حاورتها – عالية ممدوح
أول ما شاهدت التشكيلية العراقية هناء مال الله في محطة الاوديون بباريس، شعرت أنها جاءت بعد الطوفان. حضرت من هناك، من تلك البلاد، ولكنها تشي بالنسبة إلي وجه مخلوقة نحتت من ذلك الماضي السحيق، من الكبرياء العراقي الصخري وبروحانية ذات حشمة طبيعية تنبثق بهدوء وتأخذني إلى آخر خط الأفق. عراقية بطريقة لم أر العراق متأرجحا لديها كما أشاهده أحيانا لدى بعض الفنانين. أعمالها هي ثمارها العراقية التي نضجت هناك. تتضايق مما يقال عن فلان، انه فنان يقيم في امستردام أو في بلاد المهاجر. كنت أرى بعضا من كرامة بلدي في لوحاتها التي أطلعت عليها. فأنا أتابعها من قبل وهي تنشر تنظيراتها بجوار لوحاتها في الصحافة العربية، فتحت فرشاة أو قلم أو ورق أو قماش هناء، أشعر أنها تحاول أن تدس الصوفي الكتوم بجوار الدنيوي الذي أتصور، كأنها تعتذر عنه بطريقة ما، فحين سألتها عن ذلك أرسلت إلي ورقة في أعلاها تقول وبخط مختلف: توضيح مكثف للانشغالات الأخيرة. اقتطف منها ما يلي: “ظهرت سطوحي الخشبية عارية من الطلاء وسطوحي الورقية قابلة للطي، حيث حاولت ان اقترب من فكرة الرسام الذي لا يتعدى بصياغاته على صياغات المادة الخام بل يخضع لها”. هناء تصغي بشكل جميل يربك المتحدث ونحن نسير ما بين الحي اللاتيني مرورا بالجسور ذات العراقة الفنية ونهر السين أمامنا لا يشبه دجلة قط. في هذه البقعة الفاتنة من باريس، في مدينة الفنون العالمية وحي الفنانين. ما بين متحف جورج بومبيدو واوتيل دي فيل. نمشي في طريقينا إلي المرسم الذي تقيم فيه الفنانة هناء، وها أنني أسجل الاعجاب والتقدير ثانية بجميع المزايا وبتلك الفرص الاستثنائية التي تتيحها وتمنحها مؤسسة المنصورية السعودية بشخصيتها المعنوية الاعتبارية كمانحة لهذه الفرص والتي لا تعوض لفنانين عرب، للعراق حصة نفيسة وسخية ودائما. وبرئيستها الأميرة الكريمة باختياراتها جواهر بنت ماجد بن عبد العزيز، وبحيوية الإعلامية السعودية منى خزندار مسؤولة الفن التشكيلي في معهد العالم العربي ونائبة الرئيسة لمؤسسة المنصورية التي تظهر الوجه المشرق للاريحية السعودية وهي تتابع أنشطة الفنان/ الفنانة القادمة وتقدم لها جميع ما تقدر عليه لكي يشعر الضيف بحبوحة معنوية لا نظير لها بين الفنان وذاته والآخر، خارج حواجز اللغة واللون والجنس. فقد دعت هذه المؤسسة فنانين عراقيين مهمين كرافع الناصري وعلي طالب ويحيي الشيخ، غسان غائب، نزار يحيي، كريم رسن وها هي هناء مال الله تقيم في ذات المكان ولفترة المنحة التي خصصت لها، ربما، قد تزيد على الشهور الأربعة. حين دخلنا المرسم الدافىء، كانت أعمالها في طور التشكيل فلم يمر عليها الا بعض الوقت. هنا، عثرت على شيء أجد مشقة في تفسيره؛ هناء تقول: إن أعمالها تبدو أنقاض أعمال أو أنقاض لوحات. حيث دورة خراب بلدنا العراق وبغداد، بعدما أهانوا المقدس بالسرقة والنهب أو التحطيم وهذا هو الذي جعلها تعمل على تحطيم سطوح لوحاتها كانتقام فني ورمزي مما حصل ولا يزال للبلد. لا أدري لم شعرت أن ما شاهدت من أعمال هناء وفي الحد المكشوف أمامي، وكأن علينا الانطلاق من نقطة الصفر. هكذا كان العراق دائما وبعد ألوف السنين، أما في الذروة أو في الصفر وما علينا إلا ان نبرهن، هل هذا ما نطلق عليه بالقدر الغاشم، قدر جميع العراقيين الذين قضوا أو الذين ينتظرون. كتبت في أحد الأيام؛ في العراق دائما الحد الأدني هو الموت. قلت لها:
@ باريس، ماذا كانت تعني بالنسبة إليك؟
متحف اللوفر والفن والمتاحف. كنت أرى بعض المقاطع بالتلفزيون فتبدو لي شيئا خياليا وخارج الواقع. عمليا، لم يخطر ببالي زيارتها. النقطة المضيئة لي هي اللوفر ومتحف بومبيدو وعمارته الغريبة. كانت بعض الصور هي مجرد تساؤلات عن هذا المتحف. حلم بعيد ولقد حققته لي مؤسسة المنصورية وبشكل غريب وبدون أي تخطيط وبسرعة قياسية.
