عالية ممدوح
1-
أطلق عليها الكاتب الأمريكي الملعون هنري ميللر لقب – العذراء المنتحبة -. هي الكاتبة أناييس نن، المتعددة الهويات والجنسيات والدماء والصداقات والأسفار والغراميات والخسارات لم اشأ كتابة هذه التاء الأنثوية الطويلة الممدودة من أول الحلم إلى آخر التخييلات لكن هذا ما حدث. بترجمة جميلة وعميقة قامت الروائية العراقية والكاتبة الصديقة لطفية الدليمي بترجمة مختارات من بين سبعة مجلدات ليوميات هذه الروائية والمحللة النفسية وموديل الفنانين ومرشدة الكتاب والشعراء في عصرها إلى ذواتهم وشموسهم الحارقة الكائنة في داخلهم. قلت للطفية وهي بباريس في هذه الأوقات:
كأنني اقرأ نصوصا لك. كأنك أنت التي دونت هذه البراكين. أنت اشتعلت أيضا، لكن القارئة اشتعلت أيضا ربما بنسب أكثر
تبتسم لطفية بخفر جميل وتجيب:
كل امرأة، بل كل كاتبة لديها حمم أناييس نن بصورة من الصور.
تعلمين بالطبع أن هنري ميللر كان يسميها “الكائن الكوكبي” كما انها هي التي ستدقق فيما بعد إلى ان يحول تلك الدفاتر واليوميات الخاصة المقذوفة بلا حرفية كبيرة إلى الكراسات وكأنها كتبت على شكل شرار صاعق
هذا هو الذي جعلني أعيد اكتشاف تلك السنوات المجنونة التي عاشها أولئك المبدعون وأنا أعيشها ثانية أثناء الترجمة
2-
صدر كتاب اليوميات وهو مختارات من مجلدات شتى عن دار نشر أزمنة التي ودائما تجىء اختياراتها وذائقتها أكثر من متعة أخاذة فصاحبها روائي وباحث ومترجم وكاتب هو الصديق الاردني إلياس فركوح الذي أصدر أيضا روايته الجديدة / أرض اليمبوس / وسنعود إليها لاحقا. هذه الدار اليوم تفرّغ حيويتها على مجموعة تراجم واصدارات مهمة، هذه واحدة من اختياراتها هو كتاب صغير الحجم لكنه ينشر عبقه في كل مكان. قد يتبادر للذهن، ان كتابة اليوميات يسيرة لكننا نجد أنفسنا فجأة نقيم وسط ذاكرات وذكريات الشخصيات والمؤلفة فيصير هؤلاء أصدقاء مشتركين. وضعت خطوطا كثيرة تقريبا في كل صفحة من الكتاب فهذه كاتبة تسمي نفسها ب “أنا قنبلة بشرية “هي كتابة تجعل جسمك يتنمل وعقلك يتضاعف حيوية ونضارة إن الكتابة الفاتنة تعدي كما هو الحب والحرية. هو كتاب يقظة يدع ضوع المرأة الكاتبة يفوح والأصابع تعرف كيف تختار أفضل المفردات لكي تتشكل النصوص قطرة وراء قطرة من دموع وانتحاب، تمرد وانبعاث، اكتئاب وانفجار .
