جيوب مثقلة بالحجارة

عالية ممدوح

الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت مهندسة معمارية أيضا ومترجمة عن الانكليزية، انطولوجي شعري و«مشجوج بفأس» عن سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة. ثم انطولوجي قصصي. لها أربعة دواوين شعرية «نقرة أصبع» و«على بعد سنتيمتر واحد من الأرض» و«قطاع طولي في الذاكرة» و«فوق كتف امرأة».
منذ اطلالتها الأولى أتابعها وقصائدها التي تنقضّ عليك وتكشط قشرتك وأقنعتك. في عموم ما قرأت لها كان للهندسة اقتراحات فاتنة في وحشة وحرقة اسلئتها، كأنها ترى، أن ما نراه أمامنا من بشر ومعمار بشع كالفضيحة، هو الذي يسرق حياتنا فكانت تنتظر الصاعقة من القصيدة، قصيدتها. لكن كما يبدو، ان شعرها لم يكفها، وكأن هناك احتمال فقده وسط كل هذا الخراب من حولنا. فكانت تذهب إلى اختيارات وتقاطعات فنية ووجودية ما بين التراجم والكتابة، ما بين ذاك الذي لا يعوض، الشعر، وذاك الذي يغري بالمجازفة، الهندسة المعمارية والترجمة. وهذا ما يعلن جليا عن اختياراتها، على الخصوص في هذا الكتاب الجميل والمعذب الذي لا يكف عن الاشتباك في الروح عن وحول الكاتبة الذائعة الصيت فرجينا وولف فتختار اقصوصة لم تترجم إلى العربية: «رواية لم تكتب بعد» مع عرض تاريخي وثقافي ونقدي وحوار متخيل مع وولف في ختام الكتاب. هذا الكتاب راجعه الدكتور ماهر شفيق فريد أستاذها وهو ناقد ومترجم وكاتب قصة قصيرة وأستاذ الأدب الانكليزي بكلية الآداب جامعة القاهرة. نعم، ان لدي إفراط في حبي وإعجابي بفرجينا وولف. حين كنا نعيش في مدينة برايتون في انكلترا في الثمانينات، اصطحبني ابني إلى نهر أووز الواقع بالقرب من دار سكنى وولف ببلدة سسيكس، حين أثقلت جيوبها بانواع من الحصى والحجارة، سارت في مجرى ذلك النهر حتى اختفت قامتها الطويلة. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا ومعها عصا التجوال.
عبرت المرج الذي يفصل بيتها عن النهر ثم توارت في ذلك النهر تماما، كان ذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر مارس في العام 1943. الكتاب مترجم بالطبع وبه مختارات ذكية وشجاعة، فالشاعرة ناعوت ونحن القراء كنا نرصد معها تلك الرحلة القاتلة لقامة أدبية وفكرية بصمت بدايات القرن العشرين وحتى اليوم بجوار جويس وبروست. فاطمة ناعوت ذكرتني وجعلتني أستدعي جميع المراثي منذ اليونان وحتى اليوم في تلك الميتة المرعبة. كانت تتابع كتابات المؤلفة وولف ثم تتعرف بها وبشخصيتها المريضة ذات الوقائع العصابية والصدامية لجميع ما حولها (افراد عائلتها وزوجها).
ان المتتبع حياة ومؤلفات وولف يتوجب عليه اكتشاف ان الكاتبة كانت تهدّىء عذاب انتظارها للموت باستعجاله لكنها لم تفلح. لقد كان الفقد والهجر طراز حياتها، أوله الأم، ثم الوالد باحتضاره البطيء ثم موت الشقيق المحبوب بحمى التيفوئيد بعد رحلة إلى أوربا.
وولف سيدة كان الحزن أثقل من جميع جبال العالم في وجودها، يثقل صدرها وروحها. لم تعد تمتلك قوى لكي تقاوم ما سببته الحربان الأولى والثانية في ذاتها. لقد ظلت وولف تتصور ان الموت مكشوف أمامها والرعب ظل يحاصرها فيما اذا فقدت اصدقاء جدد في الحرب الثانية بعدما فقدت اغلبهم في الحرب الأولى. «فعقدت العزم وزوجها على الانتحار سويا بالغاز حال حدوث ذلك، الحرب الثانية»… فزوجها يهودي وكانت تخشى من وصول النازيين إلى انكلترا. في الحرب الأولى قتل جوليان بيل، ابن شقيقتها. ان ترويع الحروب هو أحد العوامل الاساسية التي رّجت جهازها العصبي. بدأ مرضها العقلي وهي في الرابعة والعشرين.
جل حياتها مبثوثة في اعمالها بهذا الشكل أو ذاك. ففي رواية «الخروج في رحلة بحرية» تحكي قصة «العشاق التعسين المنهزمين»، في رواية السيدة دالوي الشهيرة الصادرة في العام 1925 كانت تحمل ذلك السؤال الجهنمي «عما اذا كان هناك هدف وخطة وراء حياتنا ؟ لماذا نستمر في الحياة في وجه الألم والمأساة؟». في رواية «صوب المنارة» جعلت والدتها الشخصية المركزية فيها.
