ثمرة الرارنج (2-2)

عالية ممدوح

3-
لماذا علي ان أتذكر الطاعون الذي قتل ثلثي سكان إشبيلية في منتصف القرن السابع عشر، ثم ضربها زلزال فدمر أجزاء منها، ولا اقف هولا أمام الاعصار الذي ما زال يضرب بلدي من شماله إلى وسطه وجنوبه. في يوم الثاني والعشرين من ديسمبر من عام 2012 كنا في إشبيلية، وهو نفس العام وذات اليوم الذي سقطت فيه هذه المدينة بعد حصار دامِ استغرق ما يقارب 17 شهرا. وقتها دخلت جيوش قشتالة المدينة وسقطت في يوم 22 ديسمبر من العام 1248 ميلادية/ 645 / هجرية. جميع الهزائم تحت أنفي رائحتها وهي تؤدي دورها على أتم ما يرام ولا تشكو من تخمة، حتى لتبدو الخسارات أقل مما ينبغي، وأدنى مما يقتضي الإتيكيت ، وهي في حاجة إلى شيء من التجديد لكي تعجب العالم من حولنا. هذه الثمارلم تنس ان تهبني ولو ثمرة واحدة من قوتها، ولو نفسا واحدا اشمه من زيتها الحامي الذي جعلني ادخل في نوبة عطاس شديدة بسبب مرض الحساسية. شجرة أنيقة رشيقة واقفة بطولها أمام شطط السياح أو حنان الأيادي، التي تكرم وتلامس وتحنْ، وهي تنضم لي رحلتي هذه واجازتي، وهي توصل لي حبي ألذي أريد له الارتواء وبهدوء. ثمرة بين يدي تزداد جمالا، لكنها فوق، في الأعالي وممنوعة من القطف أجمل فعلا. ثمار إشبيلة ريانة وكريمة أكثر مما كانت هناك في الحديقة المغبرة في بيتنا. ارأها اليوم أكثر مواساة لي من الماضي البعيد، اشاهدها من أعلى وأجهر أمامها؛ إن مرارات اليوم أشد فتكا من الأسلحة الذرية.

-4-
كنا نقرأ المعلومات عن المدينة بالكاد فجميع الكراسات باللغة الأسبانية. الانكليزية هنا لغة مشكوك في أمرها لكننا كنا نتواطئ مع الرجال والنساء الذين يقومون بفتح أبواب المحلات والقصور والكاتدرائيات. فمنارة – خيرالدا – وقفنا أمامها وبدأت أقطَع الكلمة إلى مقطعين وأنا أبتسم لرفيقي:
المقطع الأول خير وأضيف له كلمة أسم الجلالة، الله.
نعرف ان هناك خمسة مائة مفردة عربية في اللغة الاسبانية، وماذا يعني هذا؟ اللغة وحدها لا تملأ المشهد كله فهناك فجوات لا تردم بين شعوب الأرض. كل يوم وكل عام تتضاعف فهذه المنارة التي عرًب اسمها كانت في الأصل مئذنة ثم تحولت إلى برج الجرس وتم تشييدها أولا في العام 1184 كمئذنة لمسجد إشبيلة الكبير الذي تحول مع مئذنته إلى كاتدرائية. كنا نرفع رؤوسنا عاليا بسبب ضوء الشمس الحارق لعيني فأمشي واختل في الظل. هذا هو الحاضر اليوم: كاتدرائية وليست مئذنة والأمر لا يعود إلى القلب الذي يوافق أو يرفض فهذا خارج السياق. لكن الرارنج هو الذي يميل إلي ولا يستنفذ قواي. أجلس فوق أحد المصاطب ذات اللون الزيتوني الكامد فاختلي أنا والثمرة التي تفضي بي إلى الجمال.
إشبيلة كانت ساخنة في أيام إجازتنا. هي واحدة من أحر مدن أوروبا. كانت درجة الحرارة 17 وهذا الشهر كان ضابط الصحو والسرور، وحين كنا نتوغل إلى الداخل كانت الهندسة المعمارية التي خلفها أوائل المسلمين مذهلة فكنت لا أود الإصغاء إلى أناشيد الفتح ولا أريد الانتشاء من تلك العظمة. كان حزني كالتلال التي تحيط بالمدينة هذه، عميقا كالوادي الكبير الذي كنا نطل عليه واستطيع توزيعه على الشرفات الآسرة والبوابات الفاتنة، وعلى ثياب راقصات الفلامنكو وأنا أحاول ان ادبك على أرض لا تبدو ثابتة تحت قدمي، ولا كانت راسخة في أي يوم من الأيام.

الخميس 25 ربيع الاخر 1434هـ – 7 مارس 2013م – العدد 16327
https://www.alriyadh.com/815530