@ كيف جئت إلى هنا؟
تم الاتصال بي للحضور على ضوء دعوة من قبل هذه المؤسسة الخلاقة للإقامة في مدينة الفنانين العالمية. بالطبع وافقت بسرعة. الغريب، وأنا أعمل أوراقي لكني لست على يقين من حقيقة السفر. حتى السعي للذهاب للسفارة لأخذ الفيزا كان به شيء من التلكؤ لأنني لم آخذها بصورة جدية. فالأمر كان فوق تصوري وخيالي ولذلك لم اصدقه حين حصل كل شيء بصورة طبيعية.
@ والآن، أنت بباريس، كيف شاهدت المدينة؟
هذه مدينة حضارية عالية جدا تشبه الجنة. نظيفة، وشاهقة. الذي أعجبني جدا هندستها المعمارية فهي مدينة أفقية وليست عمودية ومتخفية. ففي كل جانب بها تراكم عصور وثقافات. قبلها كنت في الولايات المتحدة وهي مدينة حديثة لكنهم يحاولون تقليد البناء الكلاسيكي للتماثيل لكي تبدو عتيقة أو قديمة. الشيء الذي استهواني هنا هو التماثيل المطعمة باللون الذهبي والبرونز العتيق. شاهدت كمية من الأعمال والمتاحف في فترة قصيرة لأرقى ما موجود في العالم اليوم. زرت معرض الفنان الألماني العظيم انسليم كيفر الذي يعيش بفرنسا والذي عرض في معرض شخصي. وفي ذات الوقت عرض متحف بومبيدو مجموعة مدهشة للأمريكي روشنبرغ مع افلام ومقتنيات للفنان – ايف كلاين في طابقين منفصلين. في ذات الفترة استقبل متحف بيكاسو مجموعة من أعماله، واقعيا، هي مجموعة شخصية لأهم جامع للوحات بيكاسو. لقد وضعت صورة الرجل الجامع في الإعلان عن المعرض بدلا عن بيكاسو. تصوري – فنانة تنتقل من خراب تام فنيا وحضاريا وثقافيا وإنسانيا، من مدينة نهبت جميع متاحفها إلى زيارة حاضرة الفن في العالم، تزدحم بالمتاحف والعروض مما منحني فكرة تقول: إن المتحف هو أهم ما موجود في المدينة. المتحف ذاكرة المدينة ووثيقة مثقفيها ومواطنيها. شاهدت أكثر مكان يزدحم بالبشر هو ذاك الطابور الذي ينتظر دوره في مشاهدة هذا المتحف أو ذاك، هذا هو البترول المستديم والذي لا ينضب ولا يستنفد. متاحف، ما بين تلك المخصصة للدولة أو تلك المملوكة للأشخاص وأصحاب الذائقة الفنية الراقية ومن جميع الجنسيات. شاهدت كيف يوظف المال الشخصي في خدمة المشروع الثقافي العام وهذا غير موجود عندنا مع الأسف. هذا كلام موجه لأصحاب رؤوس الأموال الوطنية للانفتاح على المشاريع الثقافية العامة فالارباح المعنوية تضاهي الثروات الحقيقية.
@ أظن هذا هو جوهر مشروع مؤسسة المنصورية بالذات.
بالضبط، فهذا التوجه يتطلب وعيا بقيمة الفنون والثقافة. أتساءل لماذا الولايات المتحدة والدول الأوروبية توظف النقود في متحف الفن الحديث في برلين مثلا. بناية سكك حديد قديمة أشتراها مليونير، فعمل منها متحفا مذهلا. نظام الحياة المدنية والتراكم الحضاري هو مسيرة حياة مدينة وتعاملها مع جميع مظاهر الوجود.
