انسليم كيفر: فنان يعيد إنتاج وتخصيب الخراب

عالية ممدوح

1-
أول ما يلفت نظري لدي الفنانين، التشكيليين بالذات، أيديهم. تجذبني تلك الأداة الإجرامية في تحديد الكثير، فهي تكفل لي تسلسلا منطقيا، جماليا وفلسفيا فتسمح لي أن أشاهد وعبرها، نبالة العمل اليدوي الذي يقع مباشرة بعد جاذبية وقوة الفكر. تعذر علي رؤية أية صورة للفنان الألماني الشهير – انسليم كيفر -، فكيف لي بالتعرف على يديه في كاليري ثيديوس روباك في الدائرة الثالثة بباريس. قالت لي الصديقة الفنانة العراقية هناء مال الله: هذا هو اليوم الأخير لعرض أعماله وما علينا إلا الإسراع إلى هناك. في المكتبة المجاورة للمعرض اصطفت على منضدة طويلة جدا أعداد كبيرة وكثيرة من الكتب الفنية. وفي الجانب الأيمن وضعت بوسترات للفنان وعلى احدها توقيعه فاقتنت واحدا. ثم توقفنا أمام الكتب المؤلفة عنه وما لها علاقة بأعماله. الأغلفة أخاذة والكتب باحجام سميكة وطبعات متنوعة كأنها تلقي التحية عليك فاشتريت الأحدث والأضخم. بدأنا بالبحث عن صورته، فسألت الرجل الكيس الذي كان يراقبني وأنا أقلب جميع ما طبع عنه. اقترب وحاول الإعلان عن آخر الإصدارات، رفعت رأسي إليه وأنا أتساءل والكتاب بيدي:
هل لك أن تدلني على صورة للفنان من فضلك ؟ لقد بحثنا فيما هو معروض لكننا لم نعثر عليها.
من الجائز، تصور الرجل، أنني مخبولة، فأمامي كل هذه العبقرية من اللوحات والكتب وأنا أبحث عن مجرد صورة. أظن، أن صورة الفنان موهبة، كما هي لوحة أيضا.

2-
تجاهل المسؤول سؤالي، وبما أنني ملحاحة تركته وذهبت للرجل الثاني وكان شابا نزقا. استغرب هو الآخر سؤالي لكنه حضر وبدأنا البحث مجددا نحن الثلاثة. لكن لا أثر لكيفر. قلت، ربما هو مفتون بتدمير الذكرى. هناء، يا عيني تبحث، والشاب يدمدم وأنا أنتظر. كأن الفنان مشتبه به فيما إذا عرض صورته، وأنا شغوفة بجميع الذين يشتبه بهم وبأمورهم وها نحن نحاول التجسس عليه ولا نكتفي بما شاهدنا من جداريات وأعمال ضخمة وضعت أرضا. ربما، ما أقوله في إيراد هذه النعوت حول (شكل) الأعمال يدخل في الخطأ اللغوي، التقني، والجمالي. لكني أواصل، فقد رسم كيفر تاريخ ألمانيا الثقافي على مساحات لوحات قماش (شاشات) لكي تصبح ملاحم مستعينا بشخوص من التاريخ الثقافي الألماني مثل رتشارد فاغنر أو غوته. يستخدم الفنان الزجاج والخشب وأجزاء من النباتات وأعشاب وأغصان الأشجار في مواد لوحاته ورقائق معدنية مضروبة ومشوهة بالنيران. وإلى جانب أعماله الزيتية رسم بالألوان المائية كما رسم فوق الصور الفوتوغرافية والكتب والقطع الخشبية. النقاد يصفون أعماله بأنها تثير الكآبة كما تتضمن غالب لوحاته أسماء وخطوطا ومخلوقات خرافية أو أماكن لها وقع في ذاكرة التاريخ إشارات مشفرة لمعالجة الماضي في محاولة لسبر غوره واستيعابه.

