لا يبدو أن جان بول سارتر كان على خطأ حين أطلق في مسرحية “لا مَخرَج” جملةَ: “الآخرون هم الجحيم”؛ فرواية “التانكي” للروائية العراقية عالية ممدوح لا تتحدّث عن غيابٍ
أو جريمةٍ فيها قاتل موصوف ويتمّ التحقيق للعثور عليه وتجْلية دوافعه، وإنّما هو بالتشابك مع حامل الرواية (المكعّب) كما سيتجلّى، تغييبٌ أو قتلٌ جماعيّ تشترك فيه جميع الشخصيات التي
تتحدّث عن غياب بطلة الرواية: “عفاف أيوب آل” التي
حاولت بطهرانيةٍ وبساطةٍ أن تخرج من ذاتٍ علِقَ بها الآخرون إلى ذات مستقلّة بذاتها. كما يشترك في هذا التغييب مجتمع بغداد الذي تكوّن على الصورة التي تعرضها الرواية “زمكانياً”
من الاستقلال ودخول التبشير الأمريكي مع الآباء اليسوعيين “الفاذرية القدماء” إلى ديكتاتورية البعث وستالينية الشيوعيين العراقيين، إلى الغزو الأمريكي لبغداد مع الميليشيات الطائفية
التي ساعدته في تدميرها على الصورة المروّعة التي لم تُعِد العراق إلى القرن التاسع عشر كما خطط الغزو فحسب، وإنما إلى عصور الذبح الطائفي الممتد بجذوره في القدم:
“كان موضوعها الأول، ليس ياسين فقط، كانت الماركسية والشيوعية وما لفّ لفّهما، فوضعتْ ذلك في تخطيطات من الوثائق الفنية، ربّما أكثر من الشعارات التي تُرفع في بلدها. عفاف
جعلتني وبدون مبالغة، أيها السادة والأصدقاء، وقبل صياغة تقاريري الطبية والعلاجية أن أذهب إلى بلدها وبلدكم، فأرى: أن ياسين كان أول سوطٍ ضُربت به في كل مكانٍ من الجسد والقلب،
تماماً، ربما من هناك استلهمتْ تلك اللازمة: تفاهة في مقابل ياسين، الفتى العشريني الشيوعي الذي سخر منها، وسفّه موهبتها، ومزّق ما كانت تترك من تخطيطات موزعة في أرجاء غرفته
إلى نتف تتطاير بوجهها ما إن تعود في اليوم التالي، لترى آثار ذلك، فقالت كلمةً بليغة في إحدى الجلسات العادية، وكانت لم تزل في حالة جيدةٍ حقاً: ترى دكتور، أية هاويةٍ نجوتُ منها؟
ياسين، وأي عنادٍ حظيت به فعلاً، وأنا أقوم باسترداد نفسي.”
في إبداع روايتها العميقة المتراكبة المبدعة حقاً، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، “البوكر” 2020؛ لا تخرج ممدوح بتشكيل بنية روايتها الظاهرة من
سبعة فصول، عن مبدأ تصميم روح روايتها على المكعّب الذي يُمثّل الكمال بوجوهه الستة، وإنما على العكس من ذلك، تقوم في إتمام مكعبها بفتح الفصل السابع على الأول بذات العنوان:
“كلاكيت” مع إتباعه بجملة “أول مرة” في الفصل الأول، و”آخر مرة” في الفصل السابع، لتفتح ختام الرواية على بدايتها.
وفي شغفها بهذا التصميم التكعيبي تقوم ممدوح بتحطيم أشكال وأرواح الشخصيات مثل مرايا تعكس تعدّد الوجوه وتشظّي الأرواح في تكسّرها، مع تحطيم أشكال السّرد المعتادة كما تفعل
التكعيبية في لوحةٍ لبيكاسو، أو في فصل من فصول رواية ريلكه. وهي تنقل السّرد من صيغة الغائب والمتكلّم إلى منظومة سردٍ متراكب تشترك فيه شخصيات الرواية الرئيسية التي تقوم
بالسّرد وفق دورها في سياقٍ اتفقت عليه لخلق مخطوطةٍ لا تكشف غياب بطلة الرواية ومآل مصيرها فحسب، وإنما أيضاً تكشف للشخصيات أنفسَها المركّبة وأدوارَها في التغييب وردود
أفعالها التي لا تخلوا من الأسى والحيرة والندم على اللحظات التي كان بمقدورها إيقافها لتغيير ما يجري، ولكن هيهات لها ذلك وفقَ ما ركّبها وداخَلَ علاقاتها من تعقيد في تلك اللحظات.
