عالية ممدوح
1 –
أحب فريق البرازيل، ايطاليا، اسبانيا، فرنسا، الارجنتين والسويد … و أحب وضع القدم العربية على حافة المونديال . الحافة تدعنا نرى العالم الدنيوي كأنه، ليس عالمنا، وهذا ما يجعل خسارتنا محتملة وربما، مؤكدة وسخطنا على حالنا غير محتمل .
اننا نشاهد تدريبات الفرقاء ونشعر، كما لو انها حرب حقيقية . فأصول اللعبة لا تتم مسبقا، ذلك ان البطل، ليس حرا قط، انه تحت انظارنا . كل شيء يتم أمامنا ؛ الجزع والاحتقان، العصابية وانتظار الحصول على هدف .
كلما أشاهد الفريق البرازيلي أردد ؛ علينا ان نكتب مثلما يرقص هذا الفريق . علينا ان نتدرب لحظويا كما يتدرب الرياضيون، ومع هذا نحن لا نشعر بالفريق انه تدرب طوال الشهور الا أثناء المباراة، حين يفرضون علينا وعلى ذلك النحو، الحركات الصاعقة للأقدام، وبفضل ذلك التواطؤ الخفي بين الفريق يتم الاتفاق فيما بيننا وبينهم للحصول على الهدف الأول والثاني الخ …
2 –
الكاتب الايطالي أمبرتو ايكو كتب نصوصا فاتنة عن كرة القدم . هو يقول ضدها ، لكن وأنت تقرأها تشعر انه يضحك على القارىء . هو كاتب تفوح منه رائحة كرة القدم الايطالية . العرق الذي يتصبب من اللاعبين والانذارات التي يتوقعها أو يتلقاها فعلا . راقبت طوال هذه الفترة جميع كتاب الاعمدة والافتتاحيات، أصحاب الرأى وحتى الدراسات الطويلة، الذين اشغف بنصوصهم والذين لا، الاغلبية مروا بالملاعب، قالوا حبهم للكرة كقاعدة عامة، كذكور . لعبوا في إحدى السنين، ثرثروا مع الشبكة واطاشوا الكرة على زجاج الجيران كما كان يفعل أبني ببيتنا وباقي بيوت الجيران . معظم من قرأت لهم من كتاب الأعمدة كانوا ممسوسين بالكرة، بهذا الجنون الحاصل في كل شيء، بالفريق الفلاني الذي يخافون عليه ان ينحل في وعيهم ويتحول إلى كابوس فجأة إذا ما خسر . الخسارة بها دبق ولزوجة ومرارة ورائحة حريفة لا تطلع ولا تشطف بجميع المياه المعدنية والعذبة أيضا . أحد الكتاب مهووس مثلي بالفريق البرازيلي، ربما شأن جميع العرب، أراد، أو صمم أو قرر التضامن والتشجيع التام للفرق الافريقية فالاهل لا زالوا هناك، لكن، بعد قليل من بدء المباراة لفريقه استقال عن ذلك الوعد .
3 –
حين فازت الارجنتين في منتصف الثمانيات، لا أذكر العام، كنا في بريطانيا، في مدينة برايتون البحرية . وكانت المباراة أمامنا وذاك الابليس الجهنمي ماردونا في الملعب، كلا، في منتصفه وبين ساقيه كرة . أظن، أنه تملص في تلك الثواني من أية ذاكرة جماعية أو فردية، انه التقط في رأيي، ليس ذلك الجميل في الكرة، سحرها الخفي ومطاطيتها وقانونها العبثي، انه، للامانة كان يربي الجمال قبل ان يفسد . أزعم أنني لن أبصر بعد علاقة بين محبوبة ومحبوب كما شاهدتها في تلك المباراة . ما كان ماردونا ينظر إلى أي شيء من حوله ولا أحد من حوله كان يصدق ما يجري أيضا، ففتحوا له الطريق، هكذا حسب المشيئة الالهية، وحسب تلك الرائحة الحيوانية التي كانت تفوح من لحم ماردونا المطبطب .عودوا إلى تلك اللقطة وشاهدوها، ان باقي اللاعبين كانوا في حالة من الانخطاف . أنا قلت، اجلال . نحن صورنا تلك المباراة، عمليا أبني فعل ذلك . كان يافعا ومرتبطا بالكرة منذ كنا ببغداد وكان يشغل مركز حارس مرمى، دخلت في شباكه جميع كرات الأرض .لم أفهم إلى اليوم مامعنى أن يلعب الفريق على قاعدة 2، 4، 5، أو على هذه الشاكلة، شيء لا يفسر وكلما يفسره لي أبني أزداد ارباكا الا انني كنت أشعر مثلهم، نحن سويا معرضون للخطر . لماذا، أيضا لا أدري .