3-
عاشت هذه المرأة الرقيقة الصغيرة الحجم ذات الجاذبية الوحشية والهدوء القاتل بين الحربين وبين حروب بضعة كتاب وشعراء ورسامين وأطباء نفسيين جلهم مشاهير، أولهم الذي كما تصفه بالاسطورة، الأمريكي الماجن هنري ميللر: “كان دافئا حميما مرحا وطبيعيا ومر وسط الحشد كأي شخص مجهول. رجل يمتلك حياة ثملة دونما حاجة للشراب. رجل يعوم في خفة ابتداعه الشخصي “كتب ميللر عن هذه اليوميات في وقتها وذلك في العام 1937حين صدرت: “سوف تحتل هذه اليوميات موقعها إلى جانب اعترافات القديس اوغسطين وبترونيوس وأبيلار، وجان جاك روسو ومارسيل بروست”. الأهمية الاستثنائية لهذا النوع من الكتابات، وللنساء بالذات هو انها لم تتصنع أو تتشاوف أو تتحذلق. هي تتحدث فعلا عن بشر حقيقي وأحداث حقيقية ومصابيح مضاءة فعلا في كل صفحة من صفحات الكتاب فيظهر بجلاء شغف جميع من قرأها أو اقترب من نيرانها. هو كتاب يعلّم كيف على الكاتبة / الكاتب ان يشتعل لكي يرى رماده أمامه، ان ينعزل ويشاهد عزلته هي وطنه. ان يتوحد مع ذاته لكي يكونها: “كل شيء هو أنا لأنني نبذت كل ما هو متعارف عليه، كل ما يعتقد به العالم، كل قوانينينه وأعرافه، فأنا لست مضطرة للعب دور أحتماعي”.
4-
ولدت أناييس نن في ضاحية نويي الباريسية في العام 1903لأب أسباني، عازف بيانو وأم ألمانية الجذور، ابنة دبلوماسي ألماني كان يعمل في أمريكا. توفيت بالسرطان سنة 1977في لوس أنجلس . ولقد عاشت ما بين كوبا وفرنسا وأمريكا. تعرفت والتقت بكتاب كبار حين كانت غير معروفة في أعوام الثلاثينات وقبل الحرب الثانية كهنري ميللر والشاعر والمسرحي الفرنسي انطوان آرتو ولورنس داريل. كما عملت في التحليل النفسي، هذا الفرع هو الذي جعل يومياتها وأعمالها ذات حفريات في الروح واللاوعي، كما أنها كانت تشارك بالأفكار الطليعية والثورية لمجموعات الثوريين ضمن الثورات التي قامت في أسبانيا الجمهورية على سبيل المثال لقد أعطتها الدنيا وتجاربها وخبراتها أن تكون تلك المجلدات يوميات الوجود والثورة والغرام والانكسارات الروحية ما بين الكتابة والمعارضة، ما بين الوجوه الحقيقية والأقنعة الحقيقية أيضا. “إنني مثل البلورة التي يجد فيها الناس انسجامهم السري ولأنني بسبب من استحواذ الجوهر عليّ وعدم اهتمامي بالتفاصيل والتعارضات والتفاهات والأمور العرضية والتظاهر والتخفي، يصبح التحديق بيّ مثل التحديق بالبلورة السحرية”. يشي هذا الكتاب أيضا بشيء من المبالغات اللطيفة والنرجسية فوق المألوف فيقول عنها الشاعر والمسرحي آرتو: “أنا لم ألتق بامرأة مثلك قبل اليوم. أنت حالة نادرة لا أصدقها وأنا أرتعب من فكرة ان تكوني مجرد حلم فتختفين من حياتي. كبرياؤك تثير الفتنة فيضطرب العقل لدى رؤيتك”.
الكتاب الجميل هذا به صفحات فذة في اكتشاف القاع السفلي للذات الإنسانية وتمارين مهمة للكتابة والتدوين والتأليف والصمت. اقرأ واكتشف وكأنني اقرأ لبعض صديقاتي من الكاتبات العربيات: “إن ثيمة اليوميات على الدوام هي الشخصية ولكن ذلك لا يعني قصة الشخصية حسب، وأنما تعني العلاقات الشخصية مع جميع البشر والأشياء واذا كانت الشخصية ذات عمق كاف فإنها تصبح كونية، أسطورية… ان كل واحد منّا عليه ان يعيد خلق العالم”.
الخميس 9 ربيع الآخر 1428هـ – 26أبريل 2007م – العدد 14185
https://www.alriyadh.com/244694