عالية ممدوح
1 –
ماذا ينبغي علي ان افعله امام صداقات ثمينة ترافقت بالاصل مع حميمية الخطوات الملتبسة للكتابات الاولى في بغداد، وبتلك الطريقة – غير البريئة – على الاقل من جانبي، فأنا لا أدعي بتواصل الجيل الواحد ولو أننا هكذا فعلا من جيل متقارب، اصغر او اكبر قليلا فهذا غير مهم قط، واعني به هنا الصديقين الشاعرين والكاتبين مويد الراوي وفاضل العزاوي اللذين التقيت بهما في برلين. انني اجرائيا ونفسيا ضد ما يسمى بالاجيال وتراتبيتها، كما انني ضد جيل الستينيات الذي انا بالطبع لم احث الخطى اليه ولا اشعر انني وصلته حتى، فاحمل تحت ضلوعي عثراته واشباحه. دائما، اشعر انني في الجهة المادة عما تقتيه اللوائح والمراسيم للتأريخ والكتابة بالرغم من ان الروائي والشاعر فاضل العزاوي قد أرخ لذاك الجيل في كتابه (الروح الحية – جيل الستينيات) لكنني لازلت أظن أن على الروائي أن يبني ويشد هيكله العظيم ومح عظامه لوحده وخارج الاجيال كلها وبدون استثناء، ولان نتاج العزاوي الذي سلمني بعه وهو كثير فلم يتسن لي قراءته من قبل فهو يستدعي للنزاهة، قراءة، واعادة لما قرأت من قبل لغزارته وتميزه. وذلك ما سنفعله في قادم الايام.
2 –
مويد الراوي شاعر بالدرجة الاولى، كاتب وناقد ومحلل سياسي ورسام بدرجة تحولات المغامرة الابداعية. في العالم 1992 طلب مني كتابة نص/شهادة عن احدى الحقب الدموية، وعن تلك المطبوعة التي عملنا بها سويا في بداية السبعينيات من القرن الماضي. كان الراوي اول اسم يتسلسل الى شهادتي، كما كتبت في ذاك العام: »ما ان يغلق جفنيه ويخطو الى نفسه قليلا حتى يفي بوعوده جميعا: انه الحبر الاعظم، الذي يلاطفك ويعرضك للزلل فيخاطبك قائلاً: ها، هاي انت تتحدثين مثلنا.. الخ« توصيفي له بالحبر الاعظم سرق وبدأ تداوله من قبل المعجبين به وبشعريته، وهذا ما لفت نظري في بع المواقع ولبع الاسماء. اليوم وانا أراه في برلين وبعد ثلاثة عقود من الغياب، لا زالت نارته الروحية متيقظة، فهو مختلف. هو دائما مختلف واليوم الاختلاف متكامل.
الرواسب والشوائب كثيرة لكن فلتر الشاعر والناقد شذبها وهذبها وهو يسلمني عدد مشارف الذي ضم نصه الاخاذ – العراق (البيت). هذا النص ليس ورقة من التاريخ، هو على وجه التحديد سهاد وجلد الشاعر. ذاك الصبي العراقي الاول، اليافع الناضج وشديد القساوة على ذاته بالدرجة الاولى، الذي كتب عن مدينته كركوك كما لو انه ينزع عنها التقويم، كل تقويم ويترك تقويمه هو: »أحاول استعادة تلك الصور وفك رموزها السحرية سواء كانت صور، اوقات مشبوبة بنار العواطف والمعرفة او كانت صور الانكسار والعف«. البشر كالامكنة والمنازل وكركوك شاهدتها، لازالت تقطن بين ضلوع الشاعر. هناك مدن تمي تلاحقنا وعسيرة على السهو والنسيان ولا ينفع معها الرتق، كركوك هكذا للراوي. في تلك السنين كنا نسمع عن مجموعة كركوك، لديهم النفوذ والصيت والمهابة كلهم وبدون استثناء. هل هم من الجن أم من الانس?.
3 –
كانت هناك املاح عذبة في احاديثنا وحواراتنا. املاح الجانب الاخر من العمر والسنين والمسرات. الملح اقوى تاريخيا وميثولوجيا، قلت له هذا فحكنا سويا، نحن الذين نخشى الاصابة بمرض السكر. هذا الكاتب ابليس شعر واسئلة وجودية راديكالية مقلقة واحيانا مستحيلة. هو يفحص الاشخاص، والافكار بالدرجة الاولى. يحلل يراقب، يرصد ويزعج اياً من استحقاق البع لسخريته. مويد مخلوق ساخر من طراز وعر وموجع حتى اذا ما فشل في شيء ما يخصه شخصيا يسخر منه فيجعل من الفشل مشهدا مسرحيا او شذرة من شذرات النص المأساوي. لا ابرح نصه العراق/البيت، فلقد احببت كركوك من اجل هولاء الشعراء، فالمدينة والبلد اصلا هو اهله: »ربما هو الشعور بالانكسار الذي نواجهه في احايين كثيرة ليأخذ منا البهجة اينما نذهب وحيثما نحل«. البهجة هي التي وفرتها برلين مع بع تلك الصداقات النادرة في الحياة. هذا نص قوي كالديناميت لا تعرف متى سينفجر في وجهك: »الحزن الذي يشارك احزان الاخرين البعدين عنهم. حزن من اصابتهم الكارثة هناك«، والكارثة حلت فعلا بتلك البلاد. حين اتصلت به وبعد كل تلك السنين قلت له كذا وكيت، فحرا حالا، زوجان صديقان حنونان كنت ادخرهما للوحشة والفوات.
