عالية ممدوح
1
كنت اخطط لبدء مشروع رواية منه، حفيدي الكبير. الاحقه وانغص عليه وقته وهو يعزف أو يصغي للموسيقى. أمر على اطراف أصابعي إلى مراكز عالمه فلا يلتفت . وإذا دمدمت بتحية الصباح أو المساء كان يجيب بتهذيب ومسافة. قررت ان اتخصص به، فدائما الحب ينال مني فلا أقدم على طلب الاسترحام لا منه ولا من والده ولا من جده. كنا ثلاثة أجيال نعيش سويا في فيلا جميلة أنيقة وضاءة في قرية سانت لازار من ضواحي مونتريال الكندية. كنت احاول ان يكون مروري هادئا وغير متطلب فأنا في طبعي شديدة التطلب ولا ادري للساعة هل هي صفة حميدة أم لا؟ فقررت ان لا ادع الدائرة فيما بيننا تضيق وإذا ما أتسعت فهي ستبدو صمام أمان. فأنا كائن غريب حط بينهم، يجاورهم في إحدى غرف الطابق العلوي ويستخدم حمامهم، والممرات الفسيحة من بيتهم. فكنت أخشى فعلا واتساءل؛ هل جلست في صورة صحيحة أو غلط؟ هل هذا الكرسي المفضل لليون ام بيجان، ربما لأحدهما ودون علمي. تحصل وحصلت أشياء ودائما دون علمنا لكننا أما ان نغض الطرف أو لا نرى البتة وهذه – البتة – نادرا ما استعلمها في الكتابة، وإذا ما استعملتها فأنا أطلق ضحكة مجلجلة بعدها فهي لا تحضر إلا في السياق ولكن من يخلق السياق ذاته؟ حفيدان حقيقيان لذيذان لدي وكانت الشؤون والأمور والأفكار السطحية والعادية جدا، تحمل لي عيدا لحظويا معهما.
2
إننا لا نعرف أو غير معنيين؛ كيف يرانا الآخر، وعلى الخصوص هؤلاء الأقرب إلى من حبل الوريد. كنت في سنهم أجد في جميع ما يمر حولي اداة للسخرية والفكاهة، وعلى وجه الدقة كنت انجز ما يحتاج إلى انجاز في صورة متقنه كتنظيف الزجاج الذي افضله، اما الكوي فإلى اليوم لا اطيقه. لكنني كنت اتقن جميع ما يطلب مني ولكن بالتهكم. وعندما تدعى إلى ضيافة حتى لو كانت إلى بين وليدك، فما عليك إلا ان تعلم ان المكان يعج بالغرباء. صحيح أنا الجدة لكننا نختلف. هم الجيل الثالث ونحن جميعا نتساءل من تكون هذه السيدة؟ نجتمع حول المائدة إلا اننا اطياف من كائنات يغطيها الضباب. إننا نتأرجح ما بين النفور والألفة فنسلك سلوكا متعرجا وذلك لكي نرجىء الصدمة إلى أطول وقت مستطاع منا جميعا. كنت احتار كيف سألتقي بهم ؟ الوالدة اللطيفة أنا أولا التي لن تتشبث أن تكون محبوبة وانما مفهومة وواضحة. اما الجدة التي حضرت ولا تريد ان تكون في المركز فهي تفضل الطرف، الهامش الأبعد إذا امكن ذلك. ليون هل يصلح ان اضع بين يديه حياتي وبيتي في الأعظمية واسحب البكرة فيبدأ الفيلم ؟ هل بمقدوره السفر إلى بغداد وتقليب تربة الجنينة كأي بستاني مبتدىء. كم خطوة علي القيام بها لكي لا أخاف من تسديد الثمن؟ ثمن الجزع وأنا ادري فيما إذا وضعت بين يديه؛ البيت، بيتي هناك وكأنني سأدعه في حالة احتضار كما أنا، ومازلت؟
3
لا أحد سيفتح له الباب هناك، فالجيران انقلبوا على البطانة ثم غادروا. العمة فريدة غادرت اليابسة والماء سويا وكل مشاق الطريق سوف تدعه يرى ما لا يخطر على البال. لكن لغته العربية صفر، والفرنسية صداحة والانكليزية ممتازة وما بينهما كان سلك الحديد الموضوع في فكه العلوي من أجل تقويم اسنانه كما فعلنا بالضبط مع والده حين كان اصغر قليلا. هل الاعوجاج في أشياء كثيرة يُورث ؟ فبدت لي لهجته ولغته غير مفهومة حتى بالنسبة لوالديه. هو يأكل بعض الحروف ويبلع بعض التفاصيل. هو يكتفي بالايماءة بدلا من التصريح التام فأعيد عليه السؤال بصورة مواربة فلا يبخل علي بالاجابة المقتضبة. هو الاقتضاب بالضبط. أظن ان حفيديً سويا يتآلفان من هامش من حرية اللاحوار فلديهم ملحق يمتد على مسافة واسعة جدا من الصمت واللاكلام. فكرت ان هناك مستودعات من هذا العتاد من الخرس ما يجعل المحادثة تتوارى . الجميع وأنا واحدة منهم أمام شاشة الحاسوب وكأننا نقتفي أثرا في رمال النت الكاسحة. كل تلك المواقع الافتراضية تفتح شهية الحفيد الصغير لفضول محتدم فاسمعه يتشاجر مع النت وهو يدعو زميله أو رفيقه بهذه اللعبة أو تلك فيتشاجران على خطوط المواصلات ومن يقف قبل الآخر ؟.
