الدكتورة نهلة الشهال، نائبة مديرة مبادرة الإصلاح العربي: العطب الأساسي في جميع أوضاعنا هو: خيانة النخب بالاستقالة أو الانزواء أو الالتحاق.

حاورتها – عالية ممدوح

بعد فترة ليست بقصيرة من تعارفي بالصديقة اللبنانية نهلة الشهال في باريس، وكان ذلك في العام 1993، بقيت والى اليوم شغوفة لجلسات بحث وإصغاء إلى تجربتها النضالية والسياسية والفكرية. فقد كانت تتحدث عن الحرب، الحروب، التي خاضتها بطريقة ساحرة، منهجية وشديدة الخصوبة، بالرغم من الدم الذي تخثر ولا زالت رائحته تفوح في السماوات العربية. كنت أصغي وكأنني داخل مسرح، فطريقتها في الجدال والتحليل كانت تسلط الأضواء على أهم تلك القضايا التي كانت ساخنة حارقة ودامية في مرحلة السبعينات التي كانت سطوة الايديولوجيات (ماركسية وقومية) كاسحة للفكر الذي كان مهيمنا على تلك البلاد التي يجز شعرها الأبناء القساة والعصاة، العراق، سوريا، لبنان، وفلسطين وبجميع الفصائل الخ. كنا نرجوها، نحن الصديقات لو تدّون تجليات تلك الحقب الدموية ولو كنوع من الإحاطة لنسيج الذاكرة، فهذه الأخيرة خائنة في أغلب الأحيان. تدوين كنوع من المقاربة، من الاعتراف الذي يتطلب وقفة مع الذات/ الذوات.
كنت أبغي التشديد اذا ما سجلت هي وغيرها/ غيرهن من شخصيات نضالية، التي قضت أو سكتت لأسباب لست هنا في صدد الخوض بها، ولكن لكي أجد أو أخترع ولو نعتا واحدا لما وصلناه من خراب وفساد تصف أوضاعنا وأوضاع الأبطال الذين افلوا أو غرر بهم أو غدر بهن/ بهم.
نهلة تفضل لقب المناضلة، وربما الباحثة ذات الحرفية المهنية البحثية والفكرية الجادة. فقد تخرجت من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية للعام 1984، دّرست في الجامعة اللبنانية ما بين 1984 إلى العام 1994. حضرت إلى فرنسا وعملت بالابحاث في مشروع بحثي خاص بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية. ساهمت الكاتبة اللبنانية نهلة الشهال أيضا في كتب جماعية بالفرنسية منها «السلطات العربية بمواجهة المعارضات الاسلامية»، «قوميات تتغير في شرقي البحر المتوسط». «حرب العراق، الشرق الأوسط في صدمة»، «نيسان في جنين» عن الهجوم الإسرائيلي في مخيم جنين. منذ العام 1999 تكتب مقالتها الأسبوعية في – تيارات – جريدة الحياة.
ساهمت نهلة بتأسيس البعثات المدنية الفرنسية إلى فلسطين منذ العام 2001 وهيئة التنسيق الأوروبية من اجل فلسطين، وهي هيئة تجمع النقابات والأحزاب والجمعيات ومجلس الكنائس العالمي ويضم كل القوى التي تعمل وتنشط من اجل فلسطين في أوروبا.
أول مرة أسمع عن هذا المشروع الجديد: (مبادرة الإصلاح العربي) فعليا توقفت أمام كلمة إصلاح وأنا أسترجع جميع القضايا الحامية ذات الطابع الراديكالي والتي توزعت ما بين التنظيم والتحريض والفعل الثوري للشهال. لم تشأ أن أدون ما حدث لها في تلك الحقبة، لكني لم أسمع كلامها، أن الدولة العبرية اختطفتها في احد أعوام الحرب الأهلية في بيروت. والدتها المناضلة العراقية الشهيرة فكتوريا نعمان، أول صوت نسائي انطلق من الاذاعة العراقية في أول افتتاحها في أواسط الأربعينات من القرن الماضي.
لت اسأل نهلة الشهال:

