الشاعرة صباح زوين في ديوانها الجديد : قصيدة واحدة طولها الألم واللعثمة


عالية ممدوح
1
“” بقايا ذاكرة في الوجنتين ، ومن ألم المكان ، المكان الذي لا تزالين عنه تبحثين ، هو المتواري خلف اسمكِ ، والمفتت هو بين يديكِ، بيديكِ
تجبلين معناك، أيتها الراكضة بين تلال الأحرف ووديان المفردات “” . هي هكذا صباح زوين بالألم والضنى . شاعرة صميمية الوعي ، وعيها
الجواني شعر وتأملها شعر وبطريقة تستطيع أيضا ان تعذب نفسها ونفسي كقارئة بالشعر ذاته ، فكيف استطاعت ان تدون كل هذا الألم الارادي ، الألم
شريك تام خفي محير مغر ، هو موضوع ديوانها الأخير الصادر للتو : “” كلّما أنتِ ، وكلما انحنيتِ على أحرفكِ “” . عن دار نلسن طبعة أولى
2011 . قبل شهور التقينا بباريس وكانت عائدة من ندوة أقيمت لها ولقراءة نصوصها في جامعة رين مع مجموعة من الباحثين والطلبة .

في المطعم قلت لها : إنها تقوم ببتر الكثير من الزوائد من على القوام الشعري وجز شعر المفردات ، الفواصل والنعوت فلا يبقى أمام القارئ ، وليس
أي قارئ ، إلا اللحم الحي ، اللحم الخاص المتمايز يتنفس وينبض تحت وطأة الألم الذي كان يغذي نفسه بنفسه ومن محلول الشعر الصافي . اشتغلت
زوين ومنذ إطلالتها الأولى على نصها ومشروعها . كانت تمحو وتدقق وتعاود ، لكنها تجري في المكان المختلف ، غير المتوقع للكتابات الشعرية التي
تكتبها المرأة العربية . ثقافتها لا تصفعك في كل لحظة لتقول لك : قف فلدي قائمة بكيت وكذا الخ.
2
في ديوانها الجديد هذا فرادة استثنائية فهو مكتوب عن فرار المفردات في أثناء نمو النص ، فرار الحقائق ونحن نحاول القبض على جمرها ، فرار
الحب ونحن نحلم بتقطير لحظاته. هروب المعاني ، وربما هذا هو الأمر الرهيب أمام اي فنان في الأرض منذ بدء التدوين وإلى مايشاء الله . هناك
مفردات نضعها في النص وليلا نصحو بغتة ، فنقوم بمحوها ، فهل نهدأ قليلا ، أبداً ، فلا المفردة القديمة هي المبتغى ولا الحديثة أيضا . ربما ، هذه هي
كبرياء اللغة والكتابة ، نبلها ومآزقها ، انها تريد ان تشكل صحوها ومنذ البداية وحتى تنتهي الصفحة الأخيرة فندرك ان الكتاب أنجز لكننا لا نزال
نعيش في كنف مفردات ستحضر في زمن لاحق . صباح زوين اشتغلت من هذا المنظور وأظن هذا النوع من الكتابة به نزوع تجريبي سجالي وبه
جذرية نهائية ومستديمة مع النص الآخر / السائد / الموجود في الساحة الثقافية ، ولذلك ما ان يتعرف عليه قارئ شفيف خصوصي خفيض الصوت
مثل هذه النصوص حتى يهيم به فهي كتابة ذات خصوصية شديدة الاخلاص وهذا النعت الأخير صار في عصرنا الراهن بغضيا من الأسف.
3
تشتغل زوين على المكان الذي يصير أو يصبح في كثير من الأوقات هو الزمن الخائن . كل شيء يتفتت ، هي والرجل وكلس الحيطان الأبيض الذي
تكرر عشرات المرات وكأنها تريد تذكيرنا ؛ ان التفتت هو في الأصل نقطة ارتكاز الكون ، وأن البياض هو لون الوجوه التي تلاشت ، والسماوات
التي انخفظت والتوابيت التي لم تصن الموتى . لا أدري ماذا اختار من كتابها هذا فلا يعقل ان اقوم بنقله برمته لو أمكن : “” بكلس الحنين مطليا البيت
كان . بشمس الساعات المتأخرة أو تشعان بنور لغة لم تقولِيها بعد . أنتِ التي تبتهجين بالحرف ، ومن الحرف ترتجفين ، ورأيتكِ منه تموتين ومنه