@ أنت منظّرة وتشكيلية وأستاذة جامعية. لمن الأولوية لهذه الصفات؟
بالتأكيد للرسم وبالدرجة الأولى، لكنني منذ البداية وبطريقة فطرية لم تهذب كنت مجبولة على التوجه للرسم. كان لدي خط فكري منذ البداية وحتى أثناء الدراسة، بالقوالب الأكاديمية، يسير بجواره خط نقدي خفي يوازي دراستي، لأنني مؤمنة بالتوازي بين الفرصة الممنوحة والاستعداد الداخلي للفرد. هناك أمكانية لوجود فرصة مناسبة، إذا لم يكن لك أي استعداد داخلي فسوف تموت هذه الفرصة. في فترة دراستي في معهد الفنون الجميلة وأنا في الخامسة عشرة، كنت أبحث عن كافكا وكنت افهمه، في تلك السن كنت أدرس سارتر وهايدغر حتى لو لم استوعبهما، لكني بدأت أصر على القراءة حتى لو لم افهم. هذا الذي اسميه استعدادا كان يخالطه شيء من شطط أهوج، أظن، كان في الدراسة الأصولية، على الخصوص حين توازيها قراءات شديدة التنوع، وكما كانت لدي قسوة وأنا أقوم بالتمرين على الرسم الأكاديمي، كنت على يقين أنني سوف أغادر هذه المرحلة ذاهبة وبقوة إلى الرسم الحديث. فترة دراسية طويلة أتاحت لي أن يقوم بتدريسي تقريبا جميع فناني العراق: شاكر حسن آل حسن سعيد، رسول علوان، محمد علي شاكر، محمد مهر الدين، رافع الناصري، سالم الدباغ، سلمان عباس. أما في الدراسة الأكاديمية فقد تناوب على الدراسة: فايق حسن، وليد شيت، محمد صبري، غازي السعودي، هادي نفل وغيرهم. كنت محظوظة جدا حين التقيت بالناقد العراقي المعروف حاتم الصكر، فهو الذي عرفني على العالم الثقافي والأدبي، بحيث أضاف الفنان شاكر والناقد الصكر، كل من جانبه الإبداعي والنقدي، على رفد ثقافتي وتنظيف ذائقتي الفنية والتنظيرية والبصرية. في البيت لدي مكتبة عامرة بالكتب وكنت شخصيا أحب الكتابة، ففي سن مبكرة عملت محاضرة وأنا لازلت في معهد الفنون الجميلة. (كان أستاذي شاكر حسن آل سعيد يدفعنا للتنظير فهو النموذج للفنان المنظّر. الانبهار يكون شديدا بالفنان الذي تشغف بفنه وبتجربته وأنت في تلك السن الصغيرة، هو كان نموذجي وأستاذي الذي صاغ لي مسيرتي الفنية، فبدأت أتمرن على الكتابة لكني لم أنشر أي مقال. أول مقال نشر لي كان عام 1985.فطوال فترة دراستي كنت أدون ملاحظاتي في دفاتر كثيرة أعود إليها من حين لآخر. كان الذكور أعلى مستوى في التمرين والانجاز في العمل الفني. هذا التنافس هو الذي دفعني لكي أكون أعلى وأنا أرى نفسي أقف بجوار، أو أتقدم على ذاك الطالب الذكر، مما جعل اسمي يتكرر في المعهد والأكاديمية؛ أن هناك طالبة قوية، أو أقوى طالبة بالمعهد. وحين أقدمت على عمل أول معرض شخصي خصصوا لي قاعة للمحترفين، كانت من أهم القاعات التي يعرض بها الفنان العراقي وقتذاك ؛ هي قاعة الرواق وأنا لا زلت طالبة في الصف الثالث كلية. ربما، الذي عزز اسمي كثيرا، هو نصف صفحة من الصفحة الثقافية، لعمل تخطيطات بقلم الرصاص كانت تظهر في جريدة الجمهورية كل خميس. تلك كانت فترة ذهبية حين بدأت في عام 1983، وهي التي بنت لي اسمي واستمرت إلى العام
1990.
@ كان البلد في تلك السنين مشحونا بأشياء كثيرة، أعني ثقافية. أنا كنت في بيروت، هل تخبريني عنها؟
هذا صحيح. في عام 1975كنت أذهب إلى معهد الفنون الجميلة وأنا في الصف الأول وفي طريقي إلى المعهد أشتري جريدة طريق الشعب. بعد دوامي أذهب إلى الباب الشرقي لكي أزور المعهد الثقافي الفرنسي من أجل الاطلاع على الكتب الفنية الحديثة. ثم أعود وأمشي في حي السعدون حتى أخذ الحافلة إلي البيت. ثلاث فعاليات ثقافية كنت لا أعرف أهميتها إلا اليوم بعد خراب العراق. كان المناخ مشبعا بالثقافة والفنون. كانت هناك مدرسة الباليه والموسيقى والمعارض وفتح متاحف جديدة. قاعة الرواق ومتحف الفن الحديث. كان العراق يغلي وهو حاشد بكل الأسماء والأنشطة والفعاليات. أذكر أن أحد الطلاب معنا، كان شقيق الكاتب العراقي المعروف فاضل العزاوي واسمه يونس. أول مرة نزور فاضل وكان يعمل سكرتيرا لتحرير مجلة ألف باء ذات النشاط والحيوية جدا، هناك قابلته فاهداني كتابه؛ أسفار. اليوم، أنا على ثقة، اننا لا نقدر على بناء جيل فني، فحين أدمر المؤسسة الفنية والجامعات، وقبل هذا أشطب والغي المتحف فمن أية بقعة سنبدأ وكيف سيكون البناء؟ وما هي الأرضية التي سوف أبني وأقف فوقها؟ إذا كنت تريد تدمير مدينة بأجيالها وذاكرتها، دمر متاحفها.
