رنا قليلات: بين الوجه والقناع


عالية ممدوح

– 1 –
فضولي حارق إزاء الآنسة أو السيدة رنا قليلات. هذه المخلوقة اللبنانية أسرتني بجانبها السري والمشتت ما بين قارات العالم. دعونا من الجرائم وغسل الاموال وربما الاشتراك في جرائم عدة لا ندري. في صورها المنشورة والتي بثتها تلفزيونات العالم عدة وجوه وأكثر من قناع، ليس بالضرورة الوجه أجمل من القناع أبدا. القناع يحمل دوافع الدفاع والهجوم سويا، به التبجح والضعف، وصور رنا التي جمعتها في ارشيفي، كانت صورا ذات طبيعة متحركة. آه، هي تحمل أسرارا وكل سر يصلح رواية. بالضبط هذا ما ينبغي على المؤلفة البحث عنه، وراء الأسرار ووراء الافشاء وأمام الحكاية. رنا قليلات الآن، واليوم حكايتها تتعدى جميع الجرائم الكبيرة والصغيرة وتوجز لي مراحل حياة صادمة. أتت من الطرف الآخر من الأنوثة، نوعية الجرائم المتهمة بها جزئيا تخص منطلقات الذكورة ونسيج الرجال الاشداء والأكثر بطشا. جرائم تصطف تحت خانة استلهام عنصري الأنوثة والذكورة معا على أن لا يظهر عن مزجهما خنوثة طفلية قط.

-2-
رنا هذه، صورها لا تخدع وهي في زي امرأة رياضية. آخر صورها وهي محاطة بانفار من الشرطة. تقترب من الاربعين، أي هي في سن وجيب القلب الذي لا زال أمامها أعوام تياها أو تضرم النار فيها: الرجل، الأسرة أو البلد، بلدها، لكنها تصدت لأكبر عملية نصب واحتيال وتزوير وتدليس وربما جرائم أخرى لا أعرف عناوينها في النص القانوني والتي لا يكفي التنديد بها، وهذا حق لضميري الفردي والذاتي ثم وصولا إلى الضمير الجمعي. لكن ما هذا هو الذي جعلني ألتفت أمام حكايتها. هي المؤلفة فعلا ووراءها حشد من رجال وربما نساء أيضا، رجال ببزات بوليسية أو عسكرية ورجال بالملابس المدينة ومسجل أمام أسمائهم عناوين أعمالهم التلفيقية وهم ليسوا بالضرورة من المخابرات فقط، أو اللصوص أو القتلة، أنهم كل هؤلاء وأكثر وهي في الوسط، تخيلوا ألبوم الصور فهذا سوف يضفي على الحكاية المزيد من الابتعاد عما كان يسمى بالشعور الوطني، النعت هذا صار اليوم يسبب الرثاء والضحك. بالطبع، لست مكلفة بتخفيف جميع أنواع جرائمها وأصلا ليس هذا واردا بالنسبة لي تسجيله بمفردات الشطارة والفذلكة. لكن، أنظروا إلى هذه السيدة الانيقة اللطيفة وذات الجاذبية أيضا. وهي بسن ناضج وجذاب ورصين، أو هكذا يفترض. فجأة تمتلأ صورها الشاشات والعناوين الرئيسة في الصحافة والانترنيت. إذن نحن أمام شبه احتفال بشيء تهتكي وصل في فيضانه حدا لا مثيل له: امرأة عصرية، متعلمة تجيد اللغات وتظهر على هيئة مخلوق خرافي محمص ومصمغ بالنقود ذات الارقام الفلكية.

