ذات تلملم نفسها – محمد خير


«لم يحدث هذا في بيت أهلي/ بالتأكيد ليس بين من ظننت أنهم يعرفوني/ حياتي التي فشلت دائماً في لمسها/ في أن أجد صورة لي معها/ بجانبي على نفس السرير/ تفتح عينيها
بعد غيبوبة طويلة». في ديوانها «حتى أتخلّى عن فكرة البيوت»، تتخلى إيمان مرسال عن آخر ظلال القصيدة الحرة، تستكشف الإمكانات الكاملة للنثر، تجترح الشعر عبر
السرد بالجمل الطويلة، تحضر حياتها كاملة أمامها «حتى أنه يمكنني ضمها إذا شئت، يمكنني حتى الجلوس على ركبتيها والغناء والعويل».

في ديوانها الخامس، تلملم خيوط حياتها ودواوينها السابقة، خيط يبدأ من قرية «ميت عدلان» (وطني الأم الذي يزورني كل ليلة في الكوابيس)، ويمتد إلى «لحظة كهذه بلا
تاريخ ولا مستقبل، مثل زجاجة صغيرة من الماء تشربها على عجل ثم تلقيها في أول سلة مهملات». وبين أول الخيط وآخره، هناك دائماً «كرسيّ في مطار في عاصمة
ليست في منتصف المسافة». هذا العمر ــ أو ذاك الطريق ــ لم يخلقا نضجاً أكبر أو أقلّ (بعض الناس يظنون أن الحقائق تصبح قريبة بعد الأربعين، ولكن يؤسفني أن
أحبطهم)، مع أنها تستدرك (بعض النساء قد يصبحن حكيمات، ولكن ذلك يحدث عندما يتواطأن أكثر على الهروب من الحقائق). إذاً، أين ذهبت «كل تلك الأيام الضائعة،
تجريب العمى (..) أين الذنوب، والحزن المفاجئ أمام تل من الفاكهة على عربة يد في شارع منسي؟». ألم يتبق سوى «طابور من الموتى الذين ماتوا ربما لأنني أحببتهم،
بيوت للأرق داومت على تنظيفها بإخلاص في أيام العطلات، هدايا لم أفتحها لحظة وصولها، قصائد سرقت مني سطراً سطراً حتى أنني أشك في انتمائها لي، رجال لم أقابلهم
إلا في الوقت الخطأ ومصحات لا أتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك؟».
ربما بقيت لديها تلك القدرة على معرفة الشخص الذي «تبعثر من قبل»، فهو «عادة ما يتلفت حوله، كأنه يبحث عن جزء ما زال ضائعا منه/ وقد يبدو في التفاتته حلوا جداً
لأنهم ألصقوه بالصمغ أو مرّاً بعض الشيء لأنه يبالغ في إضافة الغراء ليسدّ فجوة بين عضوين». لكن الأمر يبدو أصعب كثيراً مع أولئك «الذين تمزّقوا من قبل/ لا شيء
يميّزهم في الحقيقة! /أقصد، ربما كل منهم لا يشبه إلا نفسه/ مثل ملصقات مختومة تم نزعها من أغلفة المظاريف وانتهت عند هواة جمع الطوابع».
لكن الحزن المثقل ليس كل شيء هنا، ثمة لحظات حب ومخيّلات حسية ممزوجة بقدر طفيف من السخرية الذاتية (سأمد يداً للسلام والأخرى تتأكد أن النظارة في مكانها،
أرستقراطية محافظة، سيدة صالون تمارس نشاطها الخيري لصالح اليتامى. أهلاً)، في قصيدة «أنت أمام الباب أنا خلفه»، محاولة لالتقاط: «الثواني الأكثر بهاءً مما بعدها،
فتحُ الباب لرجل تنتظره ينتظر في الخارج، كأن كل شيء على ما يرام في هذا العالم». إنّها تلك اللحظة المربكة عندما «بضغطة إصبعك على الجرس تحدث فوضى/ إلى
الأذن تنطّ دماء كانت تتهادى قرب سلسلة الظهر/ تتراجع قدماي خطوتين للخلف/ كل عضو يهرول وحده في اتجاه خطأ».
لكن الحسيّة تمتد بخجل إلى حدود الإيروتيكا «بيده/ من شعري/ شدّني رجل كان قد رآني أغرق بعد أن كنت أمشي على الماء»، يمكن القول إنّها الحسيّة اللازمة للطمأنينة،
لإبعاد القلق «لأن كتاب الرغبة المغلق/ مفتوح بعلامة على صفحة ما». قصائد تتنصل من الحكمة لكنها ما زالت تبحث عن الحقائق، وتتنكر من النضج لكن آثاره بادية في
السخرية المرّة وتأمل البدايات، وذات تتأمل المبعثرين لأنها ـ مثلهم ـ تلملم نفسها، وشعر يستطيع أن يجد نفسه في السرد والحكاية، مدفوعاً بيقين أنه «كلّما تكونت كلمة التأم
جرح ما في هذا العالم»، بلى إن تلك «معجزات تحدث ولا تسأل كيف؟».

ادب وفنون
العدد ١٩٦٠ الاربعاء ٢٠ آذار ٢٠١٣
http://www.al-akhbar.com/node/179716