@ هل تعتقدين من المفيد أن ينظّر الفنان لعمله؟ سبق وسألت الناقد والروائي المغربي محمد برادة عن ذلك فقال؛ أحدهما يغني الآخر. فما رأيك أنت؟
فكرة أن ينظّر الفنان لأعماله، كأن يقال، هذا أمر به مصادرة أو قتل لحرية المتلقي أو تدخل في توجه لذائقته، أعتبرها خاطئة. أنا أعتبر التنظير عملا مهما يوازي عمل الفنان ولا أحتاج إلى أسانيد، بدليل أن أغلب المتاحف تعرض مقاطع من أقوال الفنانين حول أعمالهم وضعت على الجدار. بالنسبة للفنان الشرقي، أعتبر التنظّير مهما جدا لإعادة صياغة المصطلحات الفنية. ولتوصيف أعمالنا. أنا شخصيا أعتمد في انتاج لوحة ما على محور معرفي يستغرق العمل أو العكس. بمعنى: سطح اللوحة الذي يبدو تجريدا اشتغل على شفرة معرفية معينة بها جانب روحاني قريب من التصوف.
@ هناء، لدي أسئلة كثيرة، ولكن اشعر أن لديك أشياء عديدة تودين الإفصاح عنها، فما هي؟
تماما، أريد القول، لدينا طاقات في انتاج فن في مستوى عالمي ولولا هذه الكوارث المتوالية على العراق وهروب جيل كامل من الفنانين لكان لدينا حركة فنية عالمية، لا أتحرج من قول ذلك قط. لقد بدأنا منذ العام 1950مع جماعة الفن الحديث. هؤلاء اخترقوا جميع المدارس الفنية في حضارة الآخر وخلال خمسين سنة وقاموا بإنتاج لوحة حديثة مقبولة عالميا لأن جذور عمر هذا الفنان ستة آلاف سنة. وجود الفنان العراقي في بقعة منيرة يعود إلى أنه يمسك بأطراف ثلاثة: هي، جذره التاريخي لأنه يمتلك أول حضارة في فن الرسم. ثانيا له تركيبة نفسية تستعير من الآخر (الغرب) دون ان تستلب. ثالثا: المحيط الداخلي للمدينة، فهو قادر على تغذيته. أن يرى تراثه فاعلا ومتفاعلا في تفاصيل حياته اليومية. من الممكن أن تشاهدي بعض الرسوم موجودة على فخاريات سامراء وحسونة لما قبل الميلاد، هو ما أشاهده بالضبط في تشكيلات السجاد أو البسط المستعملة والمنسوجة في مدينتي السماوة والكوت، وذلك للاستعمال اليومي. يعني، المرء موجود في وسط فني دون علمه لكنه يغذي جميع حواسه فيكون بمقدوره الإنتاج بصورة أشد غنى وشفافية.
@ نالت هناء مال الله دبلوم كرافيك من معهد الفنون الجميلة بغداد
1978@ نالت بكالوريوس رسم/ كلية الفنون الجميلة، بغداد عام
1988@ نالت درجة الماجستير كلية الفنون الجميلة رسم، بغداد عام
2000@ حصلت على درجة الدكتوراه، فلسفة رسم كلية الفنون بغداد عام
2005@ عملت منذ العام 1987إلى 2006احد عشر معرضا شخصيا.
@ اشتركت بستة وثلاثين معرضا جماعيا ما بين العام 1988إلى 2006ما بين دول وقارات عدة، الولايات المتحدة باريس اسبانيا امستردام البحرين عمان تونس دبي فرانكفورت الخ
@ حاضرت في جامعات امريكية وقطفت جوائز عدة من مهرجانات عربية ودولية.
الخميس 22 ذي الحجة 1427هـ – 11 يناير 2007م – العدد 14080
https://www.alriyadh.com/215426