“التانكي” لعالية ممدوح .. وسط دهاء الموت لم يعد الأبطال يتوافدون! – كتبت بديعة زيدان:

في روايتها الجديدة “التانكي”، الصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، تنحو الروائية العراقية عالية ممدوح نحو سرد مختلف، قد يتخذ شكل المكعب الذي قال عنه “معاذ الألوسي”
للشخصية المحورية “عفاف أيوب” بأن سنصممه “معاً وندعو من نغرم بهم إليه”، وهو الشكل الذي كان بالنسبة للروائية جنساً معمارياً “يصلح روائياً لتعدد الأجناس في الرواية ما بين
السينما والمسرح وكتابة الخطابات وتعدد الرواة”، لذا اختارته ليكون أيضاً “مصباحاً ككاتبه يضيء وجوه من نغرم بهم، أو من بقي لنا ممن نحبهم في تلك البلاد، مأوى سرياً في تشكيله
الهندسي”، على حد تعبيرها.
وعبر عفاف وأسرتها “أيوب آل” التي تتمدد حكاياتها وسع الزمان والأمكنة، يحضر العراق وطن الآلام الممتدة الباقي على أمل استرجاع جماليات “التانكي”، شارع النخبة في عراق الفن
بطبقاته المتعددة، لاسيما المعمار، الذي انعكس على معمار الرواية التي شكلت فصولها السبعة طوابقها، متأرجحة ما بين طموحات يسار السبعينيات البغدادي إلى وجع احتلال القوات
الأميركية وما خلفه من مآس منذ تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا.
“والتانكي” في اللهجة الدارجة العراقية هو خزان المياه الذي قد يكون خزاناً للذاكرة بما تحويه من صفاء الماء وزرقته، وبما يضمه من بكتيريا وفطريات وحتى ديدان متوحشة، بحيث يبقى
العنوان مفتوحاً على الدلالات المتعددة لما يحويه خزان عالية ممدوح، وخزان “عفاف”، وخزان الشارع الذي حمل اسم الرواية، وخزان العراق عامة، وهو ما عبّر عنه تصميم الغلاف لناشر
الرواية الشاعر والفنان الفلسطيني خالد الناصري، حيث تهبط “مواسير” المياه من الأعلى في تشابك غرائبي باتجاه صنابير متعددة، يقذف آخرها أحذية نسائية ورجالية متعددة الأشكال
والتصاميم التي توحي بتعدد لابسيها وأزمنة وأمكنة ارتدائهم لهذه الأحذية التي قد تكون لعابرة أو عابر لـ”التانكي” الشارع والحي، أو للزمن العراقي في الوطن الذبيح على مرّ العقود، أو في
المنافي حتى.
وكما وصفها الروائي والشاعر المغربي محمد الأشعري بأنها “من أجمل وأعمق ما كُتب في أدبنا العربي الحديث عن بتر الأمكنة منّا، أو بترنا منها، حتى يصبح الوطن يمشي وحيداً، ونحن
نمشي وحيدين بعيداً عنه”، فإن الرواية تندرج بشكل أو بآخر في إطار ما اصطلح على تسميته بـ”أدب المنفى”، عبر رحيل “عفاف” الشابة الممتلئة بالحرية أو التوق إليها، كما الفن
والحيوية، إلى باريس، بحثاً عن حاضر وغد ربما يكونان أفضل هناك، بعيداً عن انتكاسات الوطن التي حفرت ندوبها عميقاً داخلها، لكنها، ومع الوقت تبقى أسيرة الحنين للمكان الأم، رغم
اعتلالها النفسي الذي يدفعها للجوء إلى الطبيب كارل فالينو، الذي من خلاله تنصب الروائية محاكمة للغرب بالأساس، وللشرق على الهامش، عبر حكايات هذه الشابة والمحيطين بها من
أصدقاء وأقارب، وخاصة أفراد العائلة الذين تعرّف الروائية بهم عبر صورة كانوا يتأهبون لالتقاطها في الأسطر الأولى..