4 –
في إحدى السنين كتبت عن الفريق العراقي حين فاز على الفريق الايراني . صاحب الجريدة وضع مقالتي افتتاحية . لم أخدع نفسي اليوم ولا في تلك الأيام، ان في أية مباراة في العالم إصطفاء للسياسة . بالمعنى الاجرائي ان هناك خصما وعليّ إرباكه بلا شفقة . لا أظن ان أحدنا يتوقع ان يكون لاعب الفريق الاسباني مثلا شديد التهذيب أمام اللاعب الفرنسي . ان التهذيب هنا في تلك الساحة وأمام الملايين يشوش أكثر من الجلافة المتوقعة . حين فاز الفريق العراقي على الايراني أتذكر اليوم أنني قفزت إلى أعلى، أعلى كثيرا، وبما ان لدي مرض الديسك المزمن فقد بقيت في مكاني، على الأرض فترة ثلاثةأشهر لا أقوى على الحركة . كان ذلك قبل الحرب العراقية الايرانية الغبية والعبثية والمجنونة . لكن الفريق العراقي حاول اللعب ودون تجنب سوء التفاهم . لقد حضر ابن الشاه وقتذاك وكانت من المرات النادرة للغاية تلك الزيارة . كل شيء يعلق بحجر السياسة، ويخيل إليّ أن غصتنا بعدم وصول أي فريق عربي، أفريقي أو اسلامي هي غصة سياسية وليست كروية فقط .
5 –
صديقنا الرسام العراقي هيمت من طول وعرض الاحتفاء بالمباراة وببعض الفرق بالطبع دق عليه أحد الجيران الباب وطلب منه تخفيض صوته وعياطه وضربات كفه على الادوات الموجودة بالشقة أو أو .. يبدو نحن نقوم وحدنا أو مع أصحابنا بعروض مسرحية لا نعلم تماما أنها عروض حقيقية لا اصطناعية، واننا نريد إقناع أنفسنا، ها ان لدينا ما نخوض فيه على سبيل المثال : تكنيك الالمان المسلح أم رقص الفراشات البرازيلي . لكنهم يلعبون، كلهم يلعبون ونحن معهم . في اللعب لا حلول فردية، نعم الهدف يسدده أحدهم ولكن أثثه له هذا أو ذاك . كما في الكتابة، يعتقد البعض أننا وحدنا نكتب وهذا غير دقيق اننا مكتظون بالآخرين ونعاني منهم دائما الموتى قبل الاحياء . يستغرب اصحابي حين أقول لهم، لا، إنني لا أقدر على الملاقاة فانا أنتظر المباراة الفلانية . يحدث دائما لي، ان اشرّع النافذة وانتظر هبوب النسيم من الفراغ، من اللاشيء .من اللعب الذي اتمنى ان اجيده حسب الاصول المرعية . يحدث للكاتبة ان تخطىء الهدف تسقّط الكرة فوق نقطة آهلة بالسكان العزيزين فيصابون منها ولا تصيب هي . يحدث للمؤلف البحث عن أعذار، لنفسه، لأصدقائه، لموتاه ولبلده قبل الجميع . نقول، انه لم يتعمد الايذاء، ايذاء أي أحد قط لا عن قصد حتى لو تأخرت صافرة الحكم لكي تعلن عن الوقت الإضافي للبدء من جديد . يحصل ذلك وأنا لا أذكر من أخبرني ، أن الشاعر العراقي وليد جمعة مصاب بالسل وهو يعيش في دار للعجزة، وهذا غير صحيح . هو شفي من المرض ولا يعيش هناك، حسنا، فماذا سأفعل؟ من يلتمس لي العذر ولا يتهمني بشطط ما؟ فأنا لا اعرف عنه أي شيء الا من الغير . يحصل أن نرى الغالب أقل حضوراً من المغلوب فالأول أنفجر عاليا، شع ثم خمد . والثاني في أغلب الاحيان، هكذا أشعر، ان الاخطاء تطهره فيفوح عبق أول الآمال وهو في ذروة اليأس .
أغادر غدا إلى برلين . قال لي فاروق، يعقل ان تكوني ذاهبة لحضور المباراة الختامية . الآن أجيبه، منذ سته شهور حجزت بطاقتي ومنذ قرن، هكذا، أبالغ دائما وأنا أريد أن ألبي دعوة صديقتي الروائية والكاتبة العراقية اقبال القزويني في برلين . يعقل بالطبع ان نذهب إلى الساحة العامة لنحضر يوم الختام . هي، ربما تريد انتصار المانيا كجزء من رد الجميل للبلد المضياف الذي استضافها أكثر من ربع قرن، وأنا سوف أدمدم أمامها أذا ما وصلت المانيا إلى الاخير وأمام الحشد وتحت نظر الالمان، أنني ما حضرت إلى برلين الا من أجل الجمال .
الخميس 10 جمادى الآخرة 1427هـ – 6 يوليو 2006م – العدد 13891
https://www.alriyadh.com/168964