تموت أصابعك البيضاء . أنتِ التي في الوعورة كتبتِ، ثم كم أنتِ بمفردكِ “” بلى ، كل منّا بمفرده حتى لو كنا في مجرى الغرام المميت ، أو الأمومي
أو الوطني . لكن ، هنا بمفردكِ تعني بمعنى من المعاني شهوة التمايز فالشاعرة تبحث بصورة مستميتة عن اللغة الضائعة عن “” فتنة البياض “” في
هذا الديوان عشق للغة ، للغات للألسن المتداخلة المتشابكة المتآلفة . لا بغض بين اللغات وهذا الكائن الشاعر منذ وجود اللغة في المطلق وبدءا من
الكلمة الأولى مرورا بالأناشيد والاناجيل والقرآن ولغة المتصوفة وتأتأة الأطفال الأولى الخ.
4
تتلجلج صباح زوين في القول . أشعر باختضاض ضلوعها وهي تفرد أوراقها أمامها . تقول كأن ، وأن ، ولكن وهي ليست حروفا ، هي مساحات من
الورع والزهد بالكتابة ذاتها التي تعادل بذرة الوجود . اشعر في كل سطر وصفحة انها لا توافق على ما كتبت فتضطرب أكثر في السطر الذي يليه
ويكتظ النص بالحدوس فتقوله هكذا : “” تقتربين من الكلمة المطلق ، اي تكادين ، ثم كيف الكلام في غياب الكلام ، حيث الحرف وماء الفراغ . كيف
صنعت من فتات خطاك جملا وأسطرا وتمتمات . فكانت يداك قد أزرقتا وإلى ما لا نهاية “” . قلت لها في احدى الرسائل بيننا ؛ إنك تقتلين نفسك أمامي
وأنا لا أشفع لك ، ليس بمقدوري فعل هذا مع هكذا نوع من الكتابة ، فالكتابة التي تنتْهك هكذا هي اشد من القتل . جميع أعضاء الجسد موجودة في هذه
النصوص : “” الجسد المفتت الذي لا يعثر على مكانه ، أو لأن الأمكنة دائما هاربة . اسماء مجبولة بتراب قدميك السريعتين . لم تفتحي يديك سوى
على خيبات . وكم تلك الأصابع الأنيقة ، وجوه تلمحين بقاياها في عمق يديك “”. السماء الوجوه الأمكنة ، بيتها القرميدي على الغلاف وصورة صباح
وهي واقفة على عتبة البيت مغبشة . دائما صورها هكذا . صورة “” وحيدة في كل مكان “”.
5
صباح زوين شاعرة ومترجمة ، باحثة وصحافية . في جميع كتاباتها طلقة وفصيحة وجوانية ، الشعر في أعلاه وفيه كما تقول ؛ “” لعثمة لسانك تعلقين
، دائما تتلعثمين كلما الرجل ، ذلك الذي ، أو الذي وقف إلى النافذة وإليك وقف . معا أنتما تبحثان عن كلامكما الأول ، انه الكلام الأصل “” . ازعم ، ان
الانخطاف العاري ينجز لعثمته الفعلية ، نعرف نحن جميعا بني البشر من أحوالنا ونحن في أثناء الغرام كيف تتوقف عضلة اللسان ، ونعجز عن انجاز
جملة ضرورية . الشاعرة تكتب عن المستحيل وتشفق على جميع الممكنات ، فتدون عن كل شيء هارب من بين الأيادي . شديدة الحياء هذه الصباح ،
الحياء الشعري الرقراق الذي يحاول بشق الأنفس ان لا يتداول اسلاب الكلمات المستعملة . تنتقم زوين من حالها فتكتب الهشاشة والتصدع ، الضعف
والوجد ، النفي اللغوي والتشرذم المكاني والغرامي فتتناقص ، أشعر ان وزنها الفيزيائي ينقص وخصرها يتهدل وبشرتها تزداد ألقا وأصابعها تزرق
بشدة لكي تحفر عميقا وفي كل محاولة منها عنوان أحد دواوينها ، هذه الحشد من مسرات تتفتت وتتطاير كما تطايرت قبعة ذلك الرجل الوحيد ، وحيد
معها هو ، ووحيدة معه هي فتتطاير المفردات شاهقة كما الشغف إلى السماوات العالية ساحرة وبتولية.

http://www.alriyadh.com/677265