أجدُ أنه من الخِفَّة الفادحة أن ينساق قارىء رواية عالية ممدوح الأخيرة التشهي (دار الآداب، بيروت، 2007) لغواية الاسم ابتداءً، وللفيض المتبدي في مفردات الجسد ومشاهد الجنس،
لينتهي إلى القول بالمبتدأ المقروء سَلَفاً: إنَّ تواري ذَكَر الشخصيّة الرئيسة للرواية (سرمد) واختفاءه إنما يعني موت الذكورة وانكفاء دورها الطبيعي والمطلوب. هذا مَجازٌ مُباح يمكن قراءته
من دون عناء، ويسهل استنتاجه من غير عُسر، والكتابة فيه وعنه أشبه بالشرح لما ليس بحاجة لأي شرح. فهل هذا ما انخرطت عالية ممدوح في معالجته، حقاً، على امتداد ثلاث سنوات (
تفكراً وكتابةً)، وبملئها لمائتين وسبعين صفحة لتُشهِدَ قُرّاءها على أنَّ عطالة الفحولة ترمزُ إلى هزيمة الفعل الإيجابي.
وأنَّ المرضَ الأخير ل سرمد على الورق، مقتحم الفروج وفاتح النساء وفارس المَخادع، دلالة على نضوب الحياة في نظامٍ سياسي، كان يقف على الأرض، هو آيلٌ للسقوط في قبضة الشُّقْر
(بحسب تعبير ألف ) بالإشارة إلى الغزو الأميركي للعراق واحتلاله؟
من جهتي؛ لستُ أرى في هذا المستوى من التفسير ما يليقُ بكاتبة حاذقة، وذكيّة، وعميقة التأمُل، وطويلة التجربة كعالية ممدوح. لذلك؛ لا أرى أنَّ هذا ما شَكَّلَ ركيزة وبؤرة الهَمّ والاهتمام لدى
عالية ممدوح حين تنكبت عناء رواية كهذه.
***
في كل روايةٍ تُكْتَب ثمة مستويات من الدلالات تتوارى تحت القشرة البائنة. ثمة ذاك البَذَخ الكبير، الخبيء، المتحايل، المتخايل، والذي يتطلب جهداً في القراءة يتوازى مع جُهد الكتابة
المبذول، وإلاّ انقطعَ حَبْلُ التواصل، وباتَ القارىءُ في جهة والرواية في جهة أُخرى.
وإني، في هذه الملاحظة، لا أشير إلى ما هو اساسٌ في طبيعة العلاقة بين الرواية وقارئها المتمثل في فضاء التأويل – إذ أراه من لزومات الشراكة المفترَضَة بينهما والمؤدية إلى الصياغات
المتعددة للنصّ الواحد بتعدد القراءات -؛ بل أعني بانقطاع حبل التواصل: غُربة المكتوب ولغته المغايرة حين الالتقاء بذائقة ومخيلة تختلفان، إذ تفتقدان شيفرة الايحاء والتلميح الضرورية
لاجتراح صيغة تفاهُم تَلِدُ النِّديّة التي من دونها يتحول طرفا العملية إلى محاوريَن فاقدين للّغة المشتركة: يتحول الحوارُ نفسه إلى التباسٍ وإرباك!
***
آخذاً في الحسبان شموليّة المعطى العام لرواية التشهي ، والاتفاق على ما هو مشترَك لدى جميع القُرّاء/القراءات؛ إلاّ أنَّ ما يلفتني في الحقيقة، داخل النصوص، إنما الإشارات المبثوثة كأنما
هي شيفرات تتطلب التأمُل، تكون غالباً مُدرَجة ضمن منطق الهامش – لكنها مستقرة داخل المتن وانسياقاته. كما أجدُ في تلك الإشارات ما يعززُ اللحمَ النابض في الشخصيات بما يفردها
وحيدةً من جهة، وبما يؤنسنُ ملامحها في الوقت نفسه.
ثمة العَبَث بلا نهاية وبلا وصول رغم طوفان الجنس الذي يعوم فوقه سرمد ، فيصيرُ له أن يتوقَ إلى البكاء: لكي أشعر بشيء من اللذة والتلذذ. أشتهي إيجاز نفسي وسط الدموع الخفيّة وفوق
ذلك ألاّ أقول لأحد؛ صرتُ كريهاً (ص 167). لذةُ الجنس إذَن لا تكفي وحدها لأن يكون الواحد كائناً يكتمل، فيرمي إلى البكاء بدموع حقيقيّة عَلّها توصله إلى حقيقةٍ ما أُخرى، فيجدها في
واحد من تصريحات إحدى نسائه، كيتا ، حين تقول له: وأظنُ أنَّ ما نقومُ به وطوال وجودنا هو كيف نحاول الاقتراب من بعضنا بعضاً (ص 168)، غير أنَّ الاقترابَ من الآخر يستلزمُ
رغبةً تتعدى مشاركته الجسدَ والسرير؛ إذ: الجنسُ لا يُنقِذُ وهو مجرد فراغ، يدع اليد فارغة والجسد خاوياً (ص 171).