3-
تلعثمت وبقيت في حالة ذهول أمام الأعمال الأربعة الوحيدة التي عرضت فقط، يتعلق الأمر بالطريقة التي يسلمنا كيفر بها روحه لقراءتها، لا بتحديد الانتماءات إلى هذه المدرسة أو تلك الحركة الفنية، فاليوم هو يشكل ولوحده حالة فريدة ونادرة بين فناني العالم. أحاول الذهاب إلى أقصى ما يهبه لي من جبروت فنه، بالمتع المعرفية والبصرية، وما تعنيه من معاشرة شعرية الكون. كلمة واحدة تتفوق على المنجد، بالضبط، هي وحدها تدركها في جميع ما يعرض أمامنا وما خزنته فيما بعد لدي وأنا أقوم بالبحث عنه في مواقع عدة، تلك الكلمة هي: الخراب الصحيح الناجز التام والأعلى مقاما من جميع المجازات والبلاغات والرموز، لن يكتفي الفنان بذلك، يحاصرك، يضّيق الخناق عليك فتشتهي خرابك ولغتك، يواصل قائلا لك: الخراب أصل العالم وغد البشرية. ثيمة جنائزية مهولة تقترح علينا تصاوير ما قبل تاريخية حيث الطبيعة في تعارضاتها وسيولتها النيئة، والفنان، قادر على تحويلها إلى لغة ما بين الموتى والموتى، فنشاهد حروفا نافرة شذبت فوق جداريات ضخمة جدا تشكلت من أغصان الشجر وبمقدورنا أن نقرأ عبرها أبجدية مضادة عارية وغير مهم قط إن كانت حقيقية أم لا.

4-
يعد كيفر من أشهر وأنجح الرسامين الألمان لما بعد الحرب الثانية وأكثرهم عرضة للاختلاف والجدل. ولعل سبب شهرته يعود بالدرجة الأولى إلى مواد لوحاته. ففي جميع أعماله يشتغل الرسام مع الماضي وتفجر مواضيع اللوحات قضايا شائكة لا زالت عالقة في وجدانات الشعب الألماني وتاريخه، أهمها على الاطلاق الحقبة الدموية النازية. ففي لوحة (مارغريتا) على سبيل المثال وهي من (ألوان زيتية وقش على القماش) فسرها النقاد بتأثيرات لأشهر قصيدة كتبها الشاعرالألماني باول تسيلان،: نشيد أو أنشودة الموت. هذا الشاعر الذي تنقل ما بين معسكرات عمل السخرة الألمانية ما بين 42وحتى 43.وفي العام 47هرب من الدكتاتورية الشيوعية واستقر لاحقا بباريس حيث نشر ديوانه الأول. تزوج وواصل اصدار الدواوين ثم دخل المصحات العقلية. ظروف وتاريخ موته ظلت غامضة حيث يظن أنه انتحر في نهر السين في العشرين من نيسان عام 1970.لوحة كيفر المستوحاة من تلك القصيدة، فرضت جدلا عاصفا دام عقودا وشغل جميع وسائل الإعلام حول قيمة إبداعه. في أرضية القاعة الفسيحة المضيئة للمعرض عُرض عمل ضخم جدا هو عبارة عن كتاب يطاردك اينما توجهت بنظرك، مصنوع من معدن لوحته النيران، وغرس في بطن الكتاب شتلات من عباد الشمس بعوده الرفيع، ترك وامتد نصفه إلى الأمام مع بذوره التي كانت تتساقط أمامنا، وجذوره في الخلف سحقت واحترقت فنشعر أننا أمام عمل مخيف في درجة كونيته ولانهائيته. الكتب التي تم حرقها وبعثرتها، وجت فيها الحرائق وكأنها انتشلت في اللحظات الأخيرة. سفينة نوح إياها، معروضة ما بعد الطوفان وفي القعر الكتب ذاتها بدلا من الذكر والأنثى. يلتقط الفنان جميع التباسات اللغة، اللغات فتبدو النصوص وفعل القراءة ذاتها مشوهة ومن المستحيل تفكيك رموزها، وكأن ما تحاول لمسه يتبدد ويهدد معه جميع ما وصلنا من معارف البشرية. كيفر يتأمل خصوبة الخراب وأبهة الموت ما بين البشر والطبيعة وسائر المخلوقات. يستخدم جميع المواد الخام التي تتشكل منها الطبيعة وفي جميع أحوالها الساكنة والمدمرة فيعيد تكرارها لا تأويلها وذلك باستعمال ذات المواد ثانية في إنتاج الأعمال ليقول لنا تكرار الفناء والدمار والانحطاط وعلى مر التاريخ البشري.

