخشبي الذي ذكرني بإحدى الالعاب التي كنا نتداولها ونحن مراهقون (السلم والافعى). ماذا لو سقطت على أي جزء من بدني فسوف أبقى هنا شهورا وشهورا. ثم قررت النوم في الصالون وهجرت سرير الغرفة العليا. فطلبت سريرا خاصا. وافقت السيدة جاسندا المسؤولة عنا فورا. ربما لأنني أكبر الكاتبات سنا، فدخلنا نوبات من الضحك ونحن ندلي بتصريحات بعضنا لبعض حول هجر السرير الأعلى. كنا نشتق مصطلحات عديدة ونضحك بطريقة لا نظير لها. في الطريق إلى غرفة الطعام والتي هي المطبخ الفسيح أيضا، وبجواره المكتب الذي تعمل فيه جاسندا، السيدة النبيلة ذات العذوبة والصبر الذي لا يصدق، لقد احتملتنا واحتملت لغتنا العربية فلم تستفزها ولم ترها كالشعوذة كما يراها الجنود الاميركان في العراق. لقد علمناها عدة كلمات تخص المودة والامتنان والذكرى الطيبة والمرح الذي استولى علينا في تلك المساحة التي نجلس ونتناول وجبة العشاء فيها. لقد تولت رعاية اغذيتنا سيدتان بديعتان، السيدة جيني والسيدة جيسيكا. نفَسهما في الطبخ قل نظيره، لا تعرفان خبث التذوق ولا سماجة اللسان. ففي الساعة الخامسة والنصف مساء كنا نضبط غدد جوعنا للذهاب إلى تلك القاعة. في تلك الساعة نأكل وجبتنا الرئيسية وحال الانتهاء من هذه الوجبة تسلم لنا علب من البلاستيك بها وجبه خفيفة من الخضار والاجبان والفواكه وذلك لليوم التالي. كنا نحمل سلالا من الخوص وبأشكال مختلفة نضع فيها فطورنا الصباحي ايضا. أجبان وزبدة وحليب وكورن فليكس على انواع كثيرة. كان هناك رف معبأ بعلب زجاجية بها جميع ما يخطر ببالك: جوز لوز زبيب بلونين مانجا مجففة وقعت في غرامها واكتشفتها ولأول مرة هناك في الجزيرة. حبوب مالحة وأخرى ذات سكر قوي وطافح. انواع من البسكويت المغمس بالزبيب الذي أصرت السيدة نانسي على امتلاء العلب المخصصة له ويوميا بنوعيه الخاص بالشكولاته او بالحليب المطعم بالروائح الزكية الخ. المطبخ مفتوح إلى ساعة متأخرة من المساء ولدينا مع مفتاح كوخنا مفتاح آخر له. لقد سئلنا في المراسلات التي جرت فيما بيننا عن أدق ما نحب ونفضل من اطعمة وهل نحن نباتيات ام لا الخ حتى فكرت بسبب نوعية اسئلتهم وطريقة طرحها أنهم مجموعة من المخابرات النسوانية تريد التعرف على عقلية النساء العربيات عن طريق تناولهن للأطعمة ولغرض في نفوسهن، طبعا كل هذا وهم، كانوا يريدون اسعادنا بكل الطرق. اسئلة الاميركان، نساء ورجالا لا تصدق في الدقة والوضوح. ولما استفزتني الأسئلة حول الاطعمة لأنني غير متطيرة من أي نوع فقد أجبتهم: بأنني كالحصان آكل جميع انواع اللحوم والاسماك على الخصوص اللحوم البيضاء، أكل الخضار الريانة والفواكه الطازجة وأشرب ماء كثيرا جدا الخ. كنا نحاول كنوع من العون الإنساني رفع صحوننا ووضعها في المكان المخصص لها. لكن السيدتين رفضتا ذلك بلطف واصرار. لم نفهم في البداية، قلنا، من المؤكد انه ليس تدللا أو غنجا. هو اختصار للزمن، الزمن الاميركي ليس من نقود فقط، انه من الماس وياقوت اما زمننا نحن فهو من تنك صدىء. فكرت أننا اذا أخذنا الصحون من على الطاولة فقد نضعها في الأمكنة الخطأ وسوف تخسر احداهن زمنا مضاعفا وهي تعيد الصحون إلى نصابها، انهم يفضلون اختصار الزمن فقط. السيدة كيم، إحدى المسؤولات طرقت الباب وقالت: لقد جلبنا لك السرير هل انت على استعداد لاستقبالنا الآن لكي نضعه في الصالون؟ أجبت بنعم وسألتها من سيكون من الكاتبات على العشاء اليوم؟ الجميع لديهن أنشطة ما عداك لأنك حضرت من باريس قبل ثلاثة ايام. وحدك ستتناولين العشاء. قلت، يا للمجد سأكون الملكة، قالت بالفعل ثم أضافت، لكننا سنفتقد الضحك والضجيج الجميل، إننا وطوال سنوات عملنا هنا والكاتبات العالميات يحضرن إلى هذا المكان لم نسمع في حياتنا ضحكا ومرحا ولطافة كالذي لديكن. ترى بماذا تتحدثن؟ وماذا تتناولن لكي تضحكن بهذه الطريقة الصافية؟ كان سؤالا لم نعرف إجابته حتى اليوم.

الخميس 25 شعبان 1426هـ – 29 سبتمبر 2005م – العدد 13611
https://www.alriyadh.com/97190