“كما في صور الألبومات العتيقة، فكّرنا جميعاً: نحن الموقعين أدناه، عائلة أيوب آل الذين سيظهرون بالتدريج معنا، بجوارنا، بعدنا بقليل، أمامنا، أو أبعد قليلاً. من المفيد أن ندع الوالدة مكيّة
جالسة على كرسي، فهي غير قادرة على الوقوف طويلاً حتى لو أن الأمر لأجل التقاط صورة. بجوارها الخالة فتحية، بعدها الخالة الأصغر سنية. الوالدة بيبي فاطم مكانها غير موجود بيننا،
بقيت في الطابق الأعلى. حسناً، من المفضل ولأجل الهيبة أن نقف وراءهم، نحن الرجال. أنا الوالد أيوب، وبجواري أخي مختار. هنا يستحسن أن نترك مكاناً لهلال، ولدنا البكر، ولها، ابنتنا
عفاف، التي أوكلنا شؤون قضيتها إلى الأستاذ صميم. هيا، يا أخي، خذ عنّي المهمة، ودعني أعُد إلى مكاني في الألبوم”.
الرواية اعتمدت على كتاب لصديق الروائي، المعماري معاذ الألوسي ومكعبه الذي بداخله، لتسكن شخصياتها فيه، وكأنه “سفينة الطوفان، نغلقه على ما تبقى من خراب المدينة، ونُبحر على
متنه طلباً للنجاة منه، ومن أنفسنا”، وفق الأشعري، أو كما وصفته صاحبة الرواية “هو سفينة إنقاذ لما بقي من روح العراق، لمن تبقى من فنانين، ومطربين، وصعاليك، وسكارى، وأدباء،
وعشاق، ومغرمين. هو مدينة تحمل كل حقائق الكون، وكأنه منبع الأحلام للشخوص لا أوهامها”، فبقي “المكعب في الرواية محروساً لكنه غير مسكون كما العراق الذي هُجّر من أشياء
كثيرة”.
ويحضر الألوسي في “التانكي” وغيره من شخصيات شكلت وتشكلت بالواقع العراقي ذات يوم، جنباً إلى جنب عائلة “أيوب”، ومن رافق عفاف في بغداد وباريس .. الألوسي الذي قال “…
كان المكعب بدأ يتحول إلى ورم حقيقي في رأسي ووجودي. نعم، له وجود يحفر في داخلي، فهو قصتي التي أقدمها أنا إليك، فكل واحد منّا له اسم وقصة ومكعب، لا يتلعثم وهو يردده أمام
نفسه، ولا يذكره بحماسة عتيقة. وها أنا أفصح عن اسمي الحقيقي، يا دكتور: أنا المكعب معاذ الألوسي. أظن عفاف شعرتْ بذلك، وكنتُ أريدها أن تخمّن أو تتخيل أن ذلك البناء في طور
التأسيس، له وجه وأنف وعينان وأسنان ووجدان وخيال وغريزة وهذيان ومحظورات ورغبات بالغة الصعوبة”، وهو هنا الإنسان أو الوطن أو حتى الكون برمته تبعاً لتأويلات القارئ.
ويحظى الاحتلال الأميركي كفعل مفصلي في تاريخ العراق بحضور قديم جديد يبدو مستمراً، وهو ما عبّرت عنه الروائية بذكاء عبر الربط ما بين تلك الفترة حيث الآباء اليسوعيون
و”الفاذرية” في عراق نهاية ستينيات القرن الماضي، وما بين الاحتلال الأميركي لبلادها وسقوط بغداد في العام 2003، وهو الذي تجد فيه فعلاً مستمراً إلى يومنا هذا، فالاحتلال الذي ”
دخل ولم يخرج”، له “صور كثيرة، حيث ذهبت آليات وبقيت شخصيات أو آليات بشرية”. وتعبّر مشاهد الرواية عن ذلك، وهنا أنقل واحداً حول انتهاء “حكم الفاذرية”، إن جاز التعبير،
والثاني عن احتلال العام 2003.