أما رواية «اورلاندو» 1924 فهي «رواية فنتازية يتتبع السرد فيها مصير البطل الذي تحول من هوية ذكورية إلى الهوية المؤنثة» اما رواية «الامواج» فهي «تعد من أعقد رواياتها وإذ نتبع فيها حيوات ستة أشخاص منذ الطفولة وحتى مراحل الشيخوخة عبر حوار ذاتي أحادي، مونولوج يناجي كل واحد نفسه» كتب أحد النقاد في نيويورك تايمز: «ان وولف لم تكن حقا مهتمة بالبشر لكن اهتمامها الاكبر كان بالإشارات الشعرية في الحياة».
أما كتابها النفيس: «غرفة خاصة للمرء» فقد كان ومازال مانفستيو لقضايا المرأة التي كانت وولف ترى ان الغبن والظلم والاذلال قد طالها هي شخصيا حين ذهب اخوتها إلى المدرسة وبقيت الفتيات يتلقين علومهن بالبيت. كتاب الغرفة كان في الاصل محاضرة أطلقت فيها وولف مقولتها الشهيرة: «ان النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل مادي خاص بهن وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة»..
تحلل وولف جميع تلك المعوقات والصعوبات التي تعترض تطور مشروع المرأة الأدبي والثقافي، بين المرأة بوصفها «شيئا أو موضوعا» يمكن الكتابة عنها «كمؤلف أو كمبدع». معظم المنجز الأدبي كتبه رجال انطلاقا من احتياجاتهم الشخصية ومن أجل استهلاكهم الشخصي. ثم استشهدت وولف بمقولة كولريدج: «العقل العظيم هو عقل لا يحمل نوعا فاذا ما تم هذا الانصهار النوعي يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشحذ كافة طاقاته».
كنت ولا زلت اجمع كلما يقع بين يدي وبصري عن هذه الكاتبة، اقتنيت يومياتها وحاولت ترجمة اجزاء منها من أجلي. لها ركن خاص في مكتبتي، ولها اغلب الخانات في رأسي. كنت أشاهد صورتها الشهيرة التي ظلت تنشر وتواصل النشر. صورتها هذه الجانبية ذات النبالة المترددة، التي لم تعرض في تلك الصورة الا حزنا شفيفا منثورا كالماس والذهب أو مزيج من الاثنين وهي تختفي داخل فزعها وهلعها من الوجود ذاته.
وولف لا تشعر بالحياة ولا تستحضرها الا باعتبارها جلبة عكس صورها الساكنة كصفحة بحيرة ساكنة. ان وسواس الموت كان قائما في اعماق جميع آثارها الأدبية، به تتخلص من ورطة الحياة وبه أيضا تحاول ان تشاهد شيئا من صلابتها كما كانت تتصور في رواية الامواج: «فلنحاول أن نعتقد بأن الحياة شيء صلب، كرة نستطيع ان نجعلها تدور تحت اصابعنا. لنحاول ان نعتقد ان بإمكاننا ان نجعل منها حكاية يسيرة منطقية تنتهي بالحب مثلا» قبل ذهابها إلى النهر وهي مليئة الجيوب بالاحجار كتبت رسالتين، الأولى إلى شقيقتها الرسامة فينسيت بيل، وفيما بعد إلى زوجها، قالت له: «لقد وهبتني أعظم سعادة ممكنة. كنت دائما لي كل ما يمكن أن يكونه المرء. لا أظن ان ثمة زوجين حصلا ما حصلناه من سعادة، إلى ان ظهر هذا المرض اللعين. لقد كافحت طويلا ولم يعد لدي المزيد من المقاومة. أعرف أنني أفسدت حياتك. لقد كنت صبورا إلى حد وطيبا على نحو لا يصدق. اذا كان ثمة من انقذني فقد كان أنت».
في برايتون يوم 21 ابريل تم احراق الجثمان في عزلة وصمت ثم نثر رماده تحت إحدى شجرتي الدردار حول منزلها كنت أسير في شوارع براتيون وقتذاك، أطل على ذاك السياج واتتبع خطى سير ذاك الرماد. بين الاوراق، اوراقها واوراقي كنت استدير ونبرة صوتي تختنق وجميع ترددات القلب كانت تذهب إلى النواح. لا أحيد عنها لكنني أعود تقريبا دوريا إلى مؤلفاتها، إليها، إلى صورها ويومياتها ورسائلها، إلى ذلك الكتاب الضخم الذي ألفه ابن شقيقتها – كوينتين بيل – الذي حاول ان يفند بعض الشائعات او يبطل بعض الفضائح التي رافقت وجودها.
لم افضل تلك الطرق والاساليب في التخلص مما علق من شوائب في روح وثياب وصيت فرجينا وولف، فالسؤال هو: الا تشكل كل هذه الشوائب والاعاجيب التي عاشتها شخصيتها الحقيقية ونزواتها العاطفية والجنسية وتلاطمها بتلك الامواج التي كسرتها ولم تتوقف عن التلاطم الى ما شاء الله، الا تشكل جميع إرث فرجينيا وولف وإرثنا معها؟

الخميس 3 محرم 1427هـ – 2 فبراير 2006م – العدد 13737
https://www.alriyadh.com/127331