وفي منظومة هذا السّرد المتراكب لا تقوم الشخصية بتوجيه رسالتها من العراق حيث تعيش إلى طبيب عفاف النفسي الدكتور كارل فالينو الذي يسكن في باريس حيث عاشت عفاف
واختفت، وإنما تخاطب نفسها كذلك وتورِد خطاب الشخصيات التي تتحاور معها مستخدمةً كلّ ما يلزم من صيغ الخطاب لتجلية الذات في تعدد وجوهها، كما تصرح بذلك الكاتبة في خطاب
هلال شقيق عفاف المختفي كذلك:
“كان عمري من عمر خالي سامي عندما حصل القدر الغاشم. ها أنت ترى، وأنا أقوم، وبعد تلك السنين كلّها، وأمامك وأقف مثل المحقّقين، فنعيد هذا الشخص إلى منزله في شارع التانكي،
حيث هناك الوالدان والخالات والأخت، وهناك بيبي فاطم التي يقيم لها المقالب، فيجري وراءه العم مختار، ويفرّ منه ذاهباً إلى الشطّ.. نعم دكتور، أتحدّث باسم هلال كقرين، ولو لفترة
قصيرة، كما في السينما، وهذه الفصول تتداخل فيها اللقطات القريبة والبعيدة كأننا موتى، فمرة يتحوّل هلال لضمير الغائب، فهو غائب عن الجميع، ويعيش في بريطانيا، وطوراً يعود عبر
الأوراق من أجل عفاف وسامي، ومن أجلي أنا أيضاً.. فلندعه في ضمير الغائب ولو لدقائق، ونشرح العلاقة بينه وبين خالته سنية”.
ولا تنسى ممدوح إدخال نفسها كسارد عليم غير منظور في خطاب عفاف يتكلّم عنها خلال كلامها عن نفسها وعن حبيبها الناقد الفني الفرنسي كيوم فيليب، الذي ليس له دور في الخطاب إلا
من خلال عفاف. وربّما قصدت الروائية ذلك لما تمثله هذه الشخصية المستقلة كذات معبرة عن الشخصية الغربية المفردة النقيض للذات الشرقية التي يتشاركها الآخرون.
كما لا تنسى ممدوح أن تجعل الحياة تنبض في شخصياتها، ليس في الروائح التي تلتصق بها من مؤثرات حياتها، ولا في حركاتها وتصوير رغائبها ومخاوفها فحسب، وإنما كذلك في لغتها،
حيث تستخدم اللهجة البغدادية ضمن سرد الفصحى في سرد بعض الشخصيات، بما يتطلب ذلك، وفرد مفردات خاصة بالتركيبة النفسية العراقية لشرحها على لسان الشخصية، بما يكشف
دواخل هذه الشخصية، مثل مفردة “فرخ” المعبّرة عن المثلية في شكلها العراقي، ومفردة “بقجة” التي يضعها مصمم المكعب معاذ الألوسي في مركز مكعّبه لتعبيرها عما تجمع “
البقجة” من لوازم الذات. وفي كل ذلك تجري لغة السّرد متدفقةً أخاذةً وشاعرية بما يتطلب، عند فيض الحب بخاصة، وتصل حدّ الهذيان عندما يتطلب انفجار النفس بمكنوناتها التي وصل
تراكمها حد الانفجار.