-3-
شخصية رنا قليلات كأنها تدربت عسكريا في ثكنة مصرفية، بدن رياضي وعقلية براغماتية مرتبة ترتبا شاهقا، لا تؤمن بأية حمية مبدئية أو أخلاقية ولو لمرة واحدة. أول مرة ومنذ سنوات طويلة، وبعد هروسب سيدة مصرية بنقود احد المصارف وأيضا بالملايين، لكن رنا أشد وعورة من تلك. أقرأ بين السطور وفوق قسمات وجهها، كيف تختزل الأنثى في القرن الحادي والعشرين من جميع شراك الأمومة والوظيفة الاجتماعية ووظائف أو ادوار عدة ضربتها رنا وداستها جميعا، شعرت أنها أبقت فقط الوظيفة الايروسية المالية الفائرة والمدبرة بصورة جيدة، فهي ابنة عائلة معروفة، كل هذا وأكثر يجعل من هذه الحكاية رواية تامة العناصر لو وقعت بين يدي أحد كتاب أمريكا الجنوبية لانطوت على رواية فاتنة تقع بين براثين المال والجنس والسلطة والنفوذ وتهريب الأسلحة والتآمر على قتل فلان والتخطيط على اغتيال علان ولا بأس في وسط هذه المعمعة من العثور على حبيب قديم يحضر فجأة في واجهة الحكاية. حبيب فقري انطوائي ويضمر الكثير من الحس الثأري أيضا فتحضر رنا لتعرضه وتضعه في الدوامات كلها. هيا، أنظروا في صورها، كانت ذات وظيفة رسمية تحت تصرفها ثروة مصرف المدينة، والمدينة بيروت والمال الوفير بيد امرأة كانت مسؤولة عن الايداع والتوفير والتحويل الخ رموز اللغة المصرفية التي لا أفهمها. كيف تتحول امرأة في بداية القرن الواحد والعشرين ومن بيئة اسلامية تقليدية/ شديدة الحداثة إلى العبور ما بين القارات بجوازات مزورة ومرور حقيقي ما بين سوريا واسطنبول ربما دولة اوربية شرقية قبل المرور بفرنسا وصولا ساو باولو. هل تتصورن تلك الضربات التي تكسر الضلوع وهي تدخل من مطار إلى قطار أو سفينة أو مطار، هذا الأمر يحتاج بجانب النقود السفيهة التي كانت توزعها، إلى ارادة جليدية لا يستهان بها. رنا قليلات شخصية روائية ناجزة تحضر إلى الكراسة بدون أوراق ثبوتية ولا أي جواز سفر حقيقي أو مزور فهي ليست بحاجة إليهما. كائنة أخرجت المرأة في بداية القرن الجديد من مراتب الحداثة وما بعدها، فهي أكثر من عصرية، بمعنى هي امرأة معولمة، نقودها تنتقل قبلها عبر القارات وتتحصن بجميع العملات الاصعب: الدهاء والتخطيط ولديها مساعدون، ربما من الجيل اللاحق، يرافقها أو رافقها أو يراقبها من بعيد وهي تجوب الأمكنة متنكرة مقّنعة. يا الهي، كم تحمل الحكاية بذور المتعة واللعنة وكم تبدو ضرورية للكاتبة أن تمنح فرصة لكي تدون عن هذه الحادثة كراسات كثيرة أو صفحات طويلة بالكومبيوتر وبلا عناوين الاجناس، فلا هي رواية ولا سيرة ناقصة ولا تخييل ذاتي ولا نصوص رخية من سلالة كتابات متقدمة على الطراز الشرقي القديم: روى فلان عن فلان عن.. أو الطراز الغربي مثل التقرير الصحافي الباهر الذي كتبه الكاتب الامريكي ترومان كابوتي واسماه (بدم بارد) ولقد شاهدت الفيلم قبل أيام وأرهقني جدا حين يكون الاتقان والرقة والعمق حد الافتنان. فلماذا لا تكون رنا قليلات واحدة من هذا الجيل، جيلنا الذي حضر وراءنا، الجيل الدموي الطائش المجروح والضحل والمتفسخ والمرتبك مما حصل من حوله. رنا بوصفها تمثل اللوحة التامة مما يكتمل بمشاهد الخطف والعنف وبوضوح الروابط ما بين المرأة وأطوار الحياة الاجتماعية المسورة والمستورة داخل بيت ما، ضمن أسرة وربما لديها أطفال وموظفة في مصرف ولم لا، لكن عبر انقلاب القيم وصعود مروحة كبيرة من طبقة موجودة ومتناثرة في عموم البلاد العربية تريد خلق العالم وفق كوارث مصرفية والتجوال ببطاقات الائتمان قبل جوازات السفر وبطاقات الإقامة.

-4-
فكتور معوض محامي رنا قليلات أنكر أنها قدمت رشوة إلى الشرطة البرازيلية. ادعى أنها لا تعرف اللغة البرتغالية فهي سألت من يجاورها من أفراد الشرطة عن حجم الأموال التي بمقدورها استثمارها في البرازيل. القضاء اللبناني قدم مذكرة جلب واستحضار إلى الحكومة البرازيلية. قيل أنها منجم من الأسرار. ألم أقل لكم، الجميع يشغف بافشائها. وهذا الافشاء لا يتم الا في العمل الروائي، أما حكم القضاء العربي أو الدولي فسوف يعطى القابا مثل الانحطاط والخزي الخ من المؤكد أنها بالاستناد إلى أحكام القانون، آثمة وتستحق القصاص. هذا أمر بديهي. إنني لا أسجل هذا من أجل هذه البديهية التي يعرفها الجميع، اكتب عما يتعدى الخيالات وخارج خانات الثراء والوجاهة الاجتماعية والنفوذ السلطوي للمال، أنه أمر يخص ذلك التطبيع الحاد والقوي للذات حين تقود سيدة في التاسعة والثلاثين اسطولا من الرجال والنساء والنقود، فتكون جرأتها على نحو لم نعهده من قبل في مجتمعاتنا القديمة جدا والحديثة أكثر من اللازم. رنا حاولت الانتحار عبر قطع شريان معصمها الأيسر بواسطة شفرة مبراة لقلم الكحل، قيل بدافع الألم واليأس، وربما لدوافع شتى أقوى من اليأس. فاذا ما سمعنا يوما أن عملية قتل الذات قد أثمرت فهي تكون قد طلعت من فعل الرواة العصاة وفي رواية عربية لم تنجز بعد قد تكتبها أكثر من كاتبة وكاتب عربي فالمأدبة جاهزة والحكاية، حكاية افتراس النفس بأشياء لا حصر لها كالجشع مثلا سوف تتوضح في الرواية.

الخميس 1 ربيع الأول 1427هـ – 30 مارس 2006م – العدد 13793
http://www.alriyadh.com/142128