“… أذكر بعد ذلك ما حصل في صيف العام 1968. اقتضى الحال تغطية رؤوس أولئك الفاذرية اليسوعيين بغية إهانتهم. بدأت التظاهرات تتوافد إلى كلية بغداد، تطالب بتعريقها
وطرد الآباء، ما سبب بعض الإرباك للطلبة وأولياء أمورهم حول مستقبل تلك المدرسة العريقة. في نهاية العام الدراسي وفي صيف 1969 صدر قرار بتعريق الكلية، وتم طرد الأساتذة
الأميركان، والذين سبق أن دفن أربعة منهم داخل حدائقها، ما سبب صدمة لهم، قابلها العديد بالبكاء، ثم الرحيل إلى بيروت”.
“… بقيتُ أرى كل شيء كالبرك الموحلة هناك قربي، ولم تغادرني، لكني أنا غادرتها نهائياً، حتى وصل المارينز. حفظتُ صوراً كثيرة، ومزقتُ كلاماً به بلاغة تافهة، ونسيتُ كلاماً
جديراً بالنقل فعلاً، إلا تلك الواقعة التي نقلت فيها لقطة واحدة، ولم تتكرر قط: “نشرت في فيلم يصور ما يشبه معركة، تضم كائنات بشرية. جنّ جنون المراقبين العسكريين الأميركان عندما
سمح أحد القادة الميدانيين للمراسلين بمشاهدة فيديو رشاش إحدى طائرات الأباتشي، وقد سُجّل سراً في إحدى القرى العراقية، وكان على ما أذكر في نهاية 2003. وبدا في الشريط
مراهقون، كانوا بعمري يوم تركتُ البلد، وهم يهربون في كل الاتجاهات وقد استبدّ بهم الرعب، فيما تشطر رصاصات الهيليكوبتر، التي لا يمكنهم رؤيتها، كل جسد من أجسادهم نصفين”.
وتتردد كلمة “تفاهة” بكثرة على لسان “عفاف” وغيرها من شخصيات “التانكي”، وكأنها لازمة تعكس حال واقع الوطن وأبنائه الصابرين فيه، ويرمز إليهم بـ”أيوب”، الذي “اختطف
واختفى”، وكأن الصبر اختفى، أو خفت صوته أو حتى تلاشى لدرجة الخرس، كما أنها لازمة تعكس حال من يسكنهم الوطن في المنافي، حيث “التفاهة” سيّدة الموقف في مواجهة الحنين،
وحيث في العراق المسكن، أو العراقيون المسكونون فيه، هناك من يحتاج “إلى أمر آخر بجانب التبول الليلي”، حيث “كان الهوان يتجمّع ويتكاثر ويلتئم في اليقظة (…) كانوا يسمّونه تدمير
العراق، قالوا محوه، لكي لا يهتدي إليه أحد من أبنائه، ويراه العميان”.
وفي رحلة “التانكي”، ثمة “كائنات حمقى بالضرورة، لدرجة أنه سيكون المرء مجنوناً، لو لم يكن مجنوناً”، في تقديم فضلته ممدوح أن يكون بلسان باسكال، فوسط “دهاء الموت”، لم يعد ”
الأبطال يتوافدون”، بينما تزكم رائحة “البول العراقي” أنوف “ضيوف الشرف” و”فريق العمل” و”النحّات يونس الهادي” و”الآنسات الطروبات” و”مشغل الثورات” و”خفيف الروح”
و”الأستاذ صميم مجهول النسب”، في البحث عن “ابتكارات خصوصية” تذهب بهم إلى حيث “طبوغرافيا الأسى”، على وقع “أناشيد المشّائين”، وكأن لسان حالهم يعلو بأن “أهو دي اللي
صار”!

http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=13996b3cy328821564Y13996b3c