5-
عفة وفجور الطبيعة أمامنا وكتمان الجمال داخلنا والفنان هذا يقتفي آثار جميع ما مر في الذاكرة الانسانية من أذية وقساوة وإبادات وحرائق. بغتة، وضعت هناء مال الله أمامي صورة صغيرة جدا تشبه الكشتبان لوجه الفنان وهو يرتدي زي هتلر العسكري الشهير: البسطال اللماع، الصدر منفوخ والذراع مرفوعة إلى أعلى تقول قولتها. هي كذلك أعماله تقدم نقدا جذريا مع الماضي وتثير اللغط أثناء عرضها حيث كان على المشاهد أن يختار بين التفسير؛ وبين كون المعروض هو سخرية من النازية: أو هو يهدف لنقل أفكار قريبة من الفاشية. كيفر على قناعة بأن الفن الذي ينتجه شعب عاش الصدمة والترويع يمكنه ان يقدم علاجا للذات والعالم. لم أجد نعتا أستطيع الوثوق به لكي أضعه وراء اسمه، كأن عموم الصفات يمكن ان ترمى عليه، مابين الفرادة واستحقاق اللعنات. حتى هذا الذي أقوله غير نافع قط لكني لا أملك إلا هذه اللغة فلا أدري ما آلت إليه وضعيتي بعد مشاهدته، وكيف صرت أبعد مما أظن، عما أبصرت وتعلمت. كيفر قادر على محو ما يمر على المخيلة وليس الذاكرة فهو يصفي التخييل، وينقي الشغف ويقوي الابصار الجواني. فنان، لا ينافس الشعر ولا يجادل الأدب ولا به حاجة لانتزاع التصفيق من أي أحد. أعود وأكّبر صورة الفنان في ثياب هتلر، حسنا، ربما، هو يقول لنا إن هذا الرجل موجود، لا يزال موجودا وعلينا التعرف عليه فيما حولنا وداخلنا. في حياتنا الحميمة، مع من نهوى أو نصادق من بشر، وما نشاهده من غوايات الطبيعة.
ولد الفنان الألماني ANSELM KIEFER عام 1945في دوناوشينغن. درس الفنون التشكيلية في فرايبورغ وكارلسرروهه وفي دسلدوروف. عام 1969عرض ولأول مرة بمفرده بسلسلة صور بعنوان – انشغالات – انشغل بموضوعة الأساطير الألمانية وتلا ذلك في السنوات التي تلت اهتماما بحركة كبالا الصوفية اليهودية. حاز عام 1990على جائزة وولف وحاز على جائزة Praemium Impriale من اتحاد الفن الياباني. برلين ستشهد اعتبارا من العام القادم عرضا لأعماله حيث ستعرض من 30إلى خمسين لوحة للفنان. حين عرض بباريس قبل أيام حضر لزيارته وبالطائرات ومن جميع انحاء العالم، أصحاب الشأن من النقاد والمهووسين بفنه. منذ العام 1992يعيش بفرنسا، فقلنا: عال، هذا فأل حسن، وتذكرت مقولة جدتي وفيقة التي تقول: اللهم اجعله حوالينا وعلينا.

الخميس 23من ذي القعدة 1427هـ – 14ديسمبر 2006م – العدد 14052
https://www.alriyadh.com/208987