كيف يتوازنُ المرءُ مِنّا في عالمٍ يكونُ فيه الكذب جزء من الحقيقة؟ (ص 172)، فإذا كان ذلك كذلك، كيف ل سرمد أن يدرك إنْ كانت ماهيته تُحْسَب على الكذب أم على الحقيقة؟ فما دام
الكثير من الأشياء والموجودات والمدن والأماكن (ص 169) تماماً مثلما هو صاحبه (ذَكَره)، معرضاً للاختفاء وبحسبه؛ فإنَّ سؤالنا سيبقى معلقاً عَمّا سوف يختفي مِنّا حقاً: الجزء الكاذب، أم
الحقيقي؟ ثم يأتي جواب سرمد في واحدةٍ من موجات استطراداته الداخليّة: هل يعقل أن أقيسَ نفسي وذاتي وجوهري بمقدار وزني ولحومي، هل هذا عدل؟ لماذا لا يتم قياسي بوزن آلامي؟
(ص 176).
عبر مجموعة من الإشارات الشبيهة، تتجلّى أزمةُ الوجود بما هو أعمق من مجرد توازي اختفاء العضو الذكوري لسرمد تحت أكداس جسده باختفاء حيوية الكينونة واستمرارها لنظام البَلَد
السياسي، رغم إحاطة المناخات بحالات القمع، والسلطة الغاشمة، والفساد، والمعارضة المتهتكة المتهافتة… إلخ.
وعبر مجموعة من النساء العابرات في محطات حياة سرمد، داخل الوطن وخارجه، تتحوّل ملامحه لتؤكدَ نفسها تارةً ولتنفيها تارةً أُخرى. أهو داعِرٌ بفحولةٍ طائشة ضاربة ذات اليمين وذات
الشمال، أم هو مثقفٌ مترجمٌ كلّما زادَ من ثروة معارفه ازدادت الهوة بينه وبين قدرته على الإمساك بحقيقة الأشياء؟
ثمة الرمال المتحركة دائماً في نفس سرمد. فلا هو متيقن من شيء، ولا شيء منه يبقى على حاله، اللهم سوى التأرجح. فهو يقول بلغة التأكيد والجزم: الجمالُ والعدالةُ والحريّةُ هي يقينيات
متحركة جداً لسرمد برهان الدين (ص 208).
أي معادلة جهنميّة هذه!
ففي اللحظة التي يؤكدُ واحدةً من حقائق تفكيره، فإنه يُضَمِّنُ نفياً لاستقرارِ أي شيء.. بما في ذلك مفاهيم الجمال والعدالة والحريّة. نحن إذن مساحة مفتوحة على الشك: الشك حتّى بما نؤمنُ
أنه مُنْجَزٌ ويقينيّ. فماذا عنّا والحالةُ هذه؟
***
يمكنُ الكتابة، ضمن قراءات عِدة لرواية التشهي ، بأنها من النصوص المتعالقة بالعراق الاجتماعي – السيادي المنهار قبل الغزو والاحتلال؛ لا بل قبل العَسْف والسلطة القامعة. ففي أعماق
شخصية الإنسان العراقي ثمة سؤال بلا إجابة. أهو المريض العراقي؟ (ص 256)، لأنه وها أنا أعالَج من ازدواج القناع والهويّة، الفحولة وورطة المحفزات والمنشطات، الرأس العنيد
وسحايا التلَف الوطني (ص 223)،.. : أظنُ أنَّ لدى العراقي غُدداً قادرة على تخصيب الهلاك والخراب (ص 236)،.. : في بلدكَ يا سرمد الفتكُ والانتهاكُ مواد طبيعيّة، كأنها مسقط
الرؤوس جميعاً، وهي بالتالي لا تَفنى ولا تُستَحدَث من العدم فتفوز بجميع الأشواط (ص 236)؛ لماذا اللجوء، إذَن، لمركز العلاج؟: أعرفُ يا صديقي أنكَ حضرتَ إلى هذا المركز من أجل
المزيد من اليأس وليس العكس (ص 236).
من هنا يتساوى الأخ القامع مهند بأخيه المقموع من قِبله سرمد : والله لو مشيتَ جنب الحائط فسوف نهدمه فندعكَ عارياً، ها ما رأيكَ؟ (ص 217).. ولِمَ لا، وهو الذي سطا على حبيبته
ألف ، فساقها تحته سوقاً وعَهّرها تماماً. كما أنَّ مهند كما هو، كما دوّنتهُ بالضبط لا تناقض البتّة بينه وبين أبي مكسيم (ص 242).
أينما تلفَتَّ بوجهكَ ثمة الخراب والنَّخْر في أشياء العالم. الشخصيات جميعها آتية من ماضٍ يملكُ تاريخاً من الفشل الذاتي والخيبات الجماعيّة، وتمارسُ حياةً جديدةً هي أُخرى لكنها، يا للبؤس،
كأنها تقتصُّ من ذواتها ومن إرثها الرثّ!
أهو الانتحارُ الواعي؟
أهو الانسياقُ للقَدَر المرسوم لسلطةٍ ذهبت بعيداً في منطق المحافظة على وجودها، الممثلة بمهند: أنا، ربما، تصوّرتُ أنَّ الجريمةَ لمهند كانت فرصته الأخيرة (ص 244).
***
أختمُ الكتابةَ ولا أنتهي من تأمُل الرواية، وما تبثّه من ألغام المعاني:.
لكنَّ الحُبّ يدبّر لنا الموت. الحُبُّ لا يكفي بذاته كأنه من امتلائه الشديد يصيرُ لا شيء (ص 213).
سألني أبو العِزّ عن معنى هندس بالضبط، فأجبته: بالعراقيّة المحليّة تعني الظلام الدامس (ص 237).
* روائي أردني