4 –
لمويد ديوان واحد، »احتمالات الوضوح« لم اقرأه، لكني قرأت جميع ما نشره في مجلتي مواقف والكرمل ومشارف. ربما، هو كاتب لديه خفر ووعي اخلاقي شديد الصرامة فيسبب بع الارباك لمن يتعرف عليه اول مرة، واحيانا يعطب به الاخر، فخصومه، للدقة اقول اعداؤه كثر وبدون ايراد الاسماء. في نص العراق/البيت تقرأ شغف كاتب روائي فكاهي وفلسفي. قلت له لماذا لا تكتب رواية? لم يرد، هو لا يرد حالا ولكن فيما بعد فلديه شفرات معينة في الحوارات ليس بوسع الجميع التفاهم معها او الوصول الى زخمها واذا لم تفهم بالروح الصداقية فقد تسبب ضيقا وربما بع الالم: »يتعلم الناس في كركوك معنى المسافات والامتدادات عبر النهر الذي يأتيهم من الجبال ويذهب بعيدا ويعرفون بأن هناك اماكن وناسا يعيشون بعيدا عن مدينتهم دون ان يسافروا اليهم، وهم بذلك يتعرفون على الحزن المجرد، غير المشخص. الحزن الذي يشارك احزان الاخرين البعيدين عنهم. لم اكن ادرك آنذاك، في يفاعتي، ما في الحزن والكمد من سر يشل المرء عندما يسلم نفسه للقدر«. هذا نص/قصيدة، وهو ليس تشتتا ما بين الشهادة والوثيقة والقصة الطويلة. اظن ان اختيار اي كاتب لاحد انواع الكتابة هو ثمرة عشق وغواية ما بين اجناس الكتابة، لا نواة زواج.
5 –
اشعر وانا اقرأ هذا النص، حرص ودقة الشاعر في اختيار المفردة وما يجاورها فيبدو السرد رشيقا صبوراً متحولاً وذا سيولة مغمسة بالمرارة الحارقة. اعتقد ان هم بع الشعراء هو هم تعبيري بالدرجة الاولى، هو بحث في الصيرورة كيف تكون بلورية، لذلك تكثر الاشارات في نصوص الشاعر واحيانا يريد ان يتخطى ما كتبه قبل خمس دقائق او اكثر الاحيان يريد تدميره. كثيراً ما يتسرب الشعر الى النص النثري وهذا لا يعني ان للشعر منزلة اقوى او اهم من النثر. ان الافتراق النهائي ما بين الاثنين غير موجود لدى الكثير من الشعراء العرب والعالميين واحيانا لا نعرف هل استعاد الشاعر نفسه بالنثر ام باشر بالتعرف اليها بالشعر? لا فكاك من الاثنين ولذلك يبدو على الاقل لي وفي هذه الفترة اتجاه الراوي للرسم والذي لا علم لي به من قبل، او انني نسيت وهذا المرجح. فالفراغ واللون والنظرة الى الوجود الهش، ربما، هي اقتراحات لكتابة نيئة بالاضمارية التي يوفرها الرسم للارتفاع عن يوميات النثر العادية.
*
في مكتبه الانيق بع لوحات وجدارية شديدة العتمة من اعماله، وبورتريه له نفذه الرسام العراقي فيصل لعيبي يعطي لملامح الشاعر قسمات لشخص موجود داخل كل واحد منا، هو قريننا المتشدد المذعور والذي نحاول ألا نحفل به ونحن لوحدنا. حين نردد امام انفسنا; اننا لا نعرف من يلاحقنا، الاشباح ام ارواحنا الهيمانة التي تريد نزع الهلع والذهاب الى المغامرة العجيبة التي تنتظرنا ودائما في المفرق الاخر من الروح. احدنا يقول; انه يموت لكي يكتب كلاما حقيقيا كالشعر. والاخر يقول: انني حي لكني اريد ان يكون موتي شديد الحكمة، كالشعر، لكن من الموكد هناك فريق ثالث. انظر الى ساعة يدي ذات العقارب الكبيرة بسبب ضعف بصري، انه الليل الابدي، ليل برلين، ليل الوحيدين الحيرانين فلنذهب قبل الوصول الى رواية المرارات فالليل له شكل آخر في مدينة بها كل هولاء المحبوبين والمحبوبات.
الخميس 28 شعبان 1427هـ -21 سبتمبر 2006م – العدد 13968
https://www.alriyadh.com/188057