٭ ما يقال اليوم وأنت وسط المشهد السياسي/ الاجتماعي العربي والدولي هي ترديد مقولة ؛ أننا نحيا ما بين الفوضى والكارثة. هل هناك يا ترى وقاية ما من هذا المنزلق الذي نذهب إليه جميعا؟
صحيح أن أوضاعنا في المنطقة العربية سيئة جدا ومن جميع الميادين، لكن في النهاية، وهذا أقرار لواقع وهو ليس جوابا. من أجل هذا، أنا مؤمنة بأهمية امتلاك روح المبادرة على مستويين الأول، مستوى المسؤولية الفردية ولكل واحد، وعلى مستوى المؤسسات. التحدي الأكبر في منطقتنا اليوم ؛ هو عدم الاستسلام لليأس، ثانيا، هو استعادة روح المبادرة بطريقة خلاقة وجماعية، ولذلك إنني متحمسة للعمل بمبادرة الإصلاح العربي ففيها خاصية أساسية هي نجاح بإقامة تقاطع حول موضوعات محددة وجوهرية ما بين أبرز المراكز البحثية في المنطقة العربية. شعار المبادرة أنا شخصيا متمسكة به كثيرا وهو يقول: إعقال – إدراك- الذات هي سلطة بحد ذاتها. وهذه بالضرورة عملية تمتلك قدرا من نقد الذات بطريقة بناءة، وبهذا المعنى لا توجد وقاية بوصفتها الجاهزة ولكن هناك عملية صراعية.

٭ تماما، وهذا يقودنا أن نرى السياسة وهي تبدو مختصرة في موضوع الأمن، بدءا من الولايات المتحدة وانتهاء بعالمنا العربي؟
أولا بالعالم كله هناك وجهة عالمية تقودها الولايات المتحدة لتسييد مفهوم يجابه المشكلات الاجتماعية على اختلافها بمنطق أمني، حيث يبدأ بوش بما يعتبره مواجهة الإرهاب بتعميم الحرب. فماذا يتبقى ومشكلات الهجرة في أوروبا ومسائل الضمانات الاجتماعية الآن كلها تقدم لها حلول ذات طابع أمني، هذا هو المآزق فهذه المشكلات لا تحل عن طريق الأمن. أما في العالم العربي فالمنحى الأمني الذي ساد في العقود الثلاثة الأخيرة أو أبعد قليلا هو الذي أوصلنا إلى الكارثة لأنه أفقر وسحق المجتمع وحول هذه المجتمعات إلى مجتمعات منهكة. ليس الفقر هو الذي ينهك المجتمع ولكن قتل حيوية المجتمع بالقمع والقهر والظلم.

٭ أنت باحثة ومناضلة وتشتغلين بالسياسة. أولا، هل صحيح القول أن فلانا يشتغل سياسة؟
يوجد مفهوم شائع عن السياسة يحصرها بالأخصائيين بها فقط، في الوقت أن السياسة هي كل شيء. كلنا نشتغل سياسة. المستقيل الذي يسير بجوار الحائط ويردد: يا ربي السترة، هذا موقف سياسي كامل، هو يشتغل سياسة لكن نتائج شغله هي عدم الاهتمام بقضايا مجتمعه العامة. انه نموذج يترك المجال للرداءة أن تهيمن على مفاصل المجتمع. أجل، أنا أشتغل بالسياسة مثل كل البشر، وأنا واعية أنني أشتغل بالسياسة ومختارة هذا الموقف.

٭ من يتابعك يا نهلة في مفاصل تجربتك النضالية من منظمة العمل الشيوعي التي تنتظر في أحد الأيام تدوينها كشاهدة على مرحلة شديدة الالتباس، وناشطة في القضايا العربية الملتهبة، الفلسطينية والعراقية، حقوق الإنسان، ضد توحش العولمة وضد أشياء كثيرة، هل بمقدور المرء أن يكون ضدا لكنه يعمل مع ومن أجل….؟
أنا شخصيا يمكن بسبب عائلتي المناضلة أصلا، نما لدي نوع من الحساسية العالية ضد العدمية. الضد وحده هو موقف عدمي وأنا أعتبره خطيرا وهو موجود في جميع الاتجاهات الفكرية من اليسار واليمين. أعتقد أن الضد أو المع ومن أجل الخ، يكتملون سويا. لا أقدر على فصل أحدهما عن الآخر وهذه هي سمة الحياة. أنا مناضلة من أجل وضد، ولكني مدركة لمقدار الإخفاقات والصعوبات والعقبات، وأحيانا الاستحالة التي تواجه الذي أعمل من أجله، الإدراك لا يمنعني من الدخول بالمعركة فانا على يقين من مقولة أو حكمة: لو خليت لقلبت. بمعنى، من الضروري الحفاظ على نموذج ما أعتقده صحيحا فكرا وسلوكا ومبدأ، حتى لو كنت أعرف أن شروط نجاحه غير متوفرة في هذه اللحظة.
٭ ترى بماذا تذكرك هذه الحقبة التي نحياها والتي تتحكم بها الرقابة والأمن، بصمات الاصابع ورصد سحنات الوجوه كأنها لا تبدو ضد المجرمين والإرهابيين، وإنما هي ضد الأجانب. هذه الإجراءات يعمل بها الآن في أوروبا أيضا بعد اميركا؟

هذه مكارثية جديدة والفظيع فيها أنها لم تعد محصورة بالولايات المتحدة، وإنما تحولت إلى منظومة عالمية. لدي شعور بأنها سوف تطول لأن زمن المكارثية الأول كانت هناك أمور واضحة ومعسكر يقابل آخر، الآن باتت جميع التحركات توصم بالإرهاب بما فيها التحركات الاجتماعية.