4
كل شيء ممكن روايته على ان نرويه ولوحدنا فلا ننتظر أية إشارة من هذا أو ذاك على الاستجابة أو الاستحسان أو .. أو . كل رواية نستطيع ان ندع اشخاصها يركضون حفاة القدمين ونحن وراءهم انقطعت أنفاسنا لكي نحاول انقاذ أحدهم حاول ان يغرق أو ينتحر مثلا. أنا كنت هكذا هناك وهذه نقطة ضعف أية رواية، ان نكون في مباراة أو منافسة، أو مجرد انتقام. ما هم الحفيد ليون العذب والصموت من حياتي والعراق، بيتي وحكاياتي، وقصصي. ما هم ان بقي هو وشقيقه كلاعبين بدون ادعاء أو توهم. آه، الكبير بعيد عني جدا، ناءٍ. يؤثر الموسيقى على النوم والطعام فهو يراها فضيلة. يؤلف اغان للراب مع زميله وهذه هي الحقائق لديه. أما أنا فطارئة في نهاية الأمر. حضرت ُفي غفلة من زمنه وسأعاود ذلك الرحيل والتشتت. يعزف على البيانو ويسجل فيه عزفه واسمعه وهو يحادث زميله ليلا ويغني فلا يفصلنا إلا حائط خفيف. ولكن هل صحيح يفصلنا مجرد جدار؟ أظن هو وشقيقه – الجني – غير موهوبان في الالتفات إلى وراء. تركا الحسرات لي وأخذا الضحك والظرف والدعابة والقهقهة لهما. لا أحد يناديني لكني وقبل هذا كنت ألبي النداء. هكذا، اردد دائما وأقول ذلك، لم يفت الأوان بعد، ودائما كان بمقدوري ان أبدا معهم أو مع غيرهم ومن الصفر. أبدأ أواصل واتعب.. تعبت ووهنت وثقلت حركتي وما زلت انتعل الحذاء الرياضي وأفحص هندامي، واعتني ببشرتي فأشعر ان ثقتي بالنفس وكأنها دخلت في تنزيلات لهذا الموسم.
حفيدان حقيقيان يتنفسان ويتشاجران برفق، ويلهوان لكنهما ينفصلان تماما. كلُ في صحوه ولهوه وسيره. كبرا دوني وأنا تقدمت إلى الأفول دونهما. وحين سيكونان في الشباب سأكون في مكان آخر. ياه، كم هما بعيدان، وكم كندا شاسعة إلى حد أنني شعرت أنها طريق في اتجاه واحد. حين اودعهما سيتم التجاهل التام. إننا لا نبصر إلا ذاك الذي بجوارنا، نراه ونسمع حفيف ثيابه وبحة صوته فيكون حضوره عذبا. هل ماتت تلك المرأة الأولى؟ أنا اليافعة قليلة الحيلة، شحيحة الملاحة. أنا الزوجة العاشقة والأم التي تريد ان تنتف ريشها بيدها الاثنتين ومن دون صراخ وألم. اجتزت الشابة والزوجة والأم والجدة. اجتزت جميع النساء في داخلي لكني لم أقدر على دفن أية واحدة منهن. كل واحدة ترفع رأسها تريد بقية من ربع دور، فضلة من كومبارس حتى لو لم تظهر إلا من القفا. النساء في داخلي لا يشبعن قط. شراهتهن لا تتوقف والممر هناك مازالت بضعة درجات تنتظرني وما علي إلا قطعها حتى تٌقطع حبال الارجوحة المترججة أصلا. هل التقدم بالسن يوصل إلى سن الرشد الحقيقي؟ هل وصول الحفيد إلى حضن الجدة أو بين ذراعيها هو اكتمال الرشاد؟ آه، أحببتهما كثيرا، قطعا ليس أكثر من والدهما. لا آلة تضبط قياس شغف الآباء والأمهات بالأبناء، أما الاحفاد فأظن هو، هما، هم انتظام خفقات القلب.
لست لهم ولا معهم. محكومة بولدي وبالتالي بهما سويا. بدأ عمري وأنا احضنهما طويلا جدا لكنه قصير أيضا فقد لا التقي بهما ثانية.
الخميس 28 صفر 1434 هـ – 10 يناير 2013م – العدد 16271