في إبداع روايتها تضع ممدوح “المكعب” محوراً فنياً ومعنوياً لروايتها، ففي شكله الحكائي البسيط هو تصميم وضعه أستاذ عفاف في كلية الهندسة المعمارية كبيت للجمال يُبنى بكل أشكال
ومواد الجمال الطبيعي المتقشف، ليستقبل من يعيشون الجمال كتغيير لواقع البشاعة الذي تعيشه بغداد في نهاية سبعينات القرن الماضي. وما يلبث هذا التصميم أن يمتدّ مع جريان الرواية
ليشمل تصميمها ومنظومة سردها وشخصياتها كتحطيم للصورة الظاهرة كما تفعل التكعيبية في الفن، من أجل إجلاء الحقيقة الكامنة وراء المخفي. ولا يبدو عبثاً ورود اسم بيكاسو في
الرواية، كما لا يبدو عبثاً إيراد تفصيلات محاولة الرسامة عفاف خلال دراستها في “البوزار” ولوحاتها محو الملامح من وجوه شخصياتها التي ترسمها، لتجلية حقيقة ذاتها وغسيل
الآخرين منها. مثلما لا يبدو عبثاً إيراد اسم آينشتاين في تجلية ممدوح لمدينة بغداد كمكان متغير مع زمن ومع بشر غير ثابتين، وما لهذا من علاقة غير منظورة مع التحطيم التكعيبي للنظرة
السائدة للأشياء:
“أجهل كيف يسير الزمن، هذا شيء حقيقي، ولا أعرف أيضاً كيفية ثباته. أحاول الكَفّ عن الابتسام والاستغراب، فكلّما تسير الأرض، تحصل أشياء جديدة، وإن توقّفت؟ إنها تتوقّف أحياناً،
لكي تحدث أشياء جديدة أخرى، ركام من الأحداث ينهال يوماً بعد آخر وإلى ما لا نهاية. ما أعجب هذا كله، يا يونس، أفكّر بأن السبب الرئيس لإصابتنا بالهرم هو هذا التراكم لطبيعتنا
البشرية المحدودة عموماً في عمق واستقامة ذاكرتها المتفاوتة نسبيَّاً، تمتلئ ولا يعود بوسعها أن تحتمل المزيد، إذاً، الخلود هو شيء لا ذاكرة له”.
وفي هذا التحطيم التكعيبي الذي يجري مع تدفّق الرواية يتوازى المكعب بما يمثّل مع داخل شخصية عفاف الحالم بعالم جميل، يصعب تحقيقه في ظلّ الأطماع التي بدأت بوضع عيونها
اللصوصية على البيت التكعيبي. ويفعل التصميم والتحطيم التكعيبي فعله في هذا الداخل مع هجرة عفاف إلى باريس لتحقيق ذاتها، وعيش هذه الذات تحقّقها في المكان الممثل بحيّ
مونمارتر، وما يتضمنه من مرور فنانين عاشوا تحقق وتحطم ذواتهم مثل فان غوخ، وتحقّقها كذلك في الحب مع ناقد الفن كيوم الذي مثل لها مفهوم الإغريق عن إطلاق الذات عارية وشفافة.
ومن ثم تحطّمها عند اصطدامها بعجزها الذي نسجته حبال المجتمع الشمولي بمغزل الذكورية، عن أن تستقل عن الآخر، وتعيشَ ذاتها عندما تركها كيوم الذي يعيش حريته الفردية، رغم
إدراكها لذلك من خلال دراستها الخاصة لأسطورة انتظار بينيلوبي لعوليس السارح بمتعته مع كاليبسو، ووقف حياتها على قدومه، وترجمتها لهذا الإدراك برسم كيوم إلى جانب عوليس.
وختاماً لا تستطيع هذه القراءة تجاوزه إلى ما هو أكثر، فإن “تانكي” عالية ممدوح، روايةٌ مذهلةٌ متراكبة في منظومة السرد وعلاقات الشخصيات، والمكان والزمان، والفنون، والمجتمعات
الشمولية والديمقراطية. وهي رواية لا تقدّم أجوبة بقدر ما هي مفتوحة على الأسئلة التي يواجه بها القارئ نفسه أمام مرآة ذاته التي ستقع في التحطيم التكعيبي للوجوه حين تندفع لرؤية أوجه
الجمال في الكمال وكسر هذا الكمال لانتشاله من الاستنقاع في ذاته وللبحث عن سبل تجديدها.
عالية ممدوح: «التانكي»
منشورات المتوسط، ميلانو 2019
276 صفحة.