٭ بعد جميع المراحل الثورية الراديكالية التي خضتيها في حياتك النضالية، أنت الآن نائبة مديرة مبادرة الإصلاح العربي. اليوم الجميع ينادي بالإصلاح، نخبا وأحزابا ودولا ومؤسسات مدنية. ترى اذا كان بمقدورنا أن نضع سلم الأولويات في الإصلاح، من ماذا نبدأ؟ من الهرم أم من القاعدة، هذه القاعدة الكلاسيكية، هل بمقدور الإصلاح السياسي تغيير التراتبية هذه أيضا؟
أعتقد أن العطب الأساسي هو الذي اسميه أنا ؛ خيانة النخب: الذي حدث أن بعد الهزائم المتكررة، 1967 بالنسبة لجيلنا، هي عنوان الهزيمة، ردة فعل النخب كانت أما بالاستقالة والانزواء أو الالتحاق بالسلطات القائمة بدون مساءلة والتحول إلى منّظرين ومبررين لسلوكيات هذه الأنظمة بكل المجالات، وهذا الذي اسميه خيانة النخب. بالنسبة إليّ، وحدة من المسائل الأساسية جدا هي أن تستعيد النخب مسؤوليتها. هذا الذي اسميه بداية الإصلاح. اذا لم يكن لدينا مشروع نستند إلى رؤيته ويصور للخلاص من الوضع الحالي. أول شيء يمكن للجواب على هذا السؤال حول مسألة التراتبية؛ هي أن توضع قوانين حتى لو كان يجري الاعتداء عليها. يجب وضع قوانين في القضاء، في الانتخاب، يجب أن تكون هناك مرجعية قانونية لكل شيء. هذا هو المدخل لمقاومة الاعتباطية.

٭ قد يتولد سؤال خام يقول، لا تزال هناك عقليات تصل إلى مديات كبيرة، ترى في أية مقاربات مع مؤسسات البحث في الولايات المتحدة على الخصوص، ما هي الإ لابتلاعنا وفرضهم علينا ما يرغبون فرضه. أي بين تلك النخب وقطاعات كبيرة ومتنوعة سوف يتوقف الحوار طويلا وربما نصاب بالخرس أو يهاجم أصحاب هذا المشروع الخ؟
مبادرة الإصلاح العربي هي إطار تنسيقي بين عشرة مراكز أبحاث عربية منتشرة من الخليج إلى المحيط، من المغرب إلى المملكة العربية السعودية ونحن بصدد فتح مراكز أخرى لكي يتم الاتصال مع بلدان لم تنتم بعد إلى المبادرة ومقياس النجاح هو مقدار ما تنجح هذه المراكز في العمل معا حول برنامج تضعه هي. نحن نعتبر المراكز الخمسة، أربعة أوربية وواحد أمريكي هي مراكز إسناد إداري ولنشر ما نبغي نحن نشره أو إذاعته. لا يجوز الخوف من هيمنة تلك المراكز أو غيرها علينا لأنه في الأخير هذه تجربة تجمع خلاصة أحسن ما هو موجود في المنطقة من مراكز بحثية. ومفترض نحن من الوعي بحيث نكون على علم بغاياتنا وبوظيفة ما نقوم به.

٭ كثرة الحديث عن الديمقراطية لكن بدون ديمقراطيين، وأفضل مثال هو الولايات المتحدة وعموم أحزابنا التي لا تطيق الآخر، تفضل الاقصاء والالغاء قبل أن تسمعه لكي توافق عليه. لذلك نرى الأنظمة تكفر بها والمعارضة تقدسها طالما هي في المعارضة؟
لا يوجد شيء أو فكرة اسمها الديمقراطية بالمطلق. الديمقراطية الفرنسية مثلا بنيت على أسس المواطنة والاندماج والانصهار والمبادىء الجمهورية بينما الديمقراطية البريطانية بنيت على فكرة الحريات العامة. يمكن التعريف الوحيد للديمقراطية هو الاعتراف بالآخر. أعتراف بحدودك الخاصة بك وقبولك بما يسمى في السياسة ب التداول، أي السلطة تنتقل. وهذا يصح على جميع السلطات وليست على السياسية فقط.

الخميس 5 جمادى الأولى 1427هـ – 1 يونيو 2006م – العدد 13856
https://